تأملات في الآية الكريمة
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 222
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ مارس 2023م
هذا قول الملائكة، أخبروها أنه ليس دعاءً ولا تمنياً، وإنما هو خبر من الله سبحانه وتعالى(1).
أ- وفي قولهم:{قَالَ رَبُّكِ}:
إشارة إلى لطفه سبحانه وتعالى وعطفه على عباده ورحمته بهم، وخليق لمن يكون عنده معاناة من العُقم أو الفقر أو المرض أو الهم والغم والحزن والنكد أن يستشعر مثل هذا الموقف، وكيف خرق الله تعالى النواميس والسنن والعادات ورزقهم الغلام العليم، والتعبير بالرّب مع الضمير يُشعرك باللطف فهو {رَبُّكِ} القريب المجيب الرحيم الذي يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه(2).
ب- {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}:
فهو {الْحَكِيمُ} في خلق هذا الغلام وفي تأخيره، وهو {الْعَلِيمُ} الذي منح هذا الغلام من علمه، فجاء غلاماً عليماً، وهو {الْعَلِيمُ} بالأشياء والأسباب، ولذلك لا يعجزه شيء ولا تخفى عليه خافية(3).
ولأنه قول الله الحكيم العليم، فقد أصبح هذا الشيخ المسنّ، وهذا العجوز العقيم أباً لأجناس ممتدة من البشرية، فالعرب من ذرية ابن إبراهيم إسماعيل، واليهود من ذرية إسحاق عليهما السلام، فإذا بارك الله فلا حدّ لبركته، ورحمته تجري حيث يرى الناس وحيث لا يرون(4).
وقد اقترن اسم الله {الْحَكِيمُ} باسمه {الْعَلِيمُ} في نحو سبعة وثلاثين موضعاً أكثرها بتقديم "العليم" على "الحكيم"، كما ورد في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ]النساء:26[، وفي مواضع أخرى، وهي قليلة ورود تقديم "الحكيم" على "العليم"(5).
ويلاحظ أن المقامات التي يتقدم فيها اسم "العليم" على اسم "الحكيم" منوطة بالعلم أولاً ثم بالحكمة:
- ففي مقام الاعتراف بالعجز وقصور العلم، يقابله - ولا بُدَّ- الإقرار والتسليم للعليم، فإذا كان "العليم" هو "الحكيم"، فذلك هو العلم البالغ حد الكمال، فيكون الاعتراف مصحوباً بغاية الرضا والتسليم، كما في قوله تعالى عن الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ]البقرة:32[.
- في مقام ارتباط الصبر وانتظار الفرج باسم "العليم" ارتباط قوي وثيق، وذلك أنَّ العبد إذا كان عظيم الإيمان، عميق الصّلة بربِّه، واستلبث عليه الفرج، لم يتزعزع يقينه؛ لأنّه معتمد على علم الله - عزّ وجل- في اختيار الزمان الأنسب لما يرجوه من الفرج معوَّل على حكمته في تهيئة الأسباب له؛ ليقع على أحسن ما يكون، كما في قول الله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ]يوسف:100[.
- وأما مقام التشريع وإقرار الحكم، فالأمر فيه راجع إلى العلم الشامل أولاً؛ لأن العلم هو أساس بناء الأحكام، ثم تأتي الحكمة لتنزل الحكم على الواقع، كما في قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ]التحريم:2[(6).
وتقديم اسم "العليم" على الحكيم"؛ لأنَّ مبنى الأحكام على إحاطة العلم أولاً، ثم الحكمة في تنزيل العلم على الواقع بما يحقق الانسجام والتوافق بين الأحكام الشرعية والطبائع البشرية، وذلك ما يُميز الشريعة الإسلامية عن الدساتير والشرائع الوضعية.
وأما تقدم اسمه سبحانه "الحكيم" على اسمه عزّ وجل "العليم"، فيلاحظ في مقامين متعلّقين بسيرة إبراهيم عليه السلام(7)، هما:
- مقام التوحيد كما في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ]الأنعام:83[.
- مقام إجراء المعجزات كما في قوله تعالى: {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ]الذاريات:30[.
وذلك أن مضمون الألوهية في مقام التوحيد قهر وقوة وغلبة، يقابلها من العباد طاعة وعبادة وخضوع، فتقديم الحكمة في هذا المقام - والله أعلم- ليعلم أن ألوهيته - عزّ وجل- السارية على من في السماوات والأرض مسارها الحكمة، ولعلّه لما كان العلم الشامل هو رافد الحكمة وعلى أساسه تنزل الأشياء منازلها، وتوضع الأمور في مواضعها التي بها تستقيم، تبِع اسم "الحكيم" باسم "العليم".
أما مقام إجراء المعجزات فهو كذلك راجع إلى القوة الغالبة والمشيئة الطليقة التي تعلو على سنن الكون ونواميسه، واقتران القوة بالحكمة هو ضمان انتظام الأمور وألا تتحول إلى عبث يفضي إلى اختلال السنن وفساد الكون، فالحكمة هنا لها الصدارة، يليها العلم الذي على أساسه يكون إجراء السنن على ما قُدر لها، أو تعطيلها لحكمة ترجع لعلم "العليم".
يقول ابن قيّم الجوزية عن اقتران اسمه سبحانه "الحكيم" باسمه عزّ وجل "العليم": العلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من القيوميّة والقدرة والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام، والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل، والرّحمة، والإحسان، والجود والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل وإثبات الثواب والعقاب(8). والحكمة أخصُّ من العلم، إذ هي إجراء العلم على نحو خاص، يحقق أسمى الغايات(9).
• اسم الله {الْحَكِيمُ}:
هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ]المائدة:50[، فلا يخلق الله شيئاً عبثاً ولا يشرع سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه وفي قدره وجزائه، والحكمة: وضع الأشياء مواضعها وتنزيلها منازلها(10).
• اسم الله {الْعَلِيمُ}:
وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والإسرار والإعلان وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء(11).
هذا ولما {ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} أحسّ بحدسه أن إتيانهم لم يكن من أجل هذه البشرى فحسب، بل البُشرى أمر عارض، ولذا قال تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ}(12).
مراجع الحلقة الثانية و العشرون بعد المائتين:
(1) إشراقات قرآنية، سلمان العودة، (1/134).
(2) المرجع نفسه، (1/135).
(3) إشراقات قرآنية، سلمان العودة، (1/135).
(4) المرجع نفسه، (1/135).
(5) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص304.
(6) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص304.
(7) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص304.
(8) أسماء الله الحسنى، ابن قيم الجوزية، المكتبة التوفيقية، د.ط، د.ت، ص127.
(9) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص305.
(10) المرجع السابق، ص283.
(11) المرجع نفسه، ص333.
(12) إشراقات قرآنية، سلمان العودة، (1/135
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي