في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
عماد الدين زنكي و فتح الرُّها (1)
الحلقة: الرابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ مايو 2020
استطاع عماد الدين زنكي أن يحقِّق قسطاً كبيراً من برنامجه ، وأن يكوِّن لنفسه مانةً خاصة في التاريخ الإسلامي ، كسياسيٍّ بارع ، وعسكريٍّ متمكن ، ومسلم واعٍ ، أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قِبل الصليبيين، فقد استطاع أن يوجِّه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين ، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة ، والانقسام ، وتوحيد المدن ، والإمارات المنفصلة في نطاق دولةٍ واحدةٍ ، واستطاع بمقدرته أن يستغلَّ أقصى ما يمكن أن يقدِّمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج: تشكيل الجبهة الإسلامية ، وضرب الصليبيين ، وقد فصَّلت ذلك في حديثي عن عماد الدين زنكي في كتابي الدولة الزنكية ، ويعتبر فتح الرُّها من أهم إنجازات عماد الدين زنكي ، فقد كانت إمارة الرُّها الصليبية أولى الإمارات التي تأسست في الشرق سنة 491هـ/1097م بزعامة بلدوين الأول؛ الذي استمرَّ في حكم هذه الإمارة حتى سنة 494هـ/1100م حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة «جورفري» ملك بيت المقدس.
وقد تميزت الرُّها عن بقية الإمارات الصليبية بموقعها في الحوض الأوسط لنهر الفرات؛ حيث تحمَّلت عبء الدفاع عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام ، وذلك لقربها من الخلافة العباسية ، ثم لوقوفها في وجه التركمان الذين كانت تعجُّ بهم منطقة الجزيرة عقب التفكُّك؛ الذي أصاب السلاجقة في بلاد الشام ، والعراق عقب وفاة السُّلطان ملكشاه 485هـ/1092م.
ولم تقتصر أهمية الرُّها على موقعها الاستراتيجي ، وكونها خطَّ الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام ، بل إنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام ، واسيا الصُّغرى ، والعراق ، ومنطقة الجزيرة. وعلى الرغم من أن الرُّها لم تقع في نطاق الأراضي المقدسة في فلسطين؛ فقد عدَّها الصليبيون من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس ، وأنطاكية ، والقسطنطينية ، فهي وفيرة الثروات ، ساعدت أمراء الرُّها على توسيع رقعتهم ، فامتدت إمارة الرُّها الواقعة على ضفتي نهر الفرات من راوندان ، وعين ثاب غرباً إلى مشارق ، ومن بهنسي ، وكيسوم شمالاً إلى منبج جنوباً واكتسبت الرُّها أهميةً بما تهيَّأ لها من حكامٍ اتَّصفوا بالقوة، والشجاعة ، واستطاعت الصُّمود في وجه المقاومة الإسلامية ، على الرغم مِنْ أنَّ الرُّها كانت تعاني من نقطتي ضعف واضحتين: أحدهما: الحدود الطبيعية: إذ لا توجد لها موانع طبيعية تحميها ، وتكسبها وقايةً ، ومناعةً. وثانيهما: عدم وجود تجانس بين سكانها؛ إذ كانوا خليطاً من المسيحين الشَّرقيين «السِّريان ، والأرمن اليعاقبة» ومن الصَّليبيين الغربيين فضلاً عن المسلمين الذين تركَّزوا في مدن بكاملها كسروج ، والبيرة ، التي خضعت للصليبيين ، ولم تقتصر أهمية الرُّها على الجانب الصليبي ، بل كانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها ، فقد ذكر ابن الأثير مكانتها في بلاد الجزيرة بسبب موقعها بين الموصل ، وحلب ، ووصفها بأنها من الدِّيار الجزرية عينها ، ومن البلاد الإسلامية حصنها ، ممَّا جعل القوى الإسلامية سواءً في العراق، أو الشام ترغب في السَّيطرة عليها.
1 ـ أوضاع إمارة الرُّها الداخلية:
كانت ظروف الرُّها الداخلية مواتية لعماد الدين زنكي؛ إذ اتصف أميرها جوسلين الثاني بضعف الشخصية ، وانسياقه وراء العواطف ، والأهواء ، وعدم امتلاكه مقدرةً سياسية ، وبعد نظر ، والواقع: أن جوسلين الثاني تأثر في نشأته بالميول الأرمنية بفعل أنَّ والدته كانت منهم ، فترعرع؛ وفي نفسه ميل إلى الأرمن ، وغيرهم من السكان الأصليين من الطوائف النصرانية الشرقية ، وفضَّلهم على النَّصارى الغربيين ، الأمر الذي أثار الفرسان الصليبيين ، وأوجد نوعاً من عدم الاستقرار داخل الإمارة. وعُرف عن صاحب الرُّها: أنه كان من ذلك النوع الذي يؤثر الرَّاحة ، والعافية؛ حتى إنه في الوقت الذي هاجم فيه عماد الدين زنكي إمارته اختار أن يترك مدينته ، ليقيم في «تل باشر» عند الضفة الغربية للفرات ، وإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ المسلمين أحاطوا بهذه الإمارة من كل جانب ، وفصلها نهر الفرات عن بقية الممتلكات الصليبية في بلاد الشام؛ لاستطعنا أن نكوِّن فكرةً عامة من العوامل التي ساعدت على سقوطها ، والجدير ذكره: أنَّ هذه شكَّلت خطراً كبيراً على المواصلات الإسلامية بين حلب ، والموصل ، وبغداد ، وسلاجقة الروم في اسيا الصغرى ، كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة الإسلامية في بلاد الشام ، والجزيرة بسبب تدخلها المستمر لصالح خصوم عماد الدين زنكي من الأمراء المسلمين في المنطقة، فكان فتحها ضرورةً سياسيةً ، وعسكريةً ، واقتصادية ودينية.
2 ـ عمليات الفتح:
استغلَّ عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها ، وسعى إلى تدبير خدعةٍ تتيح له تحقيق هدفه من أقصر طريق ، وكان يعلم: أنَّه لن يستطيع أن ينال غرضه من الرُّها ما دام جوسلين ، وقواته موجودين بها ، وهكذا انصبَّ اهتمامه على إيجاد وسيلةٍ تدفع غريمه إلى مغادرة مقرِّ إمارته ، فاتَّجه إلى امد ، وأظهر أنه يعتزم حصارها ، وأنَّها هدفه دون غيرها ، وبثَّ عيونه ت في الوقت نفسه في منطقة الرُّها؛ ليطلعوه أولاً بأوَّل على تحرُّكات أميرها؛ الذي ما أن رأى إنهماك زنكي بجيوشه في ديار بكر ، وعدم تفرغه للهجوم على المواقع الصليبية؛ حتى غادر مقرَّ إمارته على رأس قواته بعد أن اتخذ إجراءً احتياطياً بأن عقد هدنة مع «فرار أرسلان» صاحب حصن كيفا الذي كان قد التجأ إليه بعد تهديد زنكي لإمارته، ومن ثم اتجه إلى تل باشر الواقعة على الضفة الغربية للفرات ، كي يتخلَّص هناك من كل مسؤولية ، ويتفرَّغ لملذَّاته ، تاركاً حماية الرُّها لأهاليها من الأرمن ، والسريان ، والنساطرة، واليعاقبة ، وكان معظمهم من التُّجار الذين لا خبرة لهم بشؤون الحرب ، والقتال ، بينما تولَّى الجند المرتزقة مهمَّة الدفاع عن القلعة ، وجاءت عيون عماد زنكي لتطلعه على النبأ الذي كان يتحرَّق إليه ، فأسرع بالتوجه إلى الرُّها مستعيناً على السُّرعة بركوب النجائب الإبل مستنفراً كلَّ قادر على حمل السلاح من مسلمي المنطقة للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ، وما لبث أن انهالت عليه جموع المتطوِّعين ، فطَّوق بهم الرُّها من جهاتها الأربع.
وحاول في البدء أن يتوصَّل بالطرق السلمية علَّها تحقق هدفه دون اضطرارٍ إلى رفع السيف ، فراسل أهالي الرُّها باذلاً لهم الأمان ، طالباً منهم أن يفتحوا له الأبواب قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى تدمير أسوار بلدهم ، وإخلاء ديارهم ، إلا أنهم أبوا قبول الأمان. وحينئذ اشتد زنكي في التضيق على الحصن ، مستخدماً الات الحصار الضخمة؛ التي جلبها معه لتدمير أسواره قبل أن تتاح الفرصة لتجمع الصليبيين ، والتقدم لإنقاذ هذا الموقع الخطير ، وأرسل جوسلين لدى سماعه نبأ الهجوم ـ في طلب نجدة مستعجلة من كافة الإمارات الصليبية في الشام ، فلم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت المقدس ، التي وصلت نجدتها بعد فوات الأوان ، كما أنَّه قام بمحاولة للدُّخول إلى المدينة ، أو إرسال نجدة لتعزيز دفاعها ، فحيل بينه وبين ذلك ، وفي السادس والعشرين من جمادى الاخرة 539هـ وبعد مرور ثماني وعشرين يوماً على بد الحصار إنهارت بعض أجزاء الحصن ، أثر الضرب المركز الشديد الذي تعرَّضت له ، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة ، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت بعد يومين، وقام القسُّ البعقوبي برصوما بإجراءات تسليم الرُّها لزنكي.
3 ـ سياسة عماد الدين زنكي في الرُّها:
رأى عماد الدين زنكي ، بعد أن فتح الرُّها: أنَّ ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله ، وأصدر أوامره إلى جنده بأيقاف أعمال القتل ، والأسر ، والسلب ، وإعادة ما استولوا عليه من سبيٍ ، وغنائم ، فأعيدوا ، ولم يفقد إلا الشاذ النادر ، وأعقب ذلك بإصدار أمر اخر بالإسراع في تنظيم ما اضطراب من أمور الرُّها ، وتعمير ما تهدَّم خلال أسابيع طويلة من القتال ، ورتَّب من راه أهلاً لتدبير أمرها ، وحفظها ، والاجتهاد في مصالحها ، وعد أهلها بإجمال السيرة ، وبسط العدالة مستهدفاً من وراء ذلك استمالة سكانها الأصليين من المسيحيين الشرقيين ضد الصَّليبيين الكاثوليك ، الأمر الذي يؤكِّده قيامه بتدمير عدد من الكنائس الكاثوليكية ، واحتفاظه بكنائس الشَّرقيين.
4 ـ العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرُّها:
هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرُّها ، منها:
ـ تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره ، وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال ، فلا ريب في أنَّ التجارب السابقة أثبتت: أنَّ إمارة الرُّها مرشحةٌ أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصَّليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك ، وقد أجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أتابكة الموصل على نحو خاصٍّ طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزَّمن على نحو مثَّل موتاً بطيئاً لها إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور.
ـ ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية؛ الذي فاجأ تلك الإمارة الصَّليبية بالهجوم بعد أن أطمأن الصليبيون إليه ، وتصوَّروا: أنَّه لن يهاجمهم ، فاستغلَّ فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ، ووجه لها ضربته القاضية؛ التي انتهت بإسقاطها ، وهكذا أثبت ذلك القائد المسلم الكبير: أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم.
ـ زد على ذلك: أنَّ الخلاف الواقع بين إمارتي الرُّها ، وأنطاكية أثَّر بدوره على إمارة الرُّها ، وأدَّى إلى إجهادها، واستهلاكها سياسياً ، وعسكرياً على نحو أثبت: أنَّ الخلافات التي كانت تحدث بين القيادات الصليبية أثَّرت بدورها على كياناتهم السياسية ، وها هي ـ لحسن الحظ ـ إمارة الرُّها تدفع الثمن بأن سقطت في قبضة من استحقها من قادة الجهاد الإسلامي في ذلك الحين.
ـ ولا نغفل ـ من ناحية أخرى شخصية أمير الرُّها «جوسلين» الذي لم يكن على نفس القدر من الكفاءة السياسية ، والعسكرية؛ التي اتصف بها والده جوسلين الأوَّل ، وكان أميل إلى حياة الخلاعة ، والمجون ، والسعي الحثيث إلى الملذَّات ، بل إن كثيراً ما غادر مدينة الرُّها ذاتها ، واتجه إلى «تل باشر» من أجل أن يجد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد ، ولذلك أدرك فيه المسلمون تلك الزاوية ، فأحسن قائدهم الإفادة منها ، وهاجم الرُّها وقت أن غاب عنها جوسلين الثاني ، فأصابها في مقتل.
ـ ويبدو أنَّ الجيل الصليبي الذي حلَّ بعد الجيل الأول؛ الذي أسس الكيان الصليبي ، وحافظ عليه لم يكن قادراً على الحفاظ على ما شيده السابقون ، بل لم يكن يدرك أهمية دوره التاريخي في ذلك الموقع الشديد الحساسية؛ الذي أحاطه المسلمون من كلِّ جانب ، وهكذا شارك جوسلين الثاني ـ دون أن يدري ـ في إنجاح حركة الجهاد الإسلامية حينذاك بقيادة قائدها الكبير عماد الدين زنكي.
ـ وعلى أية حال: من الممكن أنَّ من المؤرخين الغربيين من حاول إظهار عوامل الضَّعف الداخلي في إمارة الرُّها ، وجعل تلك العوامل وحدها هي التي أدت إلى إسقاطها ، وهدف من وراء ذلك إضعاف فعاليات المسلمين السياسية ، والحربية ، غير أن المنطق التاريخي يدعونا إلى تصوُّر: أنَّ العوامل الداخلية ، والخارجية تعاونت معاً من أجل صنع انتصار عام 539هـ/1144م ومهما كان شأن عوامل «النحر والانتحار» الداخلية ، ونتائجها في الرُّها؛ فإنها ما كانت لتسقط دون الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مثل عماد الدين زنكي ، وجنوده من خلفه.
5 ـ موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرُّها ، وماذا جرى في صقلية ، ورؤيا لعماد الدين بعد موته:
ـ موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرُّها: كان للفقيه المؤذن موسى الأرمني المدرس بإحدى مدارس الموصل موقفٌ مشكورٌ في فتح الرُّها؛ حيث استخدم أسلوب الحرب النفسية في حملة عماد الدين زنكي على الرُّها عام 539هـ/1145م ، فقد نزل الفقيه محاصراً ، ومقاتلاً ، فخطرت بذهنه فكرة ذكية أثناء حصار عماد الدين للرُّها ، فقد نزل السوق ، واشترى ملابس الأرمن ، لكي يدخل بها إلى المدينة؛ حتى لا يعرفه الصليبيُّون ، ويشكُّون في أمره، فقال: فنزلت السوق ، واشتريت لباس الأرمن ، وتزييتُ في زيهم ووصلت إلى البلد؛ لأنظره ، وأكشف حاله ، فجئت إلى الجامع فدخلت ، ورأيت المنارة ، فقلت في نفسي أصعد إلى المنارة ، وأؤذن؛ حتى يجري ما جرى ، فصعدت ، وناديت: الله أكبر الله أكبر ، وأذنت ، والكفار على الأسوار ، فوقع الصِّياح في البلد: أنَّ المسلمين قد هجموا على البلد من الجهة الأخرى ، فترك الكفار القتال ، ونزلوا عن السور ، فصعد المسلمون ، وهاجموا المدينة.
ـ ملك جزيرة صقلية:
كان ملك جزيرة صقلية من الفرنج لما فتحت الرُّها ، وكان بها بعض الصَّالحين من المغاربة المسلمين ، وكان يُحضره ، ويكرمه ، ويرجع إلى قوله ، ويّقدمه على من عنده من الرُّهبان ، والقسيسين ، فلمَّا كان الوقت الذي فتحت فيه الرُّها سيَّر هذا الملك الإفرنجي جيشاً في البحر إلى إفريقية ، فنهبوا ، وأغاروا ، وأسروا ، وجاءت الأخبار إلى الملك؛ وهو جالس ، وعنده هذا العالم المغربي ، وقد نعس ، وهو شبيه النائم ، فأيقظه الملك وقال: يا فقيه ، قد فعل أصحابنا بالمسلمين كيت ، وكيت ، أين كان محمد عن نصرهم؟! فقال له: كان قد حضر فتح الرُّها ـ أي: أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فتضاحك من عنده من الفرنج ، فقال لهم الملك: لا تضحكوا ، فو الله ما قال عن غير علم!أأ واشتدَّ هذا على الملك ، فلم يمض غُير قليل؛ حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين ، فأنساهم شدة هذا الوهن رخاءَ ذلك الخبر؛ لِعُلوِّ منزلة الرُّها عند النَّصرانية.
ج ـ رؤيا للشهيد بعد قتله:
ويحكى: أنَّ رجلاً من الصالحين قال: رأيت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال ، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بفتح الرُّها.
د ـ مؤامرة فاشلة من سكان الرُّها:
ما لبث سكان الرُّها من الأرمن أن دبَّروا ـ في العام التالي ـ مؤامرة استهدفت الفتك بالمسلمين ، وإعادة المدينة إلى السَّيطرة الصليبية بعد القيام باستدعاء جوسلين ، إلا أنَّ زنكي سرعان ما تمكَّن من كشف هذه المحاولة الخطيرة ، والقبض على مُدبِّريها ، وإعدامهم ، ثم أعقب ذلك بنفي عدد من الأرمن؛ كيلا يتاح لهم مرَّةً أخرى أن يسعوا إلى طعن المسلمين من الخلف ، وتسليم أهمِّ مواقعهم لقمةً سائغة للغزاة الصليبيين.
6 ـ نتائج فتح الرُّها:
حقَّق عماد الدين زنكي بفتح الرُّها أهم إنجازاته التي قام بها ضد الصليبيين طوال مدَّة حكمه ، وكانت لهذا النصر نتائج هامَّة في العالمين: الإسلامي ، والنَّصراني ، ومن أهم تلك النتائج على الإجمال:
أ ـ تأكد للمسلمين: أنَّ حركة الجهاد الإسلامي وصلت سنَّ الرُّشد ، وتجاوزت المراهقة السياسية ، والعسكرية دون أن يكون ذلك إحجاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي ـ لا سيما مودود ـ وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت إيديهم ، فإنها البداية ، واليوم إسقاط الرُّها ، وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل. وهذا ما حدث فعلاً ، ومن الان فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدُّم إلى الأمام بكل ثقةٍ ، وإباءٍ، وإنجاز.
ب ـ تأكد منطق التاريخ من أنَّ مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمرَّ على الأرض المسلمة ، لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي ، والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ، ولم تعد الرُّها تمثِّل دور الفصل ، والكيان الصَّليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كلٍّ من سلاجقة اسيا الصغرى ، وسلاجقة العراق ، وكذلك بلاد فارس.
ج ـ زاد الضغط على النطاق الصليبي الذي اتخذ شكلاً طولياً من أنطاكية في الشمال إلى إيلات (الرشراش) جنوباً، ومن نهر الأردن شرقاً إلى الساحل الشمالي ـ باستثناء عسقلان ـ إذ إنَّ صور سقطت بالفعل عام 1124م/518هـ/ بما اشتملته من إمارة طرابلس ، ومملكة بيت المقدس الصَّليبية ، فالمؤكد أن رأس الحربة الصليبية في الرُّها سقطت إلى غير رجعة ، والان أصبح ذراعها قائماً في باقي الكيان الصليبي ، ولذلك ازداد الضغط العسكري عليه من قِبل القوى الإسلامية التي سيطرت على الظهير الشامي الموازي للساحل، والسهل الساحلي، وكأنَّ المعركة صارت ـ على المستوى الجغرافي ـ معركة بين الساحل ، والظهير ، واعتمد الأول على الدَّعم الخارجي الأوروبي في الأساس ، واعتمد الثاني على إمكاناته المحلية الوافرة التي تزايد شأنها مع ظهور قادة الوحدة بين المسلمين.
د ـ أدى إلى إسقاط الرُّها بمثل هذه الصورة إلى تحرُّك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق ، والرَّحم الأم في الغرب الأوروبي ، فلم يكن ذلك الغرب ليسمح لامتداده السياسي ، والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعةً قطعة ، بل لا بدَّ من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها ، وإجهاز فعاليات إمارة الموصل ، ومن ثمَّ كان قيام حرب صليبية 1147 ـ 1149/542هـ 544هـ التي اشتهرت بـ: الحرب الصليبية الثانية ، وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرُّها ، وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أنَّ قادة الجهاد الإسلامي حاربوا قوى عالمية ، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير ، والفعالية ، وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري ، أو عالمي على نحوٍ يجعل لهم مكانةً بارزةً في تاريخ المسلمين ـ عامة ـ في عهد الحروب الصليبية.
هـ ومن النتائج العديدة التي نتجت عن ذلك الإنجاز ، ارتفاع شأن عماد الدين إلى حدٍّ بعيد ، فبعد أن كان مجرد حاكم محلِّي محدود النطاق ، والفعالية؛ تردَّد اسمه سريعاً في الحوليات اللاتينية والسِّريانية؛ ليعكس: أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة. أمَّا بالنسبة للمسلمين؛ فقد احتلَّ مكانةً بارزةً ، فقد عزَّز فتح الرُّها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود ، والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله؛ الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب؛ التي حازها عن جدارة، كـ:الأمير المظفَّر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين ، زعيم جيوش المسلمين ، ملك الأمراء ، أمير العراقين ، والشام.
وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدِّين ، والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله ، ودارت في المحافل الإسلامية أحاديث تمحورت حول شخصه ، تصوِّر لنا مدى التقدير، والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير ، ومهَّد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي لاستكمال فتح الحصون المجاورة ، وفرض سيطرته التامة على أملاك أعدائه في المنطقة، وأدَّى فتح الرُّها دوراً كبيراً في إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغرات الصليبية عليها ، فاصبح أهلها بعد الخوف امنين وهذا إن شاء الله من عاجل بشرى المؤمن.
7 ـ رأى المستشرق جون لامونت في عماد الدين:
يُعَدُّ المستشرق جون لامونت من أبرز المؤرخين الأمريكيين خلال النصف الأول من القرن الماضي ، وتعدَّدت مؤلفاته في مجال الصَّليبيات ، ولا سيما دراسته الوافية عن الملكية الإقطاعية في مملكة بيت المقدس ، غير أنَّ له دراسة أخرى عنوانها الحرب الصليبية والجهاد ضمن كتاب التراث الإسلامي الذي نشره نبيه فارس ، وفي هذه الدراسة اتَّجه لامونت إلى تفنيد فكرة الجهاد عند المسلمين حينذاك ، وتصور تحرُّك قادة الجهاد الإسلامي حينذاك على أنَّه من خلال الدوافع السياسية ، والاقتصادية ، فقد ذكر بأن عماد الدين زنكي لا يعتبر بأيِّ حال من الأحوال بطل الجهاد ، فإنَّ عماد الدين وإن كان يطمع في استرجاع الرُّها مُنذ وقتٍ طويل ـ كما يقول كمال الدين بن العديم ـ لم يقم بهذا العمل بوضوح إلا متأخراً ، وإلا بعد أن حثه على ذلك أمير حرَّان جمال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان؛ الذي بين له سهولة احتلال المدينة ، ويستمرُّ في تصوره قائلاً: الظاهر: أنه هو نفسه كان يعتبر احتلال الرُّها خروجاً عن سياسته ، وعملاً قام به بناء على تحريض الاخرين. وذكر أيضاً: أنَّ استيلاء زنكي على حماه ، وحلب ، وحروبه ضدَّ الأرتقيين أعظم أهمية عنده من حرب النصارى ، وما كان ليكره التحالف مع اللاتين إذا رأى ذلك في مصلحته.
ومن الممكن تفنيد تلك الاراء على النحو التالي:
ـ كان اتجاه عماد الدين زنكي لمهاجمة الرُّها متأخراً ، وذلك أمرٌ لا يقلِّل البتة من دوره الجهادي؛ خاصَّة: أنه كان يرى أن يستهلك طاقات تلك الإمارة الصليبة في صراعاته ، وحروبه معها ضدَّ حصونها ، ومعاقلها ، ثم يتجه بعد ذلك إلى مهاجمة الإمارة نفسها بعد أن يتمكن من سبر غور دفاعاتها ، ومعرفة نقاط الضعف فيها ، وكذلك نقاط القوة. ومن ناحية أخرى: من الطبيعي تصوُّر: أن نصيحة أمير حرَّان لزنكي بإسقاط الرُّها لم تكن لتغير من الموقف شيئاً لم يكن زنكي قد خطط مسبقاً لذلك ، بل أغلب الظن: أنَّ سقوط تلك الإمارة من الصعب تصور حدوثه على النحو الذي يصوره لامونت ، بل إنَّها في الأغلب كانت من مخططات الزنكيين مُنذ أمدٍ بعيد ، أما تعليل عدم تبكير زنكي بالاستيلاء عليها ، فذلك مرجعه إلى عدم رغبته في إجهاض قوَّته الحربية في صدام مبكر مع الصليبيين غير مضمون النتائج خلال مرحلة حكمه المبكرة.
ولذا فمن الممكن اعتبار توقيت الاستيلاء على الرُّها ـ على نحوٍ ما فصلته المصادر اللاتينية ، والسريانية ، والعربية، يعتبر بحقٍّ من أبرز دلائل حنكة زنكي السياسية ، ويبدو أنَّ إدعاء لامونت بأنَّ إسقاط الرُّها كان بعيداً عن سياسة عماد الدين زنكي هو أكبر الإدعاءات التي لا تجد سنداً تاريخياً يدعمها ، فمن المعروف: أنَّ زنكي كان مشتركاً في جيش مودود ، وبنصِّ عبارة ابن الأثير: شهد معه حروبه ، ولا ريب في أنه أدرك أهمية إسقاط الرُّها ، بل إن ذلك الحلم ترسَّب في ذهنه مُنذ زمن بعيد ، والمتصور: أنَّه أراد النجاح فيما أخفق فيه مودود من قبل ، وقد أعتقد: أنَّ إسقاطها أمرٌ ضروريٌّ على اعتبار أنها الهدف الصليبي الأقرب إلى الموصل ، كما أن تحقيق مثل ذلك الهدف من شأنه تيسير اتصاله بشمال الشام ، وخاصَّةً من خلال رؤيته التوحيدية الثاقبة.
ـ إن افتراض جون لامونت بأنَّ زنكي كان يمكن أن يتحالف مع اللاَّتين من أجل مصلحته السياسية افتراضٌ يدعم حنكة عماد الدين زنكي السياسية ، فقد لجأ إلى عقد الاتفاقيات مع الصليبيين أحياناً من أجل التقاط الأنفاس ، وعدم الوقوع في أَتون جبهتين: جبهة الشرق بصراعه مع قواه السياسية ، وجبهة الصراع مع الصليبيين ، ثم إنه أراد أن يبعث الطمأنينة في نفوس الأخرين من خلال مثل تلك الاتفاقات ، في حين ان يبطن النية للإجهاز على الرُّها ، ولذا جاءت عمليات الحصار من جانبه نحوها أمراً مفاجئاً لأهلها.
ـ أما القول بأن زنكي لم يكن هدفه الوحيد إسقاط الرُّها ، بل إنَّه كان سعى أيضاً إلى بناء دولته على حساب جيرانه سواء المسلمين ، أو الصليبيين؛ فينبغي ملاحظة: أن كافة القيادات الإسلامية التي ظهرت خلال عصر الحروب الصليبية على امتداد القرنين: الثاني عشر ، والثالث عشر الميلادي/السادس ، والسابع الهجريين ، وساهمت في قضية الجهاد كان لديها طابع ما من الطموح السياسي ، وكانت تسعى بالفعل إلى توطيد أركان دولها على حساب القوى السياسية المجاورة لها ، غير أنَّ العبرة هنا بأنَّ الطُّموح السياسي ـ كما أشرت من قبل ـ يتم تفجيره في قضية الأمة بأسرها ، وهي الجهاد ، لأنَّ مثل تلك القيادات كان من الممكن أن ترضى العيش في ذلةٍ ، وإنكسارٍ مع الصليبيين ، ولا تتوسَّع على حسابهم تجنباً لإثارة المشكلات السياسية معهم ، ولسقوط القتلى ، والجرحى ، بل وتعرُّض مناطق نفوذها الأصلية لاعتداءات الغزاة غير أنها رفضت ذلك ، وقبلت التحدي الصليبي ، وأظهرت قدرتها على تغيير الجغرافية السياسية للمنطقة من خلال تبنِّيها لمشاريع الجهاد.
ـ من المهم أن تعرف أنَّه لا يخفى على دارسي تاريخ العلاقات الإسلامية مع القوى المسيحية في مرحلة الحروب الصليبية كيف أنَّ قطاعاً من المستشرقين حرص على سلب المسلمين إنجازاتهم ، وشكَّكووا في المراحل الناصعة من تاريخهم ، كما أنَّ هناك ثأراً ملازماً ذلك القطاع منهم لا سيما مع فكرة الجهاد ، وهو ذورة سنام الإسلام ، ولذلك حرصوا الحرص أجمعه على إنكارها ، والتشكيك فيها ، والإساءة إلى كافة التجارب الجهادية الماضية للمسلمين؛ حتى لا يبنَّوها في الحاضر ، والمستقبل ، وهكذا من الممكن التقرير ـ بموضوعية ، ودون اعتساف في الأحكام ـ :أنَّ عصر الحروب الصليبية شهد نقلةً نوعيَّةً في تطوير فكرة الجهاد في الإسلام؛ حيث إنَّ الجهاد هذه المرة ضدَّ عدوٍّ استقرَّ على الأرض الإسلامية بعد ضعف المسلمين من جراء صراعاتهم مع بعضهم البعض ، فإذا ما أدركنا: أنَّ هويتهم الدينية كانت في خطر أمام مشاريع التنصير؛ التي علَّقت عليها البابوية امالاً كباراً؛ أدركنا كم كانت فكرة الجهاد فكرةً محوريَّةً في عصر الحروب الصليبية. إنَّ المراجع الغربية حاولت تشويه صورة هذا المجاهد الكبير قديماً ، وحديثاً ، ومن أشهر الكتب المعاصرة: كتاب الحرب المقدسة ، الحملات الصليبية ، وأثرها على العالم اليوم. قالت صاحبة الكتاب «كارين ارمسترونغ» عن عماد الدين زنكي: لم يكن هذا بأيِّ حال قدوةً تحتذى ، بل كان سكِّيراً عربيداً ، قلما يفيق من سكره ، كما كان قاسياً بطَّاشاً مثل معظم رجال الحرب في عصره. وسيرة الرجل تكذب ما يقولون ، ووصفه مؤرخونا بالشَّهيد ، وهو وسام عالي الرتبة ، والمقام لا يعطى إلا لمن هو أهلٌ لهذا الوصف الكبير ، فقد قالوا في سيرته من أحسن سير الملوك ، وأكثرها حزماً للأمور ، وكانت رعيته في أمنٍ شامل ،يعجز القويُّ عن التعدِّي على الضعيف ، وكان معظماً للشريعة ، ومقيماً لحدودها في دولته ، وقد كلَّف بذلك القضاة.
إن من أهداف بعض المستشرقين:
ـ تشويه رموز الجهاد لكي تبقى أجيالنا بدون قدوات تقوِّي العزائم ، وتنهض بالهمم.
ـ إضعاف روح الفداء ، والتضحية ، والشهادة ، والجهاد في الأمة؛ حتى يستطيعوا سوقها كالبهائم.
ـ محاولة فصل الأمة عن تاريخها بالأكاذيب ، والتشويه؛ حتى لا ترجع إلى تاريخها الحافل ، فتستخرج منه الدروس ، والعبر.
ـ كانت كتابتهم تنبثق من روح صليبية حاقدة على الأبطال الذين ساهموا في إفشال المشروع الصليبي ، ولذلك حاول المستشرقون تشويه صورة عماد الدين زنكي.
ـ إنَّ سيرة عماد الدين، ومن حوله من أعوانه المخلصين كالقاضي الشهرزوري تقطع بدون شك بكذب أولئك المستشرقين؛ الذين حاولوا طمس الحقائق، وإلصاق التهم الباطلة بذلك الرجل العظيم، فتجربته الجهادية تستحقُّ الدراسة، والتحليل العميق مع ربط ما وصلنا إليه من دروس ، وعبر بواقعنا المعاصر؛ لكي نستفيد منها في السعي الجاد لنهضة الأمة.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf