الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الوسائل التي اتَّخذها صلاح الدين للقضاء على المذهب والتراث الفاطمي

الحلقة: السابعة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

ليس من السهل اليسير أن يقتلع مذهب من المذاهب بمجرد تغيير النظام السياسي في بلدٍ ما من البلاد ، إنَّما يحتاج التغيير إلى سنواتٍ عديدة ، وتدابير ليست من تدابير القوة ، والبطش فحسب ، ولذلك فالملاحظ: أنَّ صلاح الدين قد استخدم وسائل ، وأساليب عديدة في سبيل القضاء على الدَّعوة الفاطمية بمصر ، جاءت بعض هذه الأساليب تتَّسم بالشدَّة ، والعنف ، والحسم الفوري المباشر ، والبعض الآخر اتخذ وسيلة الحيلة ، والتدرج ، واستخدم بعضها القوى العسكرية ، في حين نهج البعض الاخر سبيل الدعوة ، والتعليم ، والإقناع ، والاستمالة عن طريق المنشآت الاجتماعية الدينية الخيرية ، وما يوقف عليها من أوقاف للصَّرف عليها. وإليك بعض هذه الوسائل:
1 ـ إذلال الخليفة الفاطمي العاضد:
بدأ صلاح الدين بإذلال شخص الخليفة الفاطمي العاضد ، للقضاء على فكرة «الولاية» التي تبنى عليها جميع النظريات ، والعقائد الإسماعيلية ، ويستمدُّ منها الحكام الفاطميون قداستهم ، فأرغم الخليفة العاضد على الخروج بنفسه لاستقبال والده نجم الدِّين أيوب عند وصوله إلى مصر ، رغم ما جرى عليه العرف ، وحرصت عليه الرُّسوم الفاطمية من استعلاء الخليفة الفاطمي ، واحتجابه عن الناس لعدم ابتذاله بكثرة ظهوره أمام الناس ، ولإكسابه مسحة من القداسة ، والتعظيم ، بل يذكر أبو شامة: أنَّ العاضد قد خرج لتلقيه إلى ظاهر باب الفتوح ، ولم يجر بذلك عادة لهم ، وكان من أعجب يوم شهده الناس ، بل اضطرَّ العاضد إلى مخالفة التقاليد ، والعرف ، وقواعد، ورسوم الدولة ، فمنح صلاح الدين ألقاب وزراء السيوف؛ إذ خلع عليه ، ولقبه الملك الأفضل ، وحمل إليه من القصر الألطاف ، والتحف ، والهدايا ، ثم ما فتئا صلاح الدين يعمل على الاستهانة بالخليفة ، وابتذال مكانته الروحية بين أتباعه ، وأنصار دولته ، فأخذ يستولي على موجوداته ، وممتلكاته الشخصية ، وخيوله ، بحجَّة شدة الحاجة إليها في أمور الجهاد ، حتى أنَّ الخليفة في اخر الأمر عرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن فرسه الخاص؛ الذي لا يملك غيره ، فأجاب صلاح الدين بالاعتذار عن الحاجة ، ولا يخفى: أن هذا الابتذال المتكرِّر المتعمَّد الموجَّه للخليفة على الاعتزال ، وتجنب الظهور في المناسبات العامة؛ حتى ينساه المصريُّون.
2 ـ وضعه من مكانة قصر الخلافة الفاطمي:
عمل صلاح الدين على وضع مكانة قصر الخلافة الفاطمية ، بأن أسكن فيه أمراء دولته الأكراد ، وكان هذا العمل تأكيداً لسقوط الدولة الفاطمية؛ إذ ظلت الدولة الفاطمية تعرف طوال عصور ازدهارها «بالدَّولة القصرية» نسبة لسكن خلفاء الفواطم لقصور عاصمتهم القاهرة ، ففي سنة 566هـ/1170م قبض صلاح الدين على القصور الفاطمية ، وسلمها لمملوكه قراقوش الخادم ، ثم اسكنها لجنوده ، وأهله ، وأسكن أباه بقصر اللؤلؤة على الخليج ، وقد سكن القصور الفاطمية الملك العادل إبَّان نيابته للسلطان بمصر عن أخيه صلاح الدين.
3 ـ قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر ، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي به:
ما لبث صلاح الدين في سنة 567هـ/1171م أن وجَّه للدَّعوة الفاطمية بمصر طعنةً قاتلةً ، كانت كفيلةً ـ ولا ريب ـ بالإجهاز عليها ، وذلك بقطعه للخطبة الجامعة من الجامع الأزهر؛ الذي اتَّخذه الفاطميون جامعة لنشر علوم الدَّعوة الشيعية الإسماعيلية ، وذلك بعد أن قلَّد وظيفة القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس ، فعمل بمقتضى مذهبه ، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلدٍ واحد ، كما هو مذهب الإمام الشافعي ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر ، وأقرَّ الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل: أنه أوسع ، فلم يزل الجامع الأزهر معطَّلاً من إقامة الجمعة فيه مئة عام من ذلك التاريخ إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس ، وأيَّد صلاح الدين هذه الخطوة الجريئة ، بإزالة الشعائر الشيعية ، التي أدخلها الفاطميون إلى مصر ، واستمرَّت بها طول عصر دولتهم، من الأذان ، وإبَّان إقامة الصلوات ، فأبطل من الأذان قول: «حيَّ على خير العمل» واستمرَّ الأذان في مصر على المذهب السني ومنع صلاح الدين ما كان قد تعود عليه المؤذنون في العصر الفاطمي من السلام على الخليفة الفاطمي في الأذان، وأقيمت الخطبة الجامعة بجامع الحاكمي على نحو يأخذ الخطيب فيها مأخذاً سنياً ، يجمع فيه الدُّعاء للصحابة ، رضي الله عنهم ، وللتابعين ، ومن سواهم ، ولأمهَّات المؤمنين زوجات النبي ﷺ ولعميه: حمزة، والعباس، رضي الله عنهما، ويأتي للخطبة لابساً السَّواد على رسم العباسية. وممَّا لا شكَّ فيه: أنَّ قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر ، وما صاحب هذا من تعطيل دراسة مذاهب الشِّيعة بالأزهر؛ الذي ظلَّ طوال العصر الفاطمي أضخم مراكز الدَّعوة الإسماعيلية بمصر في العالم ، ثمَّ تحويل الأزهر إلى جامعة سنية لتدريس علوم السنَّة، وهو ما استمرَّ عليه الحال حتى اليوم ـ مع هجرة علماء أهل السنة للتدريس فيه قد أدَّى إلى نشر علوم السنة بمصر، وفي أغلب أرجاء العالم الإسلامي.
4 ـ إتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية:
عمد صلاح الدين إلى الالات الملوكية الفاطمية ، وكنوز القصر الفاطمي ، فعمل على إفسادها ، وأهدى بعضها إلى نور الدين زنكي ، والبعض الاخر إلى الخليفة العباسي ، ثم طرح باقيها للبيع ، بحيث دام البيع فيها مدَّة عشر سنين ، وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين الواردين ، والصَّادرين. واستولى على كتب الدَّعوة الإسماعيلية؛ التي احتوت عليها مكتبة القصر الفاطمي ، فأحرقها ، وألقاها على جبل المقطَّم ، ثم فرق الكتب غير المذهبية التي صودرت من مكتبة النصر على كبار علماء ، وأنصار دولته ، مثل العماد الأصفهاني ، والقاضي الفاضل ، وأبي شامة الأصفهاني ، مما يؤكِّد: أنَّ هدف صلاح الدين كان إحراق كتب الدعوة الشيعية الرافضية فقط. وفي الحقيقة كانت كتب الدعوة الشيعية الإسماعيلية من أهم وسائل التأثير التي يتَّخذها دعاة الفاطميين للترويج لدعوتهم، وقامت السلطات الأيوبية بإحراق كتب الإسماعيلية ، بحيث لم يتبقَّ من كتب الدعوة الإسماعيلية إلا الكتب التي احتفظ بها أنصار الفاطميين باليمن ، والهند بعد سقوط دولتهم بمصر.
5 ـ إلغاء جميع الأعياد المذهبية للفاطميين:
لم يغب عن فكر صلاح الدين خطورة أثر الأعياد ، والمأتم ، والحسينيات المذهبية للشيعة في الترويج لمذهبهم ، وترسيخ معتقداتهم في نفوس المصريين ، فألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطميين ، ممَّا أدى إلى إنقراضها من مصر منذ ذلك الوقت ، وبدهاءٍ سياسيٍّ ، ومنطلق عقائدي مبني على محاربة البدع الشيعية الرافضية تمَّ القضاء على الأعياد المذهبية المخالفة للكتاب والسنة، واستكمالاً لهذه الخطوة أقدم الأيوبيون على صبغ الأعياد ، والمواسم الدِّينيَّة بمصر بصبغة سنية ، بقيت إلى اليوم.
6 ـ محو رسوم الفاطمية وعملاتهم:
واقترن بمحو الرسوم الفاطمية بمصر إبطال التعامل بالعملات الفاطمية ، خاصَّةً وأنها كانت تحمل نقشي العقيدة الفاطمية المؤيدة لحقهم في الخلافة «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، عليٌّ وليُّ الله» كما أنَّها كانت تحمل أسماء الخلفاء الفاطميين ، وصيغ عقائدية فاطمية ، كما أنَّ بعضها كانت عملات تذكارية تُفَرَّق في المواسم ، والأعياد المذهبية الشيعية على المقرَّبين ، استمالةً لعقيدة الدَّولة.
7 ـ الحفاظ على أفراد البيت الفاطمي:
احتاط السُّلطان صلاح الدين على أهل العاضد ، وأولاده في موضع خارج القصر ، جعله برسمهم على الانفراد ، وقَرَّر لهم ما يكفيهم ، وجعل أمرهم إلى قراقوش الخادم ، وفرَّق بين الرجال ، والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم، فكان من دواعي السياسة ، وطبائع الملك أن يحتفظ الأيوبيون على جميع أفراد البيت الفاطمي ، خشية أن يظهر من دعاتهم مَنْ يجمع حولهم الأتباع ، والمريدين ، والراغبين في إعادة دولتهم.
8 ـ إضعاف العاصمة الفاطمية:
بعد أن نقل الأيوبيُّون مقرَّ الحكم بمصر إلى قلعة الجبل ، التي كانت عملاً عسكرياً بعيد المدى ، يهدف إلى تحصين مصر ضدَّ هجمات الفرنج ، انتهزوا هذه الفرصة لابتذال مدينة القاهرة ، عاصمة الفواطم ، التي ظلَّت طوال مدة دولتهم مدينة ملكية ، خاصَّةً بسكن الخلفاء ، وطوائف العسكر ، ورجال البلاد ، وأرباب الدواوين ، كما كانت في نفس الوقت حصناً عسكرياً بحيث كان أغلب أهل مصر ، يسكنون مدينة الفسطاط. وقد علَّق المقريزي على ابتذال عاصمة الفاطميين بقوله: فصارت القاهرة مدينة سكنى ، بعدما كانت حصناً يعتقل به ، ودار خلافة يلتجأ إليها ، فهانت بعد العزِّ ، وابتذلت بعد الاحترام ، وهذا شأن الملوك ، ما زالوا يطمسون آثار من قبلهم ، ويميتون ذكر أعدائهم؛ولكن ما فعله صلاح الدين في سبيل الله ، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم .
9 ـ إحياء الأيوبيين لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي:
ارتبط بإبادة الأيوبيين لجميع التراث الفاطمي إحياؤهم لقضية انتحال النَّسب الفاطمي إلى البيت النبوي ، وبيان أنَّ الفاطميين ينحدرون من نسلٍ يهوديٍّ ، أو مجوسيٍّ ، والاستمرار في هدم السَّند الشرعي ـ المزيَّف للخلافة الفاطمية ، ولقد قام العلماء المعتمدون بجهودٍ مشكورةٍ في فضحهم ، مثل ابن خلكان ، وابن أبي شامة ، وابن واصل ، وغيرهم ، وأطلقوا على الفاطميين اسم «بني عبيد» غشارة إلى انتسابهم إلى عبيد الله بن ميمون القدَّاح المجوسي ، بل نجد أبو شامة يخبرنا بأنَّه ألف كتاباً منفرداً فيه على زيف نسب الفاطميين ، ولقد خصَّص أبو شامة في كتابه الرَّوضتين صفحات طوال في بيان زيف ادعائهم للنسب النبويِّ الشريف.
10 ـ الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيُّع في الشام واليمن:
هكذا قضى أهل السنة بزعامة نور الدين محمود على الدولة الفاطمية ، وأبادوا تراثها ، وتتبَّعوا أتباعها في مصر ، وانكمش التشيع ، ودخل في طور التخفِّي ، والتَّستُّر ، وبدأ زوال المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر مع استقرار عساكر نور الدين في مصر عام 564هـ/1168م واستمرَّ الأيوبيُّون بقيادة صلاح الدين بمواصلة القضاء على الدَّعوة الإسماعيلية في مصر ، واليمن ، والشام ، واستكملوا ما بدأه الغزنويُّون ، والسلاجقة ، والزنكيُّون في محاربة الدَّعوة الشيعية الإسماعيلية ، ونشر الدعوة السنية في إيران ، والشام ، وظلَّ التشيُّع يضعف في مصر شيئاً ، فشيئاً؛ حتَّى أصبحت تدين بمذهب أهل السُّنَّة ، والجماعة.
والحقيقة: أنَّ التدابير التي اتَّخذها زعماء أهل السنة ، كنور الدين ، وصلاح الدين في محاربة المدِّ الشيعي الرافضي أتت أكلها ، فانفرض من مصر المذهب الشيعي الرافضي بشكل كامل ، وهو فقه عميق ، والأمة في أشد الحاجة إليه ، والدرس الكبير: أنَّ اجتثاب البدع من المجتمعات الإسلامية تحتاج لرؤية شاملة ، ومشروع متكامل بين الإحياء الإسلامي الصحيح ، والتصدِّي للفكر الباطني ، وتربية الأمَّة على انتزاع حقوقها ، ومقاومة الغزاة الصليبيين ، وفيما مضى تحدَّثنا عن بعض وسائل صلاح الدين في القضاء على المذهب ، والتراث الفاطمي العبيدي.
وقد استفاد صلاح الدين ، والأيوبيون من تجارب نور الدين في الإحياء السني ، والتصدِّي للتشيُّع الرافضي ، وإعداد الأمة للمقاومة ، وانتزاع حقوقها من أعدائها ، ولذلك لم يبدأ صلاح الدين من الفراغ ، وإنَّما استفاد من الوسائل النورية ، والتي من أهمَّها: استحداثُ المدارس السنية ، ودور الحديث ، وجَعْلُ القضاءِ على المذهب السُّني، وبسط إشرافه على المدارس ، واستخدام الحسبة لإعادة مذهب أهل السنة ، وتشجيع التصوُّف السني ، ورصد الأوقاف لمؤسسات المجتمع المدني ، ونشر عقائد أهل السنة. وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الدولة الأيوبية. وقد قام الباحث محمد حمدان خالد القيسي بتقديم رسالة لاستكمال المتطلَّبات لدرجة الماجستير في جامعة اليرموك بالأردن حول أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغيُّر واقع المجتمع المصري ، يمكن الاستفادة منها في هذا الموضوع. وفي عام 569هـ/1174م شملت مملكة نور الدين السُّودان ، والحجاز ، واليمن ، فأصبح المشرق الإسلامي كلُّه دولةً واحدةً تأتمر بأمر زعيم واحد ، ينظر بشوق ولهفة إلى الهدف الاستراتيجي الذي سعى لتحقيقه منذ بداية حكمه ، وهو تحرير بلاد الشام من الفرنجة المحتلِّين.
وقد أصبح هذا الهدف يلوح في الأفق ، فأمر بصنع منبرٍ فخم للمسجد الأقصى لكي يأخذه معه عندما يتوجَّه لفتح القدس، وكتب إلى صلاح الدين يأمره بالمسير على راس جيش مصر؛ ليلقاه على قلعة الكرك الفرنجيَّة. سار صلاح الدِّين كما أمره نور الدين ، وحاصر قلعة الشُّوبك «جنوب الكرك» فلمَّا علم نور الدين بذلك؛ خرج من دمشق نحو الجنوب ليلقى صلاح الدين ، ولكنَّه تلَّقى رسالةً منه قبل وصوله إليه ، يبلغه فيها: أنَّ الأمور اضطربت بمصر ، وأنه يخشى استيلاء المعارضين على الأمور فيها ، ولا بدَّ له من العودة إليها لضبط الأمور ، وأنه سيعود في العام القادم للجهاد مع نور الدين. وكان نور الدين مهتماً اهتماماً بقلع الكفار من بلاد الشام ، وعندما وصله شيءٌ من ذخائر قصور الفاطميين ، وغرائب المصنوعات من الذَّهب ، واللؤلؤ: قال: والله ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال ، ولا نسدُ به خلَّة الإقلال ـ فهو صلاح الدين ـ يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في مصر وبنا إلى الذهب فقر.. ولكنه يعلم أنَّ: ثغور الشام مفتقرةٌ إلى الإمداد بالمال ، والرِّجال ، والمعونة لقلع الكفار من بلاد الشام. أي: إنه لا يريد من المال ، والرجال إلا قلع الكفار من سواحل البلاد. وأما صلاح الدين؛ فقد كان يتَّفق مع نور الدين في الأهداف الاستراتيجية إلا أنَّه خاف من اضطراب مصر ، فكان يهمُّه ترتيب شؤون مصر أولاً ، وصرف همَّه لهذا ، ولذلك اضطر للرجوع.
ويبدو أنَّ نور الدين فكَّر بدخول مصر بجيوشه والالتفاف على الصليبيين منها بقيادته ، وأحسَّ صلاح الدين بنية نور الدين ، فجمع أهله في مصر ، وكان من بينهم أبوه نجم الدين ، وخاله شهاب الدين الحارمي ، وبعض قادة الجيش ، وشاورهم فيما سمعه عن نيَّة نور الدين التوجه لمصر ، وعزله عنها ، فأشار عليه أحد أبناء إخوته ـ ويدعى: عمر ـ بأن يتمَّ الاستعداد لمقاتلة نور الدين إذا حضر لمصر ،و وافقه بعض الحاضرين على رأيه ، فبادر نجم الدين والد صلاح إلى زجرهم ، واستنكار قولهم ، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك ، وهذا خالك شهاب الدين ، ونحن أكثر محبَّةً لك من جميع مَنْ ترى ، ووالله لو رأيتُ أنا وخالُك هذا نورَ الدِّين لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه ، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسَّيف؛ لفعلنا ، فإذا كنَّا نحن هكذا ، فما ظنُّك بغيرنا ، وكلُّ من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحدَه لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم ، وهذه البلاد له ، ونحن ممالكيه ، ونوابه فيها ، فإن أراد عزلك؛ سمعنا ، وأطعنا ، والرأي أن تكتب كتاباً مع نجاب تقول فيه: «بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد ، فأيُّ حاجة إلى هذا ، يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ، ويأخذني إليك ، وما ها هنا من يمتنع عليك. وقال للجماعة كلِّهم: قومُوا عنَّا ، فنحن مماليك نور الدين ، وعبيده ، ويفعل بنا ما يريد! فتفرَّقوا على هذا ، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر.
ولما خلا نجم الدِّين أيوب بابنه صلاح الدين؛ قال له: أنت جاهل قليل المعرفة ، تجمع هذا الجمع الكثير ، وتُطلعهم على ما في نفسك ، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد؛ جعلك أهمَّ الأمور إليه ، وأولاها بالقصد، ولو قصدك؛ لم تَر معك من هذا المعسكر أحداً ، وكانوا أسلموك إليه. وأما الان بعد هذا المجلس ، فسيكتبون إليه، ويعرِّفونه قولي ، وتكتب أنت إليه ، وترسل في هذا المعنى ، وتقول: أيُّ حاجة إلى قصدي؟ يجيء نجاب يأخذني بحبلٍ يضعه في عنقي ، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك ، واشتغل بما هو أهمُّ عنده. وكان نجم الدين أيوب شديد الحبِّ ، والولاء ، والطاعة لنور الدين زنكي. ففعل صلاح الدين ما أشار به والده. فلَّما رأى نور الدين ـ رحمه الله تعالى ـ الأمر هكذا عدل عن قصده. وكان الأمر كما قال نجم الدين.
وفي بداية عام 568/1173م وبعد عودة نور الدين من أذربيجان ، وأرمينية تسلَّم منشوراً من الخليفة بالموصل ، والجزيرة ، وإربل ، وخلاط ، والشام ، وبلاد قلج أرسلان ، وديار مصر. وفي شهر شوال من نفس العام خرج صلاح الدين بجيشه إلى الكرك ، وحاصرها ، وأعلم نور الدين بخروجه تنفيذاً لما تمَّ الاتفاق عليه في العام السابق ، فخرج نور الدين من دمشق بدوره ليلقاه ، فلَّما وصل إلى الرَّقيم (في وسط الأردن) تلَّقى رسالةً من صلاح الدين يبلغه فيها أنَّ والده بمصر مريض ، ويخشى عليه الموت ، فيستغل المصريُّون الفرصة ، ويستولوا على البلاد ، ويمتنعوا فيها ، وأنه مضطرٌ للرَّحيل إلى مصر. وعندما علم نور الدين بذلك قال: إنَّ حفظ مصر أهمُّ عندنا من غيره ، ثم لم تلبث أن جاءت الحوادث مصدقة لمخاوف صلاح الدين ، فقامت عليه ثورة كبيرةٌ بقيادة مؤتمن الخلافة جوهر ، كما قامت بعدها مؤامرةٌ ضخمة شارك فيها عمارة اليمن ، وبقية أنصار المذهب الشيعي الرافضي ، وقد بينت ذلك فيما مضى ، وفي عام 568هـ شن نور الدين الغارات على الصَّليبيين ، وكان العماد الأصفهاني راكباً مع الملك العادل ، وهو يقول له كيف تصف ما جرى؟ فمدحه بقصيدة: وكان ذلك في دفاع نور الدين عن حوران ، فقال:
عُقِدت بنصرك رايةُ الإيمان
يا غالب الغُلْبِ الملوك وصائدَ
يا سالبَ التِّيجان مِنْ أربابها
محمود المحمود ما بين الورى
يا واحداً في الفضل غير مُشَارَكٍ
أحلى أمانيك الجهاد وإنَّه
كم بكرِ فتحٍ ولَّدَتْه ظُباك مِنْ
كم وقعةٍ لك بالفرنج حديثُها
قَمَّصت قُومَهُمُ رداءً من ردىً
وملكت رِقَّ ملوكهم وتركتهم
وجعلت في أعناقهم أغلاَلهم
إذ في السَّوابغ تُحطِّمُ السُّمرُ القنا
وعلى غِنَاءِ المشرفيَّة في الطُّلى
وكأنَّ بين النَّقع لَمْعَ حديدها
في مأزق وردُ الوريد مُكَفَّلٌ
غطَّى العجاجُ به نجوم سمائه
أَوَمَا كَفاهُم ذاَك حتَّى عاودوا
وبَدَت بِعَصْرِكَ ايةُ الإحسان
الصِّيد اللُّيوث وفارسَ الفُرسان
حُزْتَ الفخار على ذوي التِّيجان
في كلِّ إقليمٍ بكلِّ لسان
أقسمتُ مالك في البسيطة ثان
لك مؤذِنٌ أبداً بكلِّ أمان
حَرْبٍ لقمع المشركين عَوان
قَدْ سار في الافاق والبُّلدان
وقرنت رأي برنسهم بسنان
بالذُّل في الأقياد والأسجان
وسحبتهم هوناً على الأذقان
والبيض تُخضَبُ بالنَّجيع القاني
والهام رَقصُ عواليَ المُرَّان
نارٌ تألَّقُ من خلال دُخان
فيه بِريِّ الصَّارم الظمان
لتنوب عنها أنجُمُ الخُرصان
طُرُق الضَّلال ومَرْكَبَ الطُّغيان

ومنها:
وجلوتَ نورَ الدِّين ظُلمةَ كُفرِهم
وهزمتهم بالَّرأي قبل لقائهم
أصبحت للإسلام ركناً ثابتاً
قَوَّصت أساس الضَّلاَل بعزمك
قل أين مثلُك في الملوك مجاهدٌ
لم تَلْقَهم ثقةً بقوَّة شوكةٍ
ما زال عَزمُك مستقلاً بالذي
وبلغت بالتَّأييد أقصى مَبْلَغ
دانت لك الدُّنيا فقاصيها إذا
فمن العراق إلى الشَّام إلى ذُرا
لمَّا أَتيتَ بواضح البُرهان
والرأيُ قبل شجاعة الشُّجعان
والكُفْرُ منك مضعضع الأركان
الماضي وَشِدْتَ مبانيَ الإِيمان
لله في سرِّ وفي إعلان
لكن وثِقت بِنُصرة الرَّحمنِ
لا يَستَقِلُّ بثقله الثَّقلان
ما كان في وسُعٍ ولا إمكان
حقَّقته لنفاذ أمرك داني
مصر إلى قُوص إلى أَسوان

لم تَلْهُ عن باقي البلاد وإنَّما
للرُّوم والإفرنج منك مصائبٌ
أذعنت لله المهيمن إذْ عَنَتْ
أنت الذي دونَ الملوكِ وجدْتُه
في بأس عمرٍو في بسالة حيدر
سرٌ لو أنَّ الوحي يَنْزل أَنْزلت
فاسلم طويلَ العُمْر ممتدَّ المدى
ألهاك فرضُ الغزو عن هَمَذان
بالتُّرك والأكراد والعربان
لك أوجه الأملاك بالإذعان
مَلانَ مِنْ عُرْفِ ومِنْ عِرْفان
في نطق قُسِّ في تُقَى سلمان
في شأنها سُوَرٌ من القران
صافي الحياة مُخَلَّدَ السُّلطان

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022