الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
القضاء على محاولة انقلابية لإعادة الدَّولة الفاطمية

الحلقة: السادسة و العشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

كانت الدولة والمجتمع في مصر في ذلك الوقت في فترة التحوُّل الكبرى في تاريخها من خلافة ، ونظم، ومؤسسات ، ورجال حكموا البلاد قرنين من الزمان ، وأثَّروا في كل جانب مجتمعها إلى حكمٍ جديدٍ ، ودولة جديدةٍ ، لها نظمها ، ومؤسَّساتُها ، ورجالها والتي بدأت بإجراء التغيير بالتَّدريج ، وحاول صلاح الدين اكتساب عامة الناس إلى جانبه ، ونجح إلى درجةٍ كبيرة ، لكنَّ بعض مفكري الدَّولة الفاطميَّة ، ورجالها ، وبعض الجماعات؛ التي فقدت نفوذها ، وامتيازها ظلَّت على ولائها لما كانت تمثِّله الدَّولة السابقة من أفكار ، وامتيازات ، فعملت تلك القوى الموالية للفاطميين من جنودٍ ، وأمراء ، وكتَّاب ، وموظفي دواوين ، ومن عائلات الوزراء السَّابقين ، مثل بني رزيك ، وبني شاور ، راحوا يخطِّطون للقضاء على حكم صلاح الدين ، وإعادة الدَّولة الفاطمية. وقد وصفهم عماد الدِّين الأصفهاني بقوله: واجتمع جماعةٌ من دعاة الدولة المتعصِّبة المتشدِّدة المتصلِّبة ، وتوازروا ، وتزاوروا فيما بينهم خفيةً ، وخيفةً ، واعتقدوا أمنيةً عادت بالعقبى عليهم منيَّةً ، وعيَّنوا الخليفة ، والوزير ، وأحكموا الرأي ، والتدبير ، وبيتوا أمرهم بليل ، وستروا عليه بذيل.
ويبدو: أنَّ مؤامراتهم كانت في غاية التنظيم؛ إذ عينوا خليفة ، و وزيراً ، ثم كاتبوا الفرنج أكثر من مرَّةٍ يدعونهم في إحداها إلى الهجوم على مصر في وقتٍ كان صلاح الدين غائباً في الكرك ، والتفَّ هؤلاء حول عمارة اليمني ، الفقيه ، والأديب السُّنِّي المذهب ، الفاطمي الولاء؛ الذي تولى مهمَّة المراسلة مع الفرنج ، وظنَّ المتامرون: أنَّ سِرِّيتهم التامة ستقودهم إلى النَّجاح ، ولكنَّهم لم يعلموا: أن القاضي الفاضل عن طريق ديوان الإنشاء كان يراقبهم مراقبةً تامَّةً ، حتى تحين الفرصة المواتية لكشف سرِّهم.
وتذكر المصادر في كشف مؤامراتهم قصتين تختلفان بعض الاختلاف في التفصيلات ، أولاهما: أنَّ أحد الكتاب في الديوان وهو عبد الصَّمد الكاتب ، كان يلقى الفاضل بخضوع زائد ، يخدمه ، ويتقرَّب إليه ، ويبالغ في التواضع إليه ، فلقيه يوماً ، فلم يلتفت إليه ، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسببٍ ، وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدِّين ، فأحضر ابن نجا الواعظ ، وأخبره الحال ، وطلب منه كشف الأمر ، فلم يجد من جانب صلاح الدين؛ شيئاً ، فقصد الجانب الاخر ، فكشف الحال إليه ، فأرسله القاضي الفاضل إلى صلاح الدين ، وقال له: تحضر الساعة عند صلاح الدين ، وتنهي الحال إليه ، فحضر عند صلاح الدين ، وهو في الجامع ، وذكر الحال ، عندئذ استدعاهم صلاح الدين ، وقرَّرهم ، فأقرُّوا بمؤامرتهم ، فاعتقلهم ، ثم أمر بصلبهم.
وتشير الرواية الثانية إلى أن المتآمرين أدخلوا الواعظ زين الدين بن نجا بينهم ، فتظاهر بمساندته لهم في البداية ، ثم أعلم صلاح الدين بأمرهم ، وطلب منه أن يعطيه ما لابن كامل من أملاك ، فوافق ، وأمر ، بمخالطتهم ، وتعريف شأنهم ، فصار يعلمه بما يجدُّ من أمرهم ، ثم وصل رسول من الفرنج إلى صلاح الدين بهديةٍ ، ورسالةٍ ظاهرية ، وبرسالةٍ باطنيةٍ للمتآمرين ، فوصل خبره إلى صلاح الدين.
وقد اشار القاضي الفاضل بنفسه إلى تفصيلات هذه المؤامرة في رسالةٍ كتبها عن صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق ، تنمُّ عن اطِّلاعه الدقيق على المؤامرة ، بل اشتراكه في إحباطها ، فلعلَّه هو الذي دسَّ من أعلمه بتفصيلات المؤامرة ، كما يشير في رسالته إلى عيون ديوان الإنشاء المصري من الفرنج ، واخرين بينهم على اتصال بالديوان. وجاء في الكتاب الذي كُتب بقلم القاضي الفاضل من صلاح الدين إلى نور الدين بعدما َتَمَّتِ التحقيقات التي أجراها صلاح الدين ، ويخصُّ الكاتب بتركيز ، وشمول بداياتِ المؤامرة ، وتطوراتها ، وكيفيَّة كشفها ، صلب رؤوس المتآمرين أمام بيوتهم:
1 ـ إنَّ صلاح الدين كان لا يزال بعد قضائه على الخلافة الفاطمية يعتبر جند مصر... وأهل القصر الفاطمي أعداء لدولته ، وضدَّ وجوده ، ويتوقع منهم القيام بعملٍ ضِدَّه ، ولذلك فقد كان متحرزاً منهم ، ووضع عليهم من عيونه ، ورجاله الموثوقين مَنْ يراقبهم باستمرارٍ ، ومع ذلك فقد استمرَّ عملهم سرياً بمختلف الوسائل التي كانت متاحةً لهم.
2 ـ وأنَّهم كانوا من إعلان الخطبة العبَّاسية وحتى القبض عليهم لا يمرُّ عليهم شهرٌ ، ولا سنةٌ؛ إلا وهم يُدَبِّرون المكائد ، ويعقدون الاجتماعات ، ويبعثون الرُّسل إلى الصليبيين لموافقتهم على ما يريدون. وكان أكثر ما يتعللَّون به ، ويستريحون إليه المكاتبات المتواترة ، والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج ، يوسِّعون لهم فيها سُبُل المطامع.. ويزيِّنون لهم الإقدام ، والقدوم. لكن الفرنج لم يستجيبوا بدايةً؛ لخوفهم من صلاح الدين ، وفي ذات الوقت يؤملونهم بالمساعدة في الوقت المناسب.
3 ـ ووصل الأمر إلى أنَّهم كاتبوا ملك الصليبيين عندما قام صلاح الدين بحملته الثانية على بلاد الكرك ، والشوبك في قسم كبير من قوَّاته ، يطلبون منه القيام بالدَّور المتَّفق عليه ، وقالوا في كتبهم: إنَّه بعيد ، والفرصة قد أمكنت ، فإذا تقدَّم عموري بقواته إلى صُوْر ، أو أيلة ، فإنه سيقطع الطريق على صلاح الدين ، ويمنعه من العودة وعند ذلك تثور في القاهرة «حاشية القصر، وكافة الجند الفاطمي السابق في مصر» وطائفة السُّودان ، وجموع الأرمن ، وعامَّة الإسماعيلية ، وتفتك بأهل صلاح الدين، ومعاونيه، ورجال دولته في العاصمة. لكّن يقظة صلاح الدين ، والتكتيكات ، والمناورات التي قام بها أربكت عمُّوري الذي كان يحاول جاهداً معرفة حركات صلاح الدين في النَّقب جنوبي الأردن ، وجمَّدته عند مياه الكرمل في جبال الجليل؛ لخوفه من أن يستغلَّ صلاح الدين فرصة حركة الملك الخاطئة ، فيتوجَّه إلى المناطق غربي نهر الأردن ، والبحر الميت.
4 ـ ولم ييأس المتآمرون: فعندما وصل المدعو جرْج (جورج أو جورجيوس) ـ كاتب الملك عمُّوري ـ إلى القاهرة في مراسلة إلى صلاح الدين (ويبدو أنَّ الرسائل كانت متصلةً في أوقات السلم) اتصلوا به ، وأرسلوا معه كتاباً إلى الملك عمُّوري: أنَّ العساكر متباعدةً في نواحي إقطاعاتهم ، وعلى قرب من موسم غَّلاتهم ، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم ، وإذا بعثت أسطولاً إلى بعض الثغور؛ أنهض فلاناً من عنده ، وبقي صلاح الدين في البلد وحدَه ، ففعلنا ما تقدَّم ذكره في الثورة. وهذا دليلٌ اخر على محاولة استغلالهم لكلِّ الظروف المناسبة ، ذلك أنَّ وقت جمع الغلاَّت من الحقول هو الوقت الذي يذهب فيه الأمراء المقطعين ، وأجنادهم إلى إقطاعاتهم؛ لأخذ حصَّتهم من الناتج ، وتوزيعه. وهذه كانت حالةً عاديةً معروفةً في تاريخ المنطقة في العصور الوسطى.
5 ـ إنَّ الملك عموري كان كلَّما أراد التعرُّف على الأوضاع في مصر ، والاتصال بالمتامرين ، والتفاوض معهم ، كان يبعث بـ «جرج» رسولاً إلى صلاح الدين: ظاهراً إلينا ، وباطناً إليهم ، عارضاً علينا الجميل الذي ما قبلته قطُّ أنفسنا ، وعاقداً معهم القبيح الذي يشتمل عليه علمنا ، ولأهل القصر والمصريين «الجند» في أثناء هذه المُدَد رسُل تتردَّد ، وكتب إلى الفرنج تتجدَّد.
6 ـ كانت سياسة صلاح الدين أثناء هذه الفترة إذا شكَّ أعوانه بأحدٍ من الجماعات المذكورة ، وقاموا باعتقاله، ولم يتمكَّنوا من إثبات التهمة ضدَّه؛ أطلق سراحهم ، وخَلَّى سبيلهم ، فلا يزيدهم العفو إلا ضراوةً ، ولا الرِّقَّة عليهم إلا قساوةً.
7 ـ واتصل المتامرون في ذات الوقت «بشيخ الجبل» سنان، زعيم الإسماعيلية النزارية في بلاد الشام طالبين مساعدته محتجِّين بأنَّ الدَّعوة واحدةٌ ، والكلمة جامعةٌ ، وأنَّ ما بين أهلها خلاف إلا فيما يفترق به كلمة ، ولا يجب به قعودٌ عن نُصرة. وطلبوا منه بصورةٍ خاصَّة اغتيال «الملوك» كما كانت عادتهم ، أو نصب المكائد لهم ، وكان الرَّسول إليهم خال ابن قرجلة ، أحد رجال الدولة الفاطمية السابقين ، ويبدو أنَّ الاثنين كانوا عند صاحب الجبل عند اكتشاف المؤامرة ، فالتجؤوا إلى الصليبيين.
8 ـ ولا نعرف إذا كان المتامرون اتَّصلوا بملك صقليَّة لإرسال الأسطول مباشرةً ، أم عن طريق ملك الصليبيين ، لكنَّ الأسطول قدم بعد فشل المؤامرة إلى الإسكندرية ، وكان مكوناً من 200 سفينة ، ويحمل أعداداً كبيرة من الخيالة ، والرجالة ، فَمُنِيَ َبخسائر كبيرةٍ خاصَّةً وأنَّ الملك عمُّوري لم يتقدَّم في البرِّ كما كان الاتفاق بسبب القضاء على المتامرين بحزم.
9 ـ وفي المرَّة الأخيرة التي قدم فيها «جِرْج» برسالة إلى ديوان صلاح الدين؛ وصل كتاب إلى الديوان ممن لا نرتاب به من قومه «الصَّليبيون» يذكرون: أنَّه رسول مخاتلة «خدَّاع» لا رسول «مجاملة» فاتخذ رجال صلاح الدين الاحتياطات المناسبة لمراقبته دون أن يشعر ، ولم يظهروا له أيَّ شكٍّ ّْفيه ، وقام «جرج» بالاتصال بجماعة القصر الفاطمي ، ومدبري المؤامرة ، وأمراء الجند الفاطمي السَّابقين ، وجماعة من النصارى ، واليهود. عند ذلك توصل رجال دولة صلاح الدين إلى إدخال أحد العيون إليهم من جماعتهم: فَدَسَسْنا إليهم من طائفتهم مِنْ داخلهم ، فصار ينقل إلينا أخبارهم ، ويرفعُ إلينا أحوالهم.
10 ـ وبدأت تنتشر الإشاعات ، والأقاويل بين الناس حول المؤامرة ، وخاف رجال دولة صلاح الدين من انكشاف الأمر ، وهرب رؤساء الفتنة ، فقرَّروا اعتقالهم ، ثم أحضروا واحداً واحداً أمام صلاح الدين: وقَرَّرَهم على هذه الحالة ، فأقرُّوا ، واعترفوا ، واعتذروا بكونهم قُطعت أرزاقهم ، وأخذت أموالهم.
11 ـ تبين من التحقيقات ، والإقرارات: أنَّهم عَيَّنوا خليفةً ، ووزيراً ، وأنَّه وقع خلاف بينهم حول الخليفة ، وحول الوزير (ال رُزيك ، أو ال شاور).
12 ـ استفتى صلاد الدِّين العلماء في أمرهم ، فأفتوا بقتلهم . وعندما تردَّد صلاد الدين في التنفيذ. طالب أهلُ الفتوى ، وأهلُ المشورة بالإسراع في التنفيذ. فصَدَر الأمر بقتلهم ، وصلبهم: وشنقوا على أبواب قصورهم ، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم. وكان المشهور: أنَّ الذين شنقوا: الشاعر عمارة بن علي اليمني ، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي العويرس ، وداعي الدُّعاة ابن عبد القوي. وقد حاول القاضي الفاضل صادقاً الشَّفاعة لدى صلاح الدين في عمارة؛ على الرَّغم من العداوة القديمة بينهما؛ إلا أنَّ عمارة اعتقد أنها خدعةٌ ، فرفض قبولها، فتمَّ صلبه مثل غيره.
13 ـ وأما أهل القصر؛ فقد اعتُقِلوا بدايةً ، ثُم نُقلوا إلى أماكن مختلفة ، وأعطى القصر إلى أخيه العادل ، ذلك: أنَّ صلاح الدين رأى: فإنَّهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها ، فإنَّه «القصر» حبالةٌ للضلال منصوبة ، وَبِيْعةٌ «مقام» للبدع محجوبة.
14 ـ وشُرِّدت طائفة الإسماعيلية من بلاد مصر ، ونُفُوا. أمَّا البقية؛ فقد أعلن في القاهرة: بأن يرحل كافَّةُ الأجناد ، وحاشية القصر ، ورجال السُّودان إلى أقصى بلاد الصَّعيد.
15 ـ وكشفت التحريات ، والبحث في هذه القضيَّة عن وجود داعيةٍ يُسَمَّى «قُديد القفاص» في الإسكندرية ، التي كان غالبية أهلها من أهل السُّنَّة ، وأنَّ دعوته انتشرت في بلاد الشام ، ومصر ، وأن أرباب المعايش «الحرف ، والصناعات» في ثغر الإسكندرية يحملون إليه جزءاً من كسبهم ، والنِّسوان يبعثن إليه شطراً وافياً من أموالهنَّ. كما وجد لديه كتب ، ورقاع تدلُّ على الكفر الصَّريح. وهكذا فقد تمكن صلاح الدين بفضل الله ، ثم بصبره ، وقيادته الحازمة من القضاء على هذه المؤامرة و الفتنة؛ التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ القرار الحاسم بالنسبة لكل بقايا الدَّولة الفاطمية من بيت الخلافة ، وكبار رجالها ، والحاشية ، والجند ، والسودان.
ـ عمارة بن علي اليمني الشاعر:
قال عنه للذهبي: أبو محمد عمارة بن علي بن زيدان الحكميُّ ، المذحجيُّ ، اليمنيُّ ، الشافعيُّ ، الفرضيُّ ، الشاعر ، صاحب الديوان المشهور ، ولد سنة خمس عشرة وخمسمئة ، وتقفَّه بزبيد مدةً ، وحجَّ سنة تسع وأربعين وأنفذه أمير مكة قاسم بن فليته رسولاً إلى الفائز بمصر ، فامتدحه بالشعر. وكان واضح الاعتقاد في أبي بكر ، وعمر ، فقد حكى عمارة: أنَّ الصَّالح بن رُزِّيك فاوضه ، وقال ما تعتقد في أبي بكر ، وعمر؟ قلت: أعتقد: أنه لولاهما لم يبقَ الإسلام علينا ، ولا عليكم ، وأنَّ محبتهما واجبةٌ. فضحك ، وكان مُرتاضاً حصيفاً ، قد سمع فقهاء السنَّة. قال الذهبي: هذا حلم من الصَّالح على رفضه.
وقال ابن واصل في سبب موالاة عمارة اليمني للفاطميين: وكان عمارة بن علي اليمني شديد التعصب لهم؛ لأنه قدم عليهم من اليمن ، فأحسنوا إليه ، وخولُّوه ، فرعى ذلك ، ووفى لهم ، والإنسان ـ كما قيل ـ صنيعة الإحسان ، ولم يكن على مذهبهم ، وإنَّما كان شافعياً ، وسنياً ، فلمَّا زال أمرهم؛ رثاهم بأحسن الشعر ، وذبَّ عنهم باللِّسان؛ إذ لم يمكنه الذبُّ عنهم باليد؛ ثم لمَّا تحرَّك جماعة في عَوْد الأمر إليهم ، كان من جملة المساعدين على ذلك ، شكراً لهم على إحسانهم إليه ، فأدَّى به ذلك إلى أن شُنِق، كما مرَّ ذكره ـ وقد ذكر عمارة مباينته لمذهب القوم في قصيدةٍ يقول فيها:
أفاعيلهم في الجود أفعال سُنَّةٍ
وإن خالفوني في اعتقاد التشيُّع

وقد علَّق الذَّهبي على هذا البيت ، فقال: يا ليته تشيَّع فقط ، بل يا ليته ترفَّض ، وإنما يقال: هو انحلال، وزندقة. وقد قال عمارة في رثاء الفاطميين ، والعاضد:
أسفي على زمن الإمام العاضد
جالستُ مِنْ وزرائه وصحبتُ مِنْ
لهفي على حُجُراتِ قصرِك إذ خَلَت
وعلى انفرادك من عساكرك الذي
قَلَّدْتَ مُؤتَمَنَ الخلافة أمرهم
فعسى اللَّيالي أن تَرُدَّ إليكم
أسَفُ العقيمِ على فِراقِ الواحد
أمرائه أهل الثَّناء الخالد
يا بن النبيِّ مِنِ ازدحام الوافد
كانوا كأمواج الخِضَمِّ الرَّاكد
فكبا وقصَّر عن صلاح الفاسد
ما عوَّدتكم من جميل عَوَائِدِ

وله من جملة قصيدة:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي
لك الملامة إن قصَّرت في عذلي
عليهما لا عَلَى صِفِّين والجمل

وقل لأهلهما والله ما التحمت
ماذا ترى كانتِ الإفرنج فاعلةً
فيكم قُروحي ولا جُرْحي بُمندمل
في نَسْلِ ال أمير المؤمنين علي

وأنا أستغرب من عمارة اليمني في نعيه لأيَّام الفاطميين ، وحنينه إلى بدعهم ، وأعيادهم ، وقصورهم ، وتحدِّيه للدولة السنية الجديدة في مصر ، ودفاعه عن الفاطميين ، وأكاذيبهم في زعمهم بأنهم من النَّسْل النبويِّ الكريم ، فهل متاع الدنيا الزائل يفعل بالعقائد الصحيحة ما فعله بعمارة اليمني؟. وهل العطايا ، والجاه ، والمناصب تجعل الإنسان يترك عقيدته الصحيحة ، ويبكي على أطلال الدولة الفاطمية الشيعيَّة الرافضيَّة ، وينخرط في عملٍ تامريٍّ ضدَّ المشروع الإسلامي المقاوم للصليبيين في بلاد الإسلام؟! إنَّ هذا لشيء عجاب!.
ـ أمجاد أهل الإسكندرية:
إنَّ أهل الإسكندرية ساهموا في نجاح المشروع السني بمصر ، ودافعوا عن صلاح الدين عندما حوصر بها ، وهم يدافعون عن المدينة بشجاعةٍ فائقةٍ ، ورجولة منقطعة النظير ، ومسلمي مصر عموماً ، وأهل الإسكدنرية منهم خصوصاً دائماً ، وأبداً في الخندق المدافع عن قضايا الأمة قديماً ، وحديثاً ، ولهم من الطاقات الفكرية ، والإمكانات المادية ، والأقلام السَّيالة ، وصفاء الفطرة ما يجعلهم في مصافِّ مَنْ يتصدَّى للمشروع الشيعي الرَّافضي الباطني ، والمشروع الأمريكي الغربي ، وقد قاوم المصريون قديماً النفوذ الشيعي الباطني ، والحملات الصليبية ، وتعاونوا مع إخوانهم من أهل السنة فكرياً ، وعقائدياً ، وسياسياً ، وعسكرياً ، واقتصادياً ، وإعلامياً؛ حتى تمَّ القضاء على المشروع الشيعي الباطني ، ولذلك نجد كتَّاب الشيعة الرافضة يحقدون على مصر ، ويقولون عن أهلها: أبناء مصر لعنوا على لسان داود عليه السلام ، فجعل الله منهم القردة أبناء مصر ، والخنازير ، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر ، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها ، وقالوا: بئس البلاد مصر ، أما إنَّها سجن مَنْ سخط الله عليه من بني إسرائيل ، وقالوا: انتحوا مصر ، ولا تطلبوا المكث فيها؛ لأنه يورث الدياثة. وجاءت عندهم عدَّة روايات في ذم مصر ، وهجاء أهلها ، والتحذير من سكانها ، ونسبوا هذه الروايات إلى رسول الله ﷺ وإلى محمد الباقر ، وإلى علي الباقر ، وهذا رأي الشيعة الروافض في مصر في تلك العصور الإسلامية الزاهرة ، وقد عقَّب المجلس الشيعي الرافضي على هذه النصوص بقوله: إنَّ مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة؛ لأنَّ أهلها صاروا مِنْ أشقى الناس ، وأكفرهم. ويبدو أنَّ هذه النصوص هي تعبير عن حقد الرافضة ، وغيظهم على مصر ، وأهلها بسبب سقوط إخوانهم الإسماعيليين العبيدين على يد صلاح الدين ، الَّذي طهَّر أرض الكنانة من دنسهم ، ورجسهم ، وأين هذه الكلمات المظلمة في مصر وأهلها الأحبَّة من وصية حبيبنا محمد ﷺ بأهل مصر.
وإليك أيها القارىء الكريم ما قام به أهالي الإسكندرية للدِّفاع عن الإسلام ، وعن دولته السُّنية الجديدة في مصر ، فقد تعرَّضت الإسكندرية لا نزال صقلِّي في الأيام الأخيرة من عام 569هـ/نهاية تموز 1174م وكان الأسطول النورماندي يتكوَّن من مئتي سفينة ، وقيل من مئة وثمانين سفينة ، تحمل خمسين ألف رجل ، بينهم ثلاثين ألف مقاتل تنفيذاً للمخطط واسع النطاق؛ الذي اتفقت عليه العناصر الموالية للفاطميين مع ملكي بيت المقدس ، وصقلية بهدف إحياء الخلافة الفاطمية في مصر ، ورد الدَّعوة الشيعية الرافضية إلى ما كانت عليه ، وقد وصلت الحملة النورماندية أمام الإسكندرية في 16 ذي الحجة بعدما انكشفت المؤامرة ، وقضي على المتامرين في الداخل من جهة، وبعد وفاة عموري الأول ملك بيت المقدس من جهة ثانية. وشرع النورمان في مهاجمة الإسكندرية ، ونجحوا في إغراق بعض المراكب المصرية التي كانت راسيةً على الساحل. وقد أبدى الجيش الأيوبي ، وأهالي الإسكندرية شجاعةً فائقةً ، فأحرقوا دبابات العدو؛ التي نصبت قرب السُّور «وأحسنوا القتال ، والصبر». وكان صلارح الدين غائباً عن الإسكندرية ، وحين وصلها زال ما بالمحاربين من تعبٍ ، وألم الجراح ، وكلٌّ منهم يظنُّ: أنَّ صلاح الدين معه ، فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله. فما كان على الصليبيين سوى التَّسليم ، وصاروا بين قتيلٍ ، وأسيرٍ. وهكذا وجه جيش صلاح الدين ، وأهالي الإسكندرية ضربةً ماحقةً بأصحاب فكرة غزو مصر ، بحيث لم يعودوا يفكرون في إعادة التجربة مرَّةً ثانيةً في عهد صلاح الدين ، على الرَّغم من أنهم لم يتخلَّوا عن الفكرة كلياً؛ إذ أعادوا الكرَّة بعد وفاة صلاح الدين بربع قرن.
ـ مؤامرة كنز الدولة:
ومن المؤامرات التي واجهها صلاح الدين في مصر مؤامرة قامت في أسوان ، وقوص ، وكان ذلك سنة 570هـ ، فقد جمع كنز الدولة وإلى أسوان العرب ، والسودان ، وقصد القاهرة ، يريد إعادة الدَّولة الفاطمية ، وأنفق في جموعه أموالاً جزيلةً ، وانضمَّ إليه جماعة ممن يهوى هواهم ، فقتل عشرة من أمراء صلاح الدين ، وخرج في قرية (طود) رجل يعرف بـ: «قياس بن شادي» ، وأخذ بلاد (قوص) ، وانتهب أموالها ، فجهَّز صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيشٍ كثيفٍ ، فسار ، وأوقع بشادي ، وبدَّد جمعه ، وقتله ، ثمَّ سار فلقي (كنز الدولة) ناحية (طود) ، وكانت بينهما حروب فرَّ منها كنز الدولة ، بعدما قتل أكثر عسكره ، ثم قتل (كنز الدولة) ، وقدم الملك العادل إلى القاهرة في الثامن عشر من صفر. وهكذا استطاع صلاح الدين أن يقطع دابر الفتن ، وأن يقضي على شراذم البغي والعدوان ، ومدبري المكائد ، والمؤامرات ، وينطبق عليه بحق قولُ الشاعر المتنبي:
على قَدْر أهل العزم تأتي العزائم
وتعظُم في عين الصَّغير صغارُها
وتأتي على قَدْر الكرام المكارم
وتصغُر في عين العظيم العَظائم

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022