في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الحملة الصليبية الثانية
الحلقة: السادسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ مايو 2020
كان لسقوط الرُّها في أيدي المسلمين ردة فعلٍ عنيفةٍ في الغرب ،وباعثاً على السرعة في إرسال حملةٍ صليبيةٍ جديدة بعد أن أثار سقوطها الرُّعب في النفوس ، لا بسبب المكانة الدينية التي تتمتَّع بها هذه المدينة في تاريخ النَّصرانية فحسب؛ بل لأنها كانت أيضاً أوَّل إمارة أسسها الصليبيون في الشرق الأدنى ، فجاء سقوطها إيذاناً بتزعزع البناء؛ الكبير الذي شيَّده الصليبيون في الحملة الصليبية الأولى في الشرق الأدنى ، وأدرك الغرب الأوروبي: أنَّه إذا لم يسارع إلى ترميم؛ ذلك البناء؛ فإنَّه لن يلبث أن ينهار. وكانت نداءات الاستغاثة قد وصلت إلى البابا بوجنيوس الثالث من فرنج الشرق ، فقد بعثت ملكة بيت المقدس بوفد رفيع المستوى إلى البابا لطلب النجدة بعد سقوط الرُّها وأرسل البابا رسلاً إلى إمبراطور ألمانيا ، وملك فرنسا يحثُّهما على الإسراع لنجدة فرنج الشرق من خطر المسلمين. وفي الوقت نفسه كلَّف أحد رجال الدين المشهورين في فرنسا اسمه« برنارد» بالدَّعوة للحرب ضدَّ المسلمين في الشرق ، فقام هذا القسُّ بالدَّور الذي قام به البابا أوربان الثاني عام 490هـ/1095م أثناء الدَّعوة للحملة الفرنجية الأولى ، ولبَّى الإمبراطور كونراد الثالث ، ولويس السابع ملك فرنسا دعوة البابا ، وخرجا
كلٌّ بجيشه عبر أوروبا باتجاه القسطنطينية ، ومن هناك عبرا مضيق البوسفور إلى اسيا الصُّغرى.
1 ـ السلاجقة يقضون على الجيش الألماني: كان الجيش الألماني يتقدَّم الجيش الفرنسي عدَّة أيام ، وعندما بلغ منطقة دوريليوم شرق مدينة نيقية نفس الموقع الذي انتصر فيه فرنج الحملة الأولى على السلاجقة بقيادة قلج أرسلان قبل خمسين عاماً؛ وقع الجيش الألماني في قبضة جيش السُّلطان مسعود أمير سلاجقة الرُّوم في اسيا ، فقد تراجع السلطان مسعود وفق خطةٍ عسكرية ذكيَّةٍ؛ حتَّى واصل الجيش الألماني تقدُّمه إلى قلب فريجيا ، وكان السلطان مسعود قد نشر قواته على قمم الجبال المحيطة بهم ، ولما وصل الجنود الألمان إلى نهر باتيس قرب دوريليوم داهمهم الجيش السَّلجوقي ، وكان قد استبدَّ بهم التعب ، والظمأ ، فاختلَّت قيادتهم ، وحاولوا الاحتماء في شعاب الجبال ، لكن السَّلاجقة أحاطوا بهم ، وأمطروهم وابلاً من السِّهام ، وفقد الجنود الألمان ميزة استعمال السِّهام لإبعاد الأتراك في حين افتقرت خَيَّالتهم إلى العلف ، عندئذٍ قَرر كونراد الثالث الإنسحاب ، والعودة من حيث أتى، لكن السَّلاجقة لم يتركوه وشأنه ، فهاجموا مؤخرة جيشه ، ومقدِّمته ، وقلبه ، فدَّبت الفوضى في صفوفه ، وتعرَّض أفراده لأفدح الخسائر بين قتلٍ ، وأسرٍ.
والواقع: أنَّ القتال لم يكن سوى مذبحةٍ مروعة ، قتل فيها تسعة أعشار الجيش ، وأصيب «كونراد الثالث» نفسه بجرحين أحدُهما في رأسه. وحاول كونراد الثالث ، عبثاً جمع شتات جيشه إلا أنه ترك المعركة عند المساء ممعناً في الفرار مع مَنْ تبقَّى من رجاله ، وقليل ما هم ، عائدين إلى نيقية ، في حين غنم السَّلاجقة كمياتٍ لا حصر لها من الغنائم ، فقد غنموا كلَّ ما في معسكرهم من مواد ، وخيولٍ ، واسروا أعداداً كبيرةً منهم ، ظلَّت الغنائم تباع في أسواق المدن الإسلامية عدَّة شهور. وبهذه الهزيمة السَّاحقة يمكننا التأكيد بأن الجيش الألماني قد فشل في تحقيق الغاية التي أتى من أجلها إلى الشَّرق ، ممَّا سيكون له أثر سيىءٌ على الحملة الصليبية الثانية.
2 ـ سلاجقة الروم يعرقلون تقدُّم الجيش الفرنسي:
خرج الجيش الفرنسي بقيادة الملك لويس السَّابع متأخراً عن الجيش الألماني ، وكانت القوات الفرنسية مساويةً في العدد تقريباً للجيش الألماني ، إنَّما كانت أكثر تنظيماً ، واصطحب لويس السابع معه زوجته «اليانور» وفي الوقت الذي كان يجري فيه القتال بين السَّلاجقة ، والقوات الألمانية ، عبرت القوات الفرنسية البوسفور إلى اسيا الصُّغرى ، ووصلت نيقية ، وعلم الملك الفرنسي بهزيمة الأمبراطور الألماني ، فأسرع لمواساته ، ومساعدته وعلى الرغم من الاحتياطات التي اتَّخذها الملك الفرنسي؛ فقد فأجاه السُّلطان السلجوقي مسعود في مدينة «ديكيرفيوم» قرب أنطاكية ، وراح يناوىء الصليبيين حتى بلغ الجسر المقام على النَّهر ، ونشبت في هذا المكان رحى معركةٍ قاسيةٍ ، فاستطاع الصليبيون خلالها شقَّ طريقٍ لهم على الجسر ،عند ذلك تراجع مسعود إلى داخل أسوار المدينة ، وتمكَّن الصَّليبيون بعدها من متابعة طريقهم ، ولم يغامر مسعود بالهبوط إلى السَّهل لمطاردتهم ، إلا أنَّ القبائل التركمانية البدوية الضاربة في المناطق الحدودية تصدَّت لهم ، وأمطرتهم وابلاً من السهام ، كما طاردتهم ، وتخطَّفت بالقتل جنود المؤخرة ، والشاردين ، والمرضى ، ولم يُنْجِ الجيشَ الصليبي من الفناء الشامل سوى هبوط الظلام ، حيث انسحب التُّركمان.
ولم يصل الجيش الفرنسي إلى أنطاكية إلا بعد أن تكبَّد خسائر هائلة ، وبعد أن شفي الإمبراطور الألماني من مرضه؛ أكمل رحلته إلى فلسطين بحراً على سفن الأسطول البيزنطي ، والتقى الإمبراطور الألماني ، والملك الفرنسي في القدس مع الملك «بلدوين الثالث» ملك القدس، وأمه مليزاند، وكبار القادة ورجال الدين في مملكة القدس، وبحث الجميع موضوع الهدف الذي ستتوجه الحملة لاحتلاله، وقرَّروا أن يكون هدفهم الأوَّل دمشق.
3 ـ الهجوم الصَّليبي على دمشق:
توجَّهت الجيوش الفرنجية المتحالفة نحو دمشق؛ الَّتي كان يحكمها انذاك معين الدين أنر أتابك الملك مجير الدِّين أبق بن محمد بن بوري ، الذي كان أكثر الأمراء المسلمين قرباً من الفرنج ، وتعاوناً معهم ، ولذلك لم يكن يتوقع أن يكون الضحية الأولى لهذه الجيوش الفرنجية الضخمة ، لكنَّه لمَّا علم بنوايا الفرنجة ومسيرهم نحو دمشق؛ اتَّخذ جميع الإجراءات اللازمة للدفاع عن المدينة ، وارسل يسأل المساعدة من نور الدين محمود ، وسيف الدين غازي. كان من عادة نور الدين محمود تحليل الأوضاع الدولية ، والإقليمية ، ومتابعة الأحداث الجارية ، وتحليلها بعمق، ثُمَّ، ويخرج بالدروس ، والعبر التي تفيده في تقرير سياسته المستقبلية ، وقد شكَّلت الحملة الصليبية الثانية الحدث الأكبر في المنطقة ، والعالم كلِّه عام 543هـ/1148م وكانت بالنسبة لنور الدين محمود الحدث الأوَّل من نوعه بعد تولِّيه الحكم عام 541هـ/1146م والذي يمارس عليه سياسته المذكورة ، فقد كان نور الدين يتوَّقع أن تكون إمارته (حلب) الهدف الأول لهذه الحملة؛ لأنَّها تشكَّلت ، وتوجَّهت للشرق على خلفيَّة سقوط مدينة الرُّها عاصمة إمارة الرُّها الفرنجية عام 539هـ/1144م على يد عماد الدين ، ولكنَّ الذي حصل: أنَّ الحملة غيَّرت هدفها المتوقع ، وتوجهت إلى دمشق ، وحاصرتها محاولةً احتلالها.
وكان هذا التغيير مفاجأةً كبيرةً لنور الدين ، ومفاجأةً أكبر لمجير الدِّين أبق حاكم دمشق ، وأتابكة معين الدين أنر المدبر الحقيقي لشؤون إمارة دمشق .كانت مفاجأةُ نور الدين معروفة الأسباب ، أما مفاجأة حكام إمارة دمشق ، فلأنهم كانوا أصدقاء الفرنجة الوحيدين من المسلمين في المنطقة ، وجرى بين الطَّرفين تعاونٌ وثيقٌ ضدَّ عماد الدين زنكي عندما كان يحاول الاستيلاء على دمشق ، ولم يكن متوقعاً من الفرنجة مهاجمة أصدقائهم في دمشق ، وترك عدوِّهم الأول في حلب ، ولكن نور الدين محمود استفاد من هذا التغيير المفاجئ في هدف الحملة؛ الذي لم يحصل ارتجالاً ، ولم يكن حماقةً ، كما يذكر بعض المؤرخين ، بل جاء بعد دراسةٍ وتحليلٍ للأوضاع في المنطقة قام بها قادة الحملة في اجتماعات مكثفة اشترك بها ملك بيت المقدس ، وقادته في مدينة عكَّا قبل الهجوم على دمشق.
لقد تأكَّد لنور الدين محمود المغزى الحقيقي لغزو الفرنجة السابق في الحملة الأولى ، والحالي في الحملة الثانية ، والذي لا يمتُّ بصلة إلى استرجاع قبر المسيح عليه السلام من المسلمين ، وتأمين طريق الحجِّ إلى القدس على طول الساحل شمالاً إلى القسطنطينية ، كما كان يزعم زعماء الدِّين المسيحي الَّذين خطَّطوا لهذه الحروب ، كما أنَّ الهدف الحقيقي للحملة الفرنجية الثانية أبعد ما يكون عن الانتقام لسقوط الرُّها؛ لأنَّ الحملة توجَّهت إلى دمشق
حليفة الفرنجة في المنطقة ، ولم تتوجَّه إلى حلب ، أو الرُّها حيث يوجد من يتوجَّب الانتقام منه. فقد أدرك نور الدين محمود: أنَّ هدف الفرنجة الحقيقي هو احتلال المشرق الإسلامي ، والسيطرة عليه ، كما كانت الإمبراطورية الرومانية تسيطر عليه قبل الإسلام ، وأنهم لا يمَّيزون في عملهم لتحقيق هذا الهدف بين إمارات ، ودول المسلمين. فالحليف المتعاون معهم سواءٌ عندهم مع المقاوم لسيطرتهم ، وتوسُّعِهم ، والمجاهد لتحرير البلاد من احتلالهم ، فهم يقصدون احتلال بلاد الجميع ، والسيطرة على الجميع ، وعلى هذا الأساس فإنَّه من الأفضل لهم البدء بدمشق التي تعتبر قلب بلاد الشام، وأكثر الإمارات الإسلامية فيها مساحة ، وموارد ، ولكونها الأضعف عسكرياً ، ثم يتمُّ بعد ذلك التحوُّل إلى حلب ، والرُّها ، والموصل ، وغيرها ، فالأمر إذاً حربٌ شاملةٌ لن يسلم منها المراقب عن بعدٍ ظناً منه: أنَّ الخطر بعيدٌ عنه ، فدوره قادم ، ولو بعد حين.
وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ نور الدين بما اشتهر به من سياسة بعيدة النظر لا بدَّ أن يخوض هذه الحرب من بدايتها، فدمشق بالنسبة له كحلب تماماً ، وهي في الوضع الراهن تشكل الخط الأول للدِّفاع عن حلب ، والموصل ، وباقي بلاد المسلمين ، ولذلك نراه يحشد جيشه إلى جانب جيش أخيه سيف الدين غازي أمير الموصل بالقرب من حمص، وبعلبك لإجراء التنسيق االلازم مع حكام دمشق حول العمل المشترك لمواجهة الغزو الأجنبي ، وكان لهذا الحشد الأثر الرئيسي في فشل الهجوم الصليبي على دمشق ، وقد خرج نور الدين محمود من هذا الحدث الكبير بدروسٍ مهمَّةٍ تؤكد قناعاته ، وتوجُّهاته السابقة.
ومن هذه الدروس: الأهمية القصوى للوحدة بين الإمارات الإسلامية لمواجهة الخطر الفرنجي ، وتحرير البلاد من احتلالهم ، ثمَّ الأهمية الاستراتيجية لإمارة دمشق في المواجهة مع الفرنجة ، وضرورة الاستيلاء عليها بأيِّ ثمنٍ. ومنها: وضع التدخل الأوروبي في الصِّراع مع الإمارات الفرنجية في الاعتبار.
4 ـ موقف رجال الدين المسيحي من الحملة الصَّليبية الثانية:
أما عن موقف رجال الدِّين المسيحي من خروج الحملة الصليبية الثانية إلى الشرق؛ فإنه لم يكد نبأ سقوط الرُّها في يد عماد الدين زنكي سنة 539هـ/1144م يتردَّد في عواصم أوروبا ، حتى أثار مخاوفَ ، وقلقاً شديدين ، وأدرك الصليبيون: أنَّ ذلك يمثل بداية النهاية لبقية الإمارات الصليبية في الأراضي المقدَّسة ، فاتصلوا بالمسؤولين عن إمارة أنطاكية ، واستقرَّ الرأي على إرسال وفد إلى البابا بوجنيوس الثالث 540هـ 548هـ/1145 ـ 1153م) ليدعوا إلى حملة صليبية جديدة ، فقامت بالفعل في أوروبا حركة كبيرة تدعو بكلِّ حماسٍ إلى سرعة القيام بهذه الحملة لإعادة إمارة الرُّها إلى المسيحيين ، وبادر البابا بوجنيوس الثالث بدعوة لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا ليتزعما تلك الحملة. وقد رحَّب لويس السابع بطلب البابا ، ودعا أتباعه للاجتماع به للنَّظر فيما يُتَّخذ من الترتيبات ، ولما لم يبدِ هؤلاء أيَّ حماس للاشتراك في هذه الحملة؛ قرَّر الملك لويس السابع تأجيل تنفيذ دعوة البابا لمدة ثلاثة شهور ، ولجأ إلى أحد أعلام الدين المسيحي في مملكته ، وهو القديس برنارد ـ رئيس دير كليرفو؛ الذي كان يتمتَّع بشهرةٍ كبيرةٍ ، ويفوق الملك في السُّلطة على حدِّ تعبير المؤرخ الإنجليزي رانسيمان ، فقد كان له قدرة عظيمة على الإقناع ، والتأثير في الناس ، ولم يكد الملك لويس السابع ، والبابا بوجينيوس يطلبان منه القيام بالدَّعوة للحملة الصلييبة؛ حتى اسرع القديس برنارد لتلبية هذا الطلب، والعمل بكل قواه من أجل إنجاح هذا المسعى.
وكما وقف البابا أوربان الثاني في كليرمونت يدعو للحملة الصليبية الأولى قبل ذلك بخمسين سنة؛ وقف القديس برنارد خارج كنيسة فيزيلية في شوال 540هـ/مارس 1146م يدعو للحملة الصليبية الثانية ، ونفذ ببلاغته إلى قلوبٍ متعطشةٍ للحرب ، والمغامرة ، فتشتعل ناراً، فلَّما استمع الناس لسحر بيانه، وبلاغته ، وفصاحته؛ أخذوا يصيحون طالبين الصُّلبان، وعندئذ خلع القديس برنارد أرديته الخارجية، فقطعت، وحيكت صلبانا، وظلَّ هذا القديس، ومساعدوه يخيطون الصلبان لكل الَّذين تطوعوا للاشتراك في هذه الحملة.
وبعد عدَّة أيامٍ كتب القديس برنارد رسالةً إلى البابا ، يتَّضح منها مدى تأثير رجال االدين لمسيحي في الناس ، ومدى طاعة الناس لهم في ذلك الوقت ، فيقول فيها: لقد أمرتهم ، فأطعت ، وما كان لمن أصدر الأمر من سلطة ، جعلت طاعتي مثمرةً ، فلم أكد أفتح فمي ، وأتحدَّث حتى تكاثر الصليبيُّون ، فلا حصر لعددهم ، فالقرى والمدن هجرها سكانها ، فلا تكاد تجد رجلاً واحداً لكلِّ سبع نساء ، ويصادفك في كلِّ مكان الأرامل اللائي لا زال أزواجهن أحياءً.
وبعد ذلك أخذ الحماس يزداد عند القديس برنارد بعد النجاح الذي أحرزه في فرنسا ، فأخذ يطوف أقاليم ألمانيا مؤمِّلاً أن يجتذب الألمان للاشتراك في هذه الحملة ، وقد نجح إلى حدٍّ كبير في التأثير على كونراد الثالث ملك ألمانيا للانضمام إلى الحرب المقدسة ، ويطلب منهم أن يقوموا بشرح الإعلان البابوي الذي بعثه البابا إلى كافة مدن أوروبا من أجل أن يتحمَّل الجميع
مسؤولية مساعدة الأرض المقدسة بفلسطين ، والعمل على تحريرها ، واستقرَّ رأي المشاركين في هذه الحملة على مهاجمة دمشق ، واحتلالها ، واشترك رجال الدين المسيحي جنباً إلى جنب مع الجند في حصار دمشق ، فكان مع الملك الألماني كونراد قسِّيس عجوز يُدْعى: إلياس ، طويل اللِّحية ، يعتقدون به ، فلما حاصروا دمشق ، ركب هذا القسيس حماره ، وعلَّق على عنقه صليبياً ، وحمل في يده صليبياً ، وجمع القساوسة بالصُّلبان ، وركب الملوك ، والفرسان بين يديه ، ولم يتخلَّف من الصلبيين المشاركين في الحصار أحد إلا مَنْ تركوه لحفظ الخيام. ووقف هذا القسيس أمام الجميع؛ وهو يتقدمهم قائلاً: لقد وعدني المسيح أني أفتح اليوم دمشق ، ولا يردني أحد!! ََََََََولكن باءت نبوءته بالفشل؛ إذ هاجمه أحد شباب المجاهدين ، فقتله ، وقتل حماره.
5 ـ انتصار دمشق على الحملة الصليبية الثانية:
في ربيع الأوَّل سنة ثلاث وأربعين وخمسمئة نازلت الفرنج دمشق في عشرة الاف فارس ، وستين ألف راجل ، فخرج المسلمون في دمشق للمصاف ، فكانوا مئةً وثلاثين ألف رجل ، وعسكر البلد ، فاستشهد نحو المئتين ، ثم برزوا في اليوم الثاني فاستشهد جماعةٌ ، وقتل من الفرنج عددٌ كثير ، فلما كان في اليوم الخامس وصل غازي بن أتابك ، وأخوه نور الدين في عشرين ألفاً إلى حماه ، وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضَرُّع إلى الله تعالى ، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع ، وضجَّ الناس ، والنساء ، والأطفال ـ مكشفي الرؤوس ، وصدقوا الافتقار إلى الله ، فأغاثهم. قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ} [النمل: 62] .
وكان من أسباب الله التي جعل فيها النصر لأهل دمشق وصول جيوش الموصل ، وحلب في الوقت المناسب ، فقد اتَّصل كلٌّ من سيف الدين غازي ، وأخوه نور الدين بمعين الدين أنر؛ لتنسيق التعاون بينهم ضدَّ الفرنجة ، وكان معين الدين أنر حاكم دمشق لم يكن يرغب بدخول سيف الدين ، ونور الدين دمشق ، وكان في الوقت نفسه يهدِّد الفرنجة بتسليم دمشق لسيف الدِّين ، أو لنور الدين؛ إذا حاولوا اقتحامها ، وراسل حكَّام القدس ، وعدهم بتسليم حصن بانياس لهم؛ إذا أقنعوا الإمبراطور كونراد ، والملك لويس بالانسحاب عن دمشق. وترافقت هذه الاتصالات مع حدوث خلاف بين الفرنجة أنفسهم حول من سيحكم دمشق بعد احتلالها.
قبل حكام القدس عرض معين الدين أنر؛ وأقنعوا الإمبراطور كونراد ، والملك لويس بضرورة الانسحاب خوفاً من تسليمها لسيف الدين غازي «ملك الشرق»؛ الذي إن تسلَّمها طمع باحتلال القدس ، وباقي الإمارات الفرنجية فيما بعد ، فيزول الوجود المسيحي كلُّه من الشرق. وانسحبت جيوش الفرنجة إلى فلسطين ، ومنها غادر الإمبراطور كونراد عن طريق البحر إلى القسطنطينية في طريق عودته لألمانيا ، بينما تأخَّر الملك لويس عدة أشهر ، ثم غادر بطريق البحر إلى فرنسا.
وهكذا انتهت أكبر حملة فرنجية إلى الفشل الذريع بسبب تضامن الإمارات الإسلامية ، كالموصل ، وحلب مع دمشق ، وسلاجقة الروم في وجه العدوان ، وبسبب توفر إرادة المقاومة ، والقتال في نفوس القادة ، بعكس الوضع الذي حصل خلال الحملة الفرنجية الأولى؛ الَّتي حقَّقت أهدافها باحتلال معظم بلاد الشام بسبب اختلاف هذه الإمارات ، وعدم توفر إرادة القتال ، وضعف روح المقاومة في نفوس الحكام.
كان نور الدين محمود المستفيد الرئيسي من فشل الحملة الفرنجية الثانية بعد حاكم دمشق. فقد برزت أهمية الدور الذي قام به ، وأخوه سيف الدين غازي في إرغام الفرنجة على الانسحاب عن دمشق خائبين ، وظهرت بالتالي أهمية التعاون ، والتضامن بين الإمارات الإسلامية في حمايتها من أطماع الفرنجة ، وهذال ما كان نور الدين محمود يسعى لتحقيقه باعتباره الخطوة الأولى على طريق الوحدة؛ التي كانت تمثل الهدف الاستراتيجي له في سبيل تحرير البلاد من الاحتلال الفرنجي. أدرك نور الدين محمود بعد فشل الحملة الفرنجية الثانية الأهمية الكبيرة لدمشق في مواجهة الفرنجة سواءٌ من حيث موقعها الجغرافي المواجه الأكبر ، ولأقوى إمارات الفرنجة (مملكة القدس) أم من حيث إمكانياتها ، وكثرة مواردها ، وقوتها البشرية ، فترسَّخت فكرة الاستيلاء عليها في نفسه ، وأخذ يسعى لتحقيق ذلك معتمداً الوسائل السلمية ، ومستفيداً من تجربة والده في هذا المجال.
6 ـ مشاركة فقهاء المغاربة للدِّفاع عن دمشق:
لم يقتصر المشاركة الفعلية للفقهاء في القتال على فقهاء مدن بلاد الشام وحدهم؛ إذ تشير بعض الروايات إلى مشاركة أولئك الفقهاء المغاربة ، والأندلسيين الذين كانوا يقيمون ببلاد الشام في تلك المعارك ، فعندما تعرضت مدينة دمشق عام 543هـ/1147م للغزو الصليبي؛ شارك أولئك الفقهاء جيوش مدينة دمشق لمواجهة ذلك الغزو؛ وكان منهم الفقيه المغربي حجَّة الإسلام أبو الحجَّاج يوسف بن دوناس الفندلاوي المالكي ، والشيخ عبد الرحمن الحلحوني وكان الشيخ الفندلاوي كبيراً زاهداً عابداً ـ خرج راجلاً ، فراه معين الدين ـ حاكم دمشق ـ فقصده ، وسلَّم عليه ، وقال له: يا شيخ ، أنت معذور ، ونحن نكفيك ، وليس بك قَّوةٌ على القتال. فقال قد بعتُ ، واشترى ، فلا نُقيلهُ ، ولا نستقيله. يعني: قول الله تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ } [التوبة: 111] . وتقدَّم فقاتل الفرنج؛ حتى قتل ـ رحمه الله ـ شهيداً. واستشهد الشيخ الحلحوني بعد قتال ، واستبسال ورؤي الشيخ الفندلاوي في المنام بعد استشهاده ، فقيل له: اين أنت؟ قال في جنات عدن على سُررٍ متقابلين.
7 ـ ما قيل من شعر:
قال أبو النَّدى حسَّان بن نمير الكلبي في مدح مجير الدين صاحب دمشق:
عَرِّجْ على نَجْدٍ لعلَّكَ مُنْجدِي
مَنْ قاتل الإِفرنَج ديناً غيره
ردَّ الأمانَ بكلِّ نَدْب باسلٍ
ومن السيوف بكلِّ عَضْب أبيض
حتى لوى الإسلام تحت لوائه
بنسيمها وبذكر سُعْدى مُسْعِدي
والخيلُ مثل السيل عند المَشْهَدِ
ومِنَ الجياد بِكُلِّ نهدٍ أجْرَدِ
ومن العَجَاج بكلِّ نقعٍ أسود
وغدا بحمدٍ مِنْ شريعة أحمد
8 نتائج الحملة الصليبية الثانية:
هناك مجموعة من النتائج تمحْضت عنها الحملة الصليبية الثانية ، منها:
1ـ أجَّجت العداء الغرب أوروبي تجاه الإمبراطورية البيزنطية؛ إذ إن المعاناة التي لقيها الإمبراطور الألماني كونراد الثالث ، وكذلك الملك الفرنسي لويس السابع من خلال الطريق البري الذي مرَّ بمناطق بيزنطة أكَّد العداء المتأصل بين الطرفين ، وهو عداء سيتراكم طوال القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري حتى يصل إلى ذروته مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري.
2ـ أثرت تلك الحملة على طبيعة الوجود الصليبي في الشرق: فالملاحظ: أنَّ الحركة الصليبية ارتبطت بحلف دفاعي استراتيجي مع الغرب الأوروبي ، الذي وفَّر لها كلَّ دعمٍ ماديٍّ، ومعنوي من أجل القيام، والنمو، والإزدهار، بل وفَّر لها كلَّ حمايةٍ ممكنةٍ وسط المحيط الإسلامي المعادي، والآن بعد المصير الذي وصلت إليه الحملة الثانية بكلِّ الامال التي عُلِّقت على نجاحها؛ اتضح لنا بجلاء: أن اعتماد الصليبيين على الدَّعم الأوروبي خلال تلك الحملة الفاشلة ، لم يغنهم شيئاً ، بل لم يضمن لهم الاستمرار بقوَّةٍ من احتلال مناطق المسلمين طالما: أنَّ أطماعهم لا تحدُّ، وجشعهم ليس له حدود. لقد ظل الوجود الصليبي في الشرق أشبه شيء برضيع لم يكتب له النمو الطبيعي من خلال ارتباطه المرضي بالوطن الأم في أوروبا ، وظلَّ الاعتماد على ذلك الوطن نقطةَ ضعفٍ لذلك الوليد، ليس لها حلٌّ حقيقيٌّ في الية الصراع الصَّليبي الإسلامي. وهذا ما ينطبق على إسرائيل في هذا العصر.
3ـ عجز الكيان الصليبي بإمكاناته المحلية عن تغيير واقع عام 539هـ/1144م ، وحتى مع الاعتماد على الوطن الأم عجز أيضاً ، وتعليل ذلك إلى جانب أخطاء الصليبيين القاتلة ، فإن حركة الجهاد الإسلامي حينذاك وصلت إلى درجةٍ لن تستطيع أن تعود معها عقارب الساعة إلى الوراء ، بل من الان فصاعداً الإنجازُ وراء الآخر ، حتى يتمَّ طرد الصليبيين نهائياً من المنطقة لتصحيح خطأ الانقسام الإسلامي؛ الذي مهَّد للغزاة القدوم للمنطقة.
4ـ بروز نجم نور الدين محمود: فالحملة المذكورة دعمت وجود نور الدين محمود في حلب إلى حدٍّ كبير ، فعلى الرغم من خشية الدماشقة من تطلُّعاته السياسية ، إلا أنهم صاروا على علاقات ودية معه أفضل من قبل تلك الأحداث، وتدعَّم وضعه السياسي في شمال الشام بصورةٍ أقوى، فقد اعترف الدماشقة ضمنياً بقوة نفوذه السياسي، وطلبوا منه العون ضدَّ مملكة بيت المقدس حليفة الأمس.
5ـ ضعف حكام دمشق: والحملة المذكورة تلقي الضوء على مدى الضعف الذي وصلت إليه أتابكية دمشق؛ إذ إنها لم تتمكن من مواجهة الزَّحف الصليبي عليها، ولذلك طلبت العون العسكري الخارجي، ولا ريب في أنَّ ذلك الوهن أدركه نور الدين محمود بصورةٍ مؤكَّدةٍ على نحوٍ جعله يخطِّط أكثر من ذي قبل من أجل توحيد الجبهة الإسلامية، وضمِّ دمشق.
6 ـ تدمير حصن العريمة: استغل نور الدين محمود أوَّل فرصة سنحت له للعمل المشترك مع معين الدين أنر ، فقد استعان «رايموند» أمير طرابلس بنور الدين ضد أحد أمراء الفرنجة الذين حضروا مع الحملة الفرنجية الثانية من ضمن الجيش الفرنسي، وهو «برتراند كونت تولوز» لم يرجع هذا الأمير مع الجيش الفرنسي إلى فرنسا بعد انتهاء الحملة ، وإنما توجَّه إلى الشمال في البحر محاذياً للشاطىء حتى إذا بمحاذاة إمارة طرابلس ؛ نزل إلى البر ، ومعه فرسانه ، فاقتحم حصن العريمة التابع لإمارة طرابلس ، وتحصَّن فيه ، وأعلن عن نيته في الاستيلاء على طرابلس معتبراً نفسه أحقَّ بها من أميرها «رايموند» ، ولم يتمكن« رايموند» أمير طرابلس من التغلُّب عليه ، فحاول الاستعانة بباقي الإمارات الفرنجية، وعندما لم يجد منهم استجابةً؛ بعث يستنجد بنور الدين ، ومعين الدين اللَّذين بادرا بسرعةٍ لحصار الحصن بقواتهما ، واستوليا عليه ، واسرا كلَّ من كان فيه ، ثمَّ دمَّرا الحصن؛ حتى استوى مع الأرض ، وعاد كلُّ منهم إلى مدينته .وتدلُّ هذه الحادثة على مدى الأثر السيئ الذي أحدثه فشل الحملة الفرنجية الثانية على وضع الإمارات الفرنجية في المشرق الإسلامي.
7ـ كسر هيبة الصليبيين في نفوس المسلمين:
يعتبر العديدُ من المؤرخين فشل الحملة الصليبية الثانية تلك نقطة تحوُّلٍ في تاريخ الصراع الإسلامي ـ المسيحي ، فبالإضافة إلى أنها أدَّت إلى انحطاط هيبة الصليبيين في الشام؛ فقد شجعت القوى الإسلامية على الغارة بجرأة على الإمارات الصليبية ، ثم إنها كانت المناسبة التي ظهر فيها نجم اخر من نجوم الجهاد الصليبي هو: نور الدين محمود زنكي؛ الذي أحيا مشروع أبيه لتوحيد الجبهو الإسلامية ضدَّ الصليبيين ، وهو المشروع الذي سيستكمله صلاح الدين ، فينجح في التمهيد لإنهاء الحروب الصليبية ، ولقد نجح نور الدِّين في استغلال الظروف التي أعقبت فشل الحملة الصليبية الثانية في توحيد الشَّام تحت قيادته هذه المرَّة على حساب حاكم دمشق ، ثم استأنف جهاده للصليبيين بنجاح ، مما شجَّع القوى الإسلامية الأخرى ، مثل: سلاجقة الروم ، والاراتقة ، والتركمان على التقدُّم لمواجهة الصليبيين خاصَّة في الرُّها ، وأنطاكية ، بل وتحالفوا أيضاً في جهودهم حتى استطاع نور الدين زنكي أن يوحِّد بلاد الشام كلَّها تحت قيادته: من الرُّها شمالاً حتى حوران جنوباً ، فقامت دولة إسلامية موحَّدة مركزها دمشق ، وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الجبهة؛ التي ستمتدُّ من الفرات إلى النيل للتصدِّي بحقٍّ لهذا الخطر الصليبي. هذه هي أهم النتائج.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf