الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
إلغاء الخلافة الفاطمية العبيدية

الحلقة: الخامسة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

تعتبر هذه الخطوة من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين ، فقد كان نور الدين حريصاً كلَّ الحرص على إنهائها ـ فكتب إلى نائبه صلاح الدين يأمره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء ـ فاعتذر صلاح الدين ، بالخوف من قيام أهل مصر ضدَّه لميلهم إلى الفاطميين ، وبأنَّه لم يتهيَّأ لذلك بعد ، إلا أن نور الدين أرسل إلى نائبه: يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه. وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر ، فأحضر الملك العادل نجم الدين أيوب ، وحمَّـله رسالةً فيها: وهذا أمرٌ تجب المبادرة إليه، لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة، والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت، وحضور الفوت؛ لا سيَّما وإمام الوقت ـ المستنجد ـ متطلِّعٌ إلى ذلك بكلِّيته، وهو عنده من أهمِّ أمنيته. وكان صلاح الدين متهيباً متردِّداً في إسقاط تلك الخلافـة، حيث إنَّ ميراث العبيـدين في مصر كان عمره أكثر من مئتي سنة، وكان نور الدين يعتبر: أنَّ فتح مصر نعمةٌ من نعم الله عليه، وعلى المسلمين من أجل توحيد البلاد على منهـج أهل السنة، وإزالة البـدع ، والرفض. وكان نور الدين متفهِّماً لظروف صلاح الدين، وكان يخاطبـه بالأمير (أسفهلار) ولو أراد لأرسل خطـاباً بعزله عن مصر ، وتوليته قطراً اخر ، وهذا ما صرَّح به نجم الدين لولده صلاح الدين في مصر: إن أراد عزلك... يأمر بكتاب مع نجَّاب حتى تقصد خدمته، ويولي بلاده مَنْ يريد. ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر ، ويقول فيه: تصل أنت ، وولدك حتى أسيِّركم إلى مصر ، وذلك بموافقة صاحبي ، واتفاقٍ منه ، صلاح الدين ، وفقه الله ، فأنا شاكر له كثيراً كثيراً كثيراً، جزاه الله خيراً، وأبقاه، ففي بقاء الصالحين، والأخيار صلاح عظيم. فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل ، وتقدير عظيم. وسيأتي الحديث عن العلاقة بينهما بإذن الله ، والردِّ على الكتَّاب الذين تلقَّوا روايات ابن أبي طيىء الشيعي؛ الذي حرص على تشويه ، وتلطيخ العلاقة بين الرَّجلين ، والطَّعن في سيرتهما كلَّما أمكنه ذلك.
1ـ التدرُّج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي:
استفاد صلاح الدين من الرجل الفذ الكبير القاضي الفاضل ، فقد ساعده على إحكام خطةٍ مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية ، والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي ، وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدَّقةٍ متناهية ، وبعد أن هيَّأ صلاح الدين المصريين للانقلاب ، وقلَّم أظفار المؤسسة الفاطمية عزل قضاة الشيعة ، وألغى مجالس الدَّعوة ، وأزال أصول المذهب الشيعي ، ففي سنة 565هـ/1169م أبطل الأذان بحيَّ على خير العمل ، محمدٌ ، وعليٌّ خير البشر. ويعلق المقريزي بأنَّ هذه أول وصمةٍ دخلت على الدَّولة. ثمَّ أمر بعد ذلك ، في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565هـ/1169 ـ 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان ، ثمَّ علي، وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشِّيعة ، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلح العاضد لدينك. وولَّى القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني، فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد، وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية، وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد، فيلغي مخصَّصاته، ويحرمه من المال ، والخيل ، والرَّقيق ، ويمنع رسوم الخلافة ، وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد ، وغيرها ، ويحتجز الخليفة في قصره ، فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة ، منها: خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة ، وعمد إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش ، فأخذ يحدُّ من نفوذهم شيئاً ، فشيئاً ، ثم قبض عليهم في ليلةٍ واحدةٍ ، وأنزل أصحابه في دورهم ، وفرَّق إقطاعاتهم عليهم.
وكان العاضد يتابع ذلك كلَّه بقلبٍ حزين ، ونفسٍ كئيبة ، وقد خابت الآمال؛ التي عقدها على صلاح الدين ، وانزوى في مخدعه فريسةً للهَمِّ ، والمرض. وأدرك صلاح الدين: أن الفرصة باتت مؤاتيه للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة ، فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه ، وقواده ، وفقهاء السُّنة ، ومتصوفوها ، وسألهم الرأي ، والنصيحة ، وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد. وفي بداية سنة 567هـ/1171 ـ 1172م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ، وكان قطعها بالتدريج أيضاً ، ففي الجمعة الأولى من محرم 567هـ/1171 ـ 1172م حذف اسم العاضد من الخطبة ، وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله ، وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله ، فانقطعت ، ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية.
والملاحظ: أنَّ الخطبة للعباسيين قد تمَّت بالإسكندرية قبل القاهرة ، ومصر بنحو أسبوعين ، وذلك لأنها ظلَّت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567هـ/1171 ـ 1172م. ويقال: إن صلاح الدين حين علم بوفاة العاضد الفاطمي بعد أيام ندم على أنه تعجَّل في قطع خطبته ، وقال: لو عرفنا: أنَّه (أي الخليفة العاضد) يموت في هذا اليوم ما غَصَصْناه برفع اسمه من الخطبة ، فضحك القاضي الفاضل وردَّ عليه قائلاً: يا مولاي لو علم: أنَّم ما ترفعون اسمه من الخطبة؛ لم يمت. فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين ، وكاتبه ، ومستشاره؛ التي انطوت فيها اخر صفحة من صفحات تاريخ الدَّولة الفاطمية العبيدية.
2 ـ وفاة العاضد عام 567هـ:
قال ابن كثير: والعاضد في اللُّغة: القاطع ، ومنه: لا يعضد شجرها. فيه قطعت دولتهم ، واسمه عبد الله ، ويكنى بأبي محمَّد بن يوسف الحافظ بن محمَّد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أوَّل ملوكهم. وكان مولد العاضد في سنة سِتٍّ وأربعين ، فعاش إحدى وعشرين سنة ، وكانت سيرته مذمومةً ، وكان شيعياً خبيثاً ، لو أمكنه قتل كلِّ مَنْ قدر عليه من أهل السُّنة؛ لفعل.
3 ـ فَرَحُ المسلمين بزوال الدولة الفاطمية:
ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام؛ أرسل إلى الخليفة العباسي يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون ، فزينت بغداد ، وغلقت الأبواب ، وعُملت القباب ، وفرح المسلمون فرحاً شديد ، وكانت الخطبة قد قُطِعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمئة في خلافة المطيع العباسيِّ حين تغلب الفاطميُّون عليها أيام المعزِّ الفاطمي ، باني القاهرة إلى هذا الأوانِ ، وذلك مئتا سنة ، وثماني سنين. وقد تفاعل الشعراء مع هذا الحدث المدوِّي في أرجاء الدنيا ، فقد قال العماد الأصفهاني:
توفي العاضد الدَّعيُّ فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا
قد طُفئت جمرةُ الغواةِ وقد
وصار شملُ الصَّلاح ملتئما
لمَّا غدا مشعراً شعار بني
وبات داعي التوحيد منتظراً
وظل أهل الضَّلال في ظلل
وارتبك الجاهلون في ظُلمٍ
وعاد بالمستضيء ممتهداً
واعتلَّت الدَّولة التي اضطهدن
واهتزَّ عطف الإسلام من جَدَلٍ
واستبشرت أوجه الهُدى فرحاً
عاد حريمُ الأعداءِ منتهكُ
أزعج بعد السُّكون ساكنها
يفتح ذو بدعةٍ بمصر فما
يوسفُها في الأمورِ محتكما
داخ من الشِّرك كلُّ ما اضطرما
بها وعقد السَّداد منتظماً
العبَّاس حقَّا والباطل اكتتما
ومن دعاة الإشراك منتقماً
داحيةٍ من غيابةٍ وعَمَى
لمَّا أضاءت نابرُ العُلما
بناء حقِّ قد كان مُنهَدِما
وانتصر الدِّين بعدما اهتُضما
وافترَّ ثغر الإيمان وابتسما
فليقرعِ الكُفُر سِنَّهُ نَدَما
الحمى وفيءُ الطُّغاة مُقْتَسَما
ومات ذُلاًّ وأنفه رَغِمَا

إنَّ نور الدين محمود كان يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النَّصراني ، والنفوذ الباطني في بلاد الشام ، ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصَّحيح ، فوضع الخطط الَّلازمة ، وأعدَّ الجيوَّش المطلوبة ،وعيَّن الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة ، فتمَّم الله له ما أراد على يدي جنديَّهِ ِالمخلص ، وقائده الامين صلاح الدين؛ الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة ، وحقَّ للأمة الإسلامية ، وزعمائها أن تفرح بهذه البشرى الكبيرة من إزالة دولة الباطنيين.
4 ـ اعتبارٌ واتِّعاظ من زوال الفاطميين من مصر:
كانت مدَّة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً ، فصاروا ، كأمس الذَّاهب وكأن لم يَغْنَوا فيها ، وكان أوَّلَ مَنْ ملك منهم المهديُّ ، وكان من أهل سَلَمِيَّة حدَّاداً اسمه سعيد ، وكان يهودياً ، فدخل بلاد المغرب ، وتسمَّى بعبيد الله ، وأدَّعى: أنَّه شريف عَلوِيُّ فاطميُّ ، وقال: إنَّه المهديُ ، وقد ذكر هذا غيرُ واحدٍ من سادات العلماء الكُبراء ، كالقاضي أبي بكر الباقلاَّني ، والشيخ أبي حامد الإسفرايينِّي ، وغير واحدٍ من سادات الأئمَّة.... والمقصود: أنَّ هذا الدَّعِيَّ الكذَّاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ، ووازرَهَ جماعة من جهلة العُبّاد ، وصارت له دولة ، وصولة ، فتمكَّن إلى أن بنى مدينة سمّاها المهدية نسبة إليه ، وصار مَلِكاً مطاعاً يظهر الرَّفض ، وينطوي على الكفر المحض ، ثم كان من بعده ابنه القائم ، ثم المنصور ، ثم المعز ـ وهو أوَّل من دخل مصر منهم ، وبنيت له القاهرة ـ ثم العزيز ، ثم الحاكم ، ثم الظاهر ، ثم المستنصر ، ثم المستعلي ، ثم الآمر ، ثم الحافظ ، ثم الظافر ، ثم الفائز ، ثم العاضد ، وهو اخرهم ، فجملتهم أربعة عشر مَلِكاً ، ومدَّتهم مئتان ونيِّف وتسعين سنة.
وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء ، وأكثرهم مالاً ، وأجبرهم ، وأظلمهم ، وأنجس الملوك سيرةً ، وأخبثهم سريرةً ؛ ظهرت في دولتهم البدع ، والمنكرات ، وكثر أهل الفساد ، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء ، والعبَّاد ، وكثر بأرض الشام الحشيشية ، وتغلَّب الفرنج على سواحل الشام بكامله ، حتى أخذوا القدس الشريف ، ونابلس، وعجلون ، والغَوْرَ ، وبلاد غَزَّةَ ، وعسقلان ، وكَرك الشَّوبك ، وطبرية ، وبانياس، وصور ، وعثليت ، وصيدا ، وبيروت ، وعكَّا ، وصَفَدَ ، وطرابلس ، وأنطاكية ، وجميع ما وَالَي ذلك إلى بلاد إياس ، وسيس ، واستحوذوا على بلاد امد ، والرُّها ، ورأس العين ، وبلاد شَتَّى ، وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله ، وسَبَوا من ذراري المسلمين من النِّساء ، والولدان مالا يُحَدُّ ، ولا يوصَفُ ، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ، ولكن صانها الله بعنايته ، وسلَّمها برعايته ، وحين زالت أيامهم ، وانتقض إبرامهم؛ أعاد الله هذه البلاد كُلَّها على أهلها من السادة المسلمين ، وردَّ الله الكفرة خائبين ، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا ، ويوم الدين.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022