في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
عماد الدين زنكي و فتح الرُّها (2)
الحلقة: الخامسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ مايو 2020
1 ـ مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرُّها:
إنَّ كثيراً من الباحثين، والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية ، بل إنَّ الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الإنحطاط ، اخذين بأقوال واراء المستشرقين ؛الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ ، وأدب هذه الحروب لأسبابٍ كثيرةٍ ، منها: رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين ، وقسوتهم ، ثم حتى لا نشعر بالعزَّة ، والفخر؛ ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً ، وأكراداً ، وأتراكاً ـ يقودون الجيوش؛ وهم يحملون راية الإسلام ـ مقاتلين ، ومجاهدين ، ومنتصرين يترفَّعون عن القوميات ، والوطنيات الجاهلية ، يجمعهم حبُّ الله ، ورسوله ، والجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته.
إنَّ أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة ، ثم إلى إعادة تقييم ، وحينئذ سنجد: أنَّ آراءنا قد تغيَّرت تغيراً إيجابياً؛ لأننا سنجد فيه الكثير مما يستحقُّ الدراسة ، وسنجد الكثير من الأشعار اللَّطيفة الرقيقة في الحماسة ، ووصف المعارك ، ومديح الأبطال ، وسنجد الشعر الحزين الباكي في رثائهم. وهذه باقةٌ طيبة من الأشعار متعلقة بفتح الرُّها ، ومدح عماد الدين زنكي ، فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرُّها، فقال:
بجيشٍ جاش بالفُرسان حتَّى
وألسنةٌ من العذبات حُمْرٌ
وأروع جيشه ليلٌ بهيم
صفوحٌ عند قدرته ولكن
فكان ثباتُه للقلب قلباً
ظننت البَّر بحراً من سلاح
تخاطبنا بأفواه الرِّياح
وغُرَّتُه عمودٌ للصباح
قليلَ الصَّفْح ما بين الصِّفاح
وهيبتُه جناحاً للجناح
أ ـ القيسراني يمدح عماد الدين في فتح الرُّها: قال الشاعر:
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده
وهل طَوَّق الأملاك إلا نجاده
قد كان لهذا الفتح رنة فرح في نفوس الناس ، وبفتح الرُّها تغيَّرت نظرة الفرنج إلى قوة المسلمين ، وأعادها عماد الدين إلى ديار الإسلام بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن، ومما جاء في القصيدة:
وعن ثغر هذا النَّصر فلتأخذ الظُّبى
سمت قُبَّة الإسلام فخراً بطوله
وذاد قسيمُ الدَّولة ابنُ قسيمها
لِيَهْنِ بي الإيمان أمنٌ ترفَّعَتْ
وفتحٌ حديثٌ في السَّماع حديثه
أراح قلوباً طِرْن من وُكُناتِها
لقد كان في فتح الرُّها دلالة
يُرَجُّون ميلاد ابن مريم نصرة
مدينة إفك مُنذ خمسين حِجَّة
تفوتُ مدى الأبصار حتى لو أنَّها
وجامحهٌ عزَّ الملوكَ قِيادُها
فأوسعها حرَّ القِراع مُؤَيَّد
كأنَّ سنا لَمْعِ الأسنَّةِ حولَه
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة
فصَّدًّت صُدُودَ البِْكر عند افتضاضها
فيا ظَفَراً عمَّ البلادَ صلاحُه
فلا مُطْلَقٌ إلا وشُدَّ وثاقُه
ولا مِنبرٌ إلا ترنحَّ عُودُه
فإن يثكل الإبرنز فيها حياته
وباتت سرايا القمص نقمص دونها
إلى أين يا أسرى الضَّلالة بعدها
رُوَيْدكُمُ لا مانع من مُظفَّر
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عَزْمَهُ
وقل لملوك الكُفر سُلُم بعدها
كذا عن طريق الصُّبح أيتها الدُّجى
ومن كان أملاك السَّمواتِ جندَه
ولله عزم ماءُ سيحان ورده
سَناها وإن فات العيونَ اتقادُه
ولم يك يسمو الدِّين لولا عمادُه
عن الله ما لا يُستطاعُ ذيادُه
رواسيه عزَّاً واطمأنَّ مهادُه
سهيٌّ إلى يومِ المَعَادِ معَادُه
عليها فوافى كلَّ صدرٍ فؤادُهُ
على غير ما عند العُلُوجِ اعتقادُه
ولم يُغْن عند القوم عنهم ولادُه
يَفُلُّ حديد الهند عنها حدادُه
ترقَّت إليه خان طرْفاً سوادُه
إلى أن ثناها من يعزُّ قيادُه
بصيرٌ بتمرين الألدِّ لِدَادهُ
شرارٌ ولكن في يديه زنادُه
فما راع إلا سورُها وإنهدادُهُ
وهيهات كان السَّيف حتماً سفاده
بمن كان قد عمَّ البلادَ فسادُه
ولا مُوثَقٌ إلا وحُلَّ صِفادُه
ولا مصحفٌ إلا أنار مدادُه
وإلا فقل للنَّجم كيف سُهادُهُ
كما يتترَّى عن حريق جرادُه
لقد ذَلَّ غاويكم وعَزَّ رشادُه
يعانِدُ أسباب القضاءِ عِنادُهُ
رمى سَدَّ ذي القرنين أصمى سدادُهُ
ممالكها إنَّ البلاد بلاده
فيا طالما غال الظلامَ امتدادُهُ
فأيَّة أرضٍ لم ترضها جيادُه
وروضة قسطنطينية مستراده
وله قصيدة هنَّأ بها القاضي كمال الدين بن الشهرزوري أَوَّلُها: هي جنَّة المأوى فهل من خاطب يقول فيها:
إن الصَّفائح يوم صافحتِ الرُّها
فتح الفتوح مبشِّراً بتمامه
لله أَية وقفةٍ بدرية
ظَفَرٌ كمال الدين كنت لقاحَه
وأمدَّكم جيشُ الملائك نصرةً
جنبوا الدّبور وقد تمَّ ريح الصَّبا أترى الرُّها (الورهاء) يوم تمنَّعت
لا أين يا أسرى المهالك بعدها شدَّا إلى أرض شدا على أرض الفرنجة بعدها
أفغرَّكم والثَّأرُ رهنُ دمائكم
وإذا رأيت اللَّيثَ يجمع نفسَه
عطفت عليها كل أشوس ناكب
كالفجر في صدر النَّهار الآيَبِ
نُصرت صحابتُها بأيمن صاحب
كم ناهضٍ بالحرب غير محارب
بكتائب محفوفةٍ بكتائب
جندُ النُّبُوَّة هل لها مِنْ غالب
ظنَّت وجوب السورِ سورة لاعب
ضاق الفضاء على نجاة الهارب
إن الدُّرُوبِ على الطريق اللاَّحبِ
ما كان من إطراق لحظ الطَّالبِ
دون الفريسة فهو عينُ الواثب
ب ـ ابن منير يمدح عماد الدين في فتح الرُّها:
صفاتُ مجِدكَ لفظ جلَّ معناه
يا صارماً بيمين قائمُهُ
أصبَحْتَ دون ملوك الأرض منفرداً
فداك مَنْ حاولت مسعاك هِمَّتُهُ
قُلْ للأعادي ألا موتوا به عمداً
مَلْكٌ تنام عن الفحشاء هِمَّتُهُ
ما زال يَسْمُكُ والأيام تخدمه
حتى تعالت عن الشِّعْرى مشاعرُه
وقد روى الناس أخبار الكرام مضوا
على المنابر من أنبائه أرج
فتحٌ أعاد على الإسلام بَهْجَتَهُ
يُهْدَى بمعتصم بالله فتكته
إن الرُّها غير عمُّوريةٍ وكذا
أخذتِ الكواكب عِزَّا ما بغى أحدُ
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه
مشمِّراً وبنو الإسلام في شُغُلٍ
يا مُحيي العَدْلِ إذ قامت نَوَادِبُه
يا نعمة الله يستضفي المزيد بها
أبقاك للدِّين والدُّنيا تحوطُهما
فلا استردَّ الذي أعطاكَه اللهُ
وفي أعالي اللهِ حَدَّاه
بلا شبيهٍ إذ الأملاكُ أشباهُ
جهلاً وقصَّرَ عن مسعاك مسعاهُ
فالله خيَّبَكم والله أعطاه
تُقَىً وتسهر للمعروف عيناه
فيما ابتلاه وتُدْني مل توخَّاه
قدراً وجاوزت الجوزاء نعلاهُ
وأين ممَّا رووه ما رأيناه
مقطوبة بفتيق المِسْك رَيَّاه
فافترَّ مبسُمه واهتزَّ عِطْفَاه
حَديثها نَسَخ الماضي وأنساه
مَن رامها ليس مَغْزَى كمغزاه
من الملوك لها وَقْما فواتاه
رأيٌ يبيتُ فُوَيْقَ النَّجْم مسراه
عن بَدْءِ غرْسٍ لهم أثمار عقباه
وعامر الجُودِ لمَّا محَّ معناه
للشاكرين ويستقني صفاياه
من لم يُتوِّجْك هذا التَّاج إلا هو
ولابن منير أيضاً من قصيدة أخرى يقول فيها:
أيا مَلِكاً ألقى على الشِّرك كلكلاً
جمعت إلى فتح الرُّها سدَّ بابه
هو الفتح أنسى كلَّ فتح حديثُه
فضضت به نقشَ الخواتِم بعده
تجرَّدت للإسلام دون ملوكه
أخو الحرب عَذَّتْهُ القراع مفطَّماً
أناخ على أُمَّاتِه كَلْكَلُ الثُّكْلِ
بجمعك بين النَّهْب والأَسْر والقتل
وتوَّجَ مسطورَ الرِّواية والنَّقْلِ
جُزيتَ جزاءَ الصِّدق عن خاتم الرُّسلِ
تَبْتَذُّكَ أسبابُ المذلَّةِ والخَذْل
يشوب بإقدام الفتى حُنْكَة الكَهْلِ
وقال أيضاً:
بعماد الدِّين أضحت عروة الدِّينِ
واستزادت بقسيم الدَّولة
ملكٌ أسهر عيناً لم يزل
لاخَلْت من كَحَل النَّصْر فقد
كلَّ يوم مرَّ من أيامه
لو جرى الإنصاف في أوصافه
ما روى الرَّاوون بل ما سطَّروا
إذ أناخ الشرك في أكنافه
وقعة طاحت بكلب الرُّوم من
إن حمت مصر فقد قام لها
والرُّها لو لم تكن إلا لاالرُّها
درج الدَّهر عليها مُعصِراً
هَمَّ قسنطنطين أن يَفْرَعَهَا
ولكمِ مِنْ مَلِكٍ حاولها
هي أخت النَّجم إلا أنَّها
مُنِيَتْ منه بليثٍ قائدٍ
زارها يزأرُ في أسدٍ وغىً
صولجوا البيضَ بضربٍ نَثَرَ
يا لها هِمَّةُ ثَغْرٍ أضحكتْ
بَرْنسَتْ رأسَ برنسٍ ذلَّةً
وسروج مُذْ وَعَتْ أسراجه
تلك أقفال رماها الله من
شامَ منه الشَّامُ برقاً ودْقُه
كم كنيسٍ كُنِست آرامها
معصوباً بها الفتح المبين
القسم في إدحاض كيد المارقين
هَمُّها تشديدَ هَمِّ الرَّاقدين
فقأت غيظاً عيونَ الحاسدين
فهو عُيدٌ عائد للمسلمين
كان أولاها أمير المؤمنين
مثل ما خَطَّتْ له أيدي السِّنين
بمئي ألفٍ تلاها بمئين
قطعه التِّين إلى قطع الوتَينْ
واضح البرهان أنَّ الصِّين صينْ
لَكَفَتْ حسماً لشكِّ المُمترين
لم تدنس بمرام اللاَّمسين
ومضى لم يَحوِ منها قِسْطَ طين
فتحلَّى الحين وسما في الجبين
منه كالنَّجم لرأي المبصرين
بِعران الذُّلِّ اساد العرين
تبدل الأسد في الزأر الأنين
الهامَ في ساحاتها نَثْرَ الكُرِيْن
من بني القُلْفِ ثغورَ الشَّامتين
بعدها جاست حوايا جوسلين
فَرَّقَتْ جُمَّاعها عنها عِضين
عزمه الماضي بخير الفاتحين
مؤمنُ الخَوف مخيفُ الامنين
منه بَعْد الروح في ظلِّ السَّفين
إلى أن قال:
هِمَّةٌ تمْسي وتَضْحَى عزمةً
قُلْ لقومِ غرَّهم إمهالُه
إنَّه الموت الذي يُدْرِكُ مَنْ
وهو يُحيي مُمسكي عُروته
مَنْ يطعْ ينجُ وَمَنْ يَعْصِ يكنْ
أقسم الجدُّ بأن تبقى لكي
وتفيض العدل في أقطارها
لا تزال دارُك كيف انتقلت
كلَّ يومٍ يتحلَّى جِيْدُها
كلَّما أُخلص فيها دعوةٌ
ليس حصن إن نحته بحصين
ستذقون شذاه بعد حين
فرَّ منه فشجاً للغافلين
إنَّها حبلٌ لمن تاب متين
من غداة عبرةً للآخرين
تملك الأرض يميناً لا يمينْ
مُنْسِياً مُؤْلِمَ عَسْفِ الجائرين
كعبةً محفوفةً بالطَّائفين
من نظيم المَدْح بالدُّرِّ الثمين
لك قالت ألسْنُ الخلْقِ آمين
2 الأحداث العسكرية بعد فتح الرُّها:
كان فتح الرُّها بدايةُ لها ما بعدها؛ إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمَّته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة ، فاستغلَّ فرصة تضعضع أحوال الصَّليبيين في المنطقة، واتَّجه إلى «سروج» التي تخلَّت حاميتها عنها مولية الفرار ، واستولى عليها ، وما لبثت الحصون المجاورة أن أخذت تسقط في يديه واحدةً تلو الأخرى، وجعل لا يمرُّ بعمل من أعمالها ، ولا معقل من معاقلها ، إلا سُلِّم إليه في الحال ، ثم يَمِّمَ وجهه صوب قلعة البيرة الحصينة المطلَّة على الفرات ، وكانت من أهم الحصون التي تبقَّت لجوسلين الثاني ، وأشدِّها مناعةً ، ففرض الحصار عليها ، وقطع عنها ما كان يصل إليها من القوت ، والميرة ، والمعونة حتى أشرفت على الاستسلام ، وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقتل نائبه في الموصل ، فاضطرَّ إلى فكِّ الحصار ، والإسراع بالتوجُّه إلى مقرِّ إمارته لإقرار الأوضاع فيها: إلا أنَّ صليبيي الحصن خافوا من مهاجمته إياهم ثانيةً ، فأرسلوا إلى حسام الدين تمرتاش الأرتقي ، وأعلموه برغبتهم في التنازل له عن موقعهم هذا قبل أن يسقط بيد عدِّوهم اللدود. وهكذا فقدَ صليبيو الرُّها كافة حصونهم الواقعة شرقي الفرات ، كنتيجةٍ مباشرة لسقوط القاعدة الأم بيد زنكي ، ولم يتبقَّ لجوسلين من إمارته الواسعة سوى عدد من الحصون المنتشرة غربي الفرات كـ: باشر ، ومرعش ، ودلوك ، وسمسياط ، وعينتاب ، وعزاز واستطاع نور الدين محمود ـ فيما بعد ـ اكتساحها جميعاً ، ومحو أولى الإمارات الصَّليبية من الوجود.
3 ـ من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصَّليبيين:
لم يقتصر عماد الدين زنكي في قتاله للصليبيين على الحروب النظامية فحسب؛ إذ كان ذلك يقتضي منه البقاء باستمرار في بلاد الشام ، واستنفاد قواه في قتال أعدائه هؤلاء ، وعدم تمكُّنه ـ بالتالي ـ من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة في العراق ، وأدرك أهمية الاستفادة من الغارات ، أي: الهجوم ، والإنسحاب السريع ، سيما في فترات غيابه عن الشام ، ذلك: أنَّ هذا النوع من القتال سيتيح له الحصول على نتائج هامة ، أولها: إقلاق الصليبيين ، وعدم إعطائهم المجال لإعادة تنظيم قواتهم ، ورسم الخطط الهجومية على مواقع المسلمين في المنطقة ، ومن ثمَّ تمكين هؤلاء من الدفاع عن مراكزهم ، والاحتفاظ بها ، وثانيها: إضعاف قوى العدو العسكرية ، والاقتصادية ، بما تحدثه ـ هذه الحروب ـ من قتل ، وأسر ، ونهب ، وتخريب ، وثالث تلك النتائج: قطع الاتصال بين المراكز الصليبية شمالي الشام ، وعدم إعطائهم الفرصة للتجمُّع ، وتوجيه ضربةٍ موحَّدةٍ ضدَّ المسلمين.
وقد اعتمد زنكي في هذا النوع من القتال على محاربي التركمان ، ومهَّد لذلك بتوثيق علاقاته بقادتهم ، وإسناد كبرى المناصب الحربية إليهم ، وقد عمل زنكي على توفير القيادة الحاذقة من التركمان: أيتكين ، ولجة التركي ، والياروق ، وغيرهم ، والمحاربين الشجعان للقيام بشنِّ ما يطلق عليه اليوم حروب المقاومة ، والعصابات ، وجعل من حلب مركزاً لهم نظراً لأهمية موقعها بالنسبة للحصون الصَّليبية ، والإسلامية على السواء ، فهي تتوسَّط أنطاكية ، والرُّها الصليبيتين ، وتسيطر على خطوط المواصلات بينها ، كما أنها تُعَدُّ خير قاعدةٍ عسكرية لتوجيه الهجمات السريعة ضد مواقع ، وتحركات الصليبيين ، وقوافل إمدادهم ، وتموينهم.
وقد قامت هذه الجماعات من التُّركمان بشنِّ غاراتٍ عديدةٍ ضدَّ جيوش الأعداء ، ومعسكراتهم ، وقوافلهم ، ومراكز تجمُّعهم ، ولم تخل سنةٌ من سني الصراع ، وحروب العصابات كان يقوم بها هؤلاء التُّركمان ، ويلحقون ـ بفضلها ـ خسائر مختلفة في صفوف أعدائهم ، ففي رجب من عام 524هـ على سبيل المثال جهز زنكي قوةً عسكريةً على عزاز الصليبية ، وعاثت في بلاد جوسلين أمير الرُّها. وفي العام التالي حدث اشتباك بين سوار ، وجوسلين شمالي حلب ، أسفر عن انتصار الصليبيين ، ومقتل عدد من المسلمين ، مما دفع سوار إلى القيام بهجوم على ربض الأثارب،والإستيلاء على مقادير من أموالهم ، ومحاصيلهم ، ثم ما لبث بعد عامٍ واحد 526هـ أن أوقع بصليبي تل باشر ، وقتل منهم خلقاً كثيراً ، ولم يتوقف ـ سواء هو وجنده التركمان ـ عن شنِّ الغارات ضدَّ الصليبيين كلَّما اتيحت الفرصة لذلك.
وشهد صفر من عام 527هـ عدَّة اشتباكات بين الطرفين ، وقع أحدُها بالقرب من قنسرين ، إثر قيام بلدوين بيت المقدس بمحاولة للهجوم على أطراف حلب ، حيث تصدَّى له سوار ، وجماعة من جنده ، واسفر القتال عن هزيمة المسلمين ، وانسحابهم إلى حلب ، إلا أنَّ قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج بهم ثانيةً ووقع على طائفة من الصليبين ، فأوقع بهم ، وأكثر القتل ، والأسر ، وانهزم من سلم منهم إلى بلادهم ، وعاد إلى حلب حاملاً معه رؤوس القتلى ، والأسرى ، وكان يوماً مشهوداً ، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى قام صليبيو الرُّها بمحاولة جديدة للإغارة على أعمال حلب ، فخرج إليهم سوار يصحبه الأمير حسَّان البعلبكي أمير منبج ، وأوقع بهم على غرَّة ، وتمكن من إبادة عدد كبير منهم ، وأسر الباقين ، ثم قفل عائداً إلى حلب دون أن يصاب أحدٌ من جنده بأذىً. وفي جادى الاخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان بالإغارة على تل باشر ، فتصدَّى له صليبيو ذلك الموقع ، إلا أنه تمكَّن من هزيمتهم ، وحصد رؤوس ألف رجل ، حملها معه إلى حلب. وفي ربيع الأول من العام التالي سار صاحب موقع القدموس الصليبي إلى قنسرين ، على رأس قوة من فرسان أنطاكية ، فلقيهم عسكر حلب بقيادة سوار ، وأسفر القتال عن انتصار الصليبيين ، واضطر قائد زنكي إلى مصالحتهم ، إلا أنه ما لبث أن باغت إحدى سراياهم بهجومٍ سريعٍ ، وتمكَّن من قتل معظم أفرادها ، ثم قفل عائداً إلى حلب: فسرَّ الناس بذلك بعد مساءتهم ، ولم يمض سوى وقت قصير حتى أغار فرسان الرُّها على أطراف حلب الشمالية في طريقهم إلى إحدى المعسكرات الصليبية ، فأوقع بهم سوار ، وحليفه أمير منبج ، واباد عدداً كبيراً منهم ، بينما وقع معظم الباقين في الأسر.
ثم ما لبث سوار أن أقام ـ في نفس العام ـ بغارةٍ واسعةٍ على المواقع الصليبية في منطقة الجزر ، وزردنا ، وأوقع بأعدائه عند حارم ، ثم عاد إلى حلب محملاً بالغنائم ، والأسلاب ، وأخذ نطاق الغارات ، والهجمات المفاجئة يتَّسع شيئاً ، فشيئاً ، وشهد رجب من عام 530هـ محاولةً واسعةً قام بها سوار؛ إذ سار على رأس ثلاثة الاف فارس من التركمان ، وفاجأ بلاد اللاذقية ، وأعمالها بهجومٍ مباغت لم يكن الصليبيون يحسبون له أيَّ حساب ، وتمكَّن بذلك من أسر سبعة الاف أسير ، والحصول على مقادير كبيرةٍ من الغنائم ، واجتياح عشرات من القرى ، والمزارع الصليبية ، ملأ المسلمون أيديهم منها بالأسرى ، والغنائم ، وقد استبشر مسلمو المنطقة أيَّما استبشار لهذا النصر الكبير الذي أحرزه سوار ، والذي كان بالنسبة لصليبي الشمال نكبةً لم يمنوا بمثلها.
والواقع أنَّ ما شاهدته أنطاكية ، خلال عامي 529هـ ، 530هـ من فتن داخلية بسبب النزاع على الحكم أسهم إلى حدٍّ كبير في عجز هذه الإمارة عن الدفاع عن نفسها إزاء هجمات المسلمين ، الأمر الذي دفع قائدهم إلى استغلال الفرصة ، وتحقيق نصرٍ كبيرٍ ضدَّ صليبي الشَّمال. وفي أواخر العام التالي قام سوار بهجوم مباغت ضدَّ سرية بيزنطية كبيرة العدد ، كانت تتقدَّم شرقاً ، وتمكَّن من قتل ، وأسر عددٍ من أفرادها، ثم قفل عائداً إلى مقرِّه في حلب. ولم تمض سوى أشهر معدودات على هذا الهجوم حتى قام الصليبيون ، والبيزنطيون بإرسال قوات مشتركة لاحتلال قلعة الأثارب القريبة من حلب ، وبعد أن حققت هذه القوات هدفها ، وأوكل إليها حراسة أسرى المسلمين الذين جمعوا في هذا الموقع. إلا أن سوار ما لبث أن خرج على رأس قواته ، وهاجم الحامية الصليبية ، والبيزنطية ، وتمكَّن من استخلاص معظم أسرى المسلمين من ايديهم ، وعاد بهم إلى حلب؛ التي عمَّها السرور ، وسادتها الأفراح لهذا النصر؛ الذي حققه أميرها. وفي عام 533هـ هاجم سوار عدداً من المواقع الصليبية ، واستولى على بعض الغنائم ، إلا أن فرسان الصليبيين تمكَّنوا من اللحاق به ، وإنزال هزيمةٍ بقواته، أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف فارس منهم ، وانسحب هو إلى حلب بمن سَلِم من جنده.
واستمرَّت المناوشات بين الطرفين طيلة السنين التالية ، وأصابها بعض الفتور خلال عامي 534هـ 535هـ. اثر فشل زنكي في الاستيلاء على دمشق في عام 536هـ والسنين التي تلته ، ففي الأشهرل الأولى من هذا العام قام الصَّليبيون بهجومٍ سريع ضدَّ بعض المواقع الإسلامية غربي حلب ، ولدى تفرُّقهم ، أرسل سوار قوةً من التركمان بقيادة ابنه على سبيل تحقيق برنامجه المزدوج ، أي: تشكيل الجبهة الإسلامية ، وضرب الصليبيين.
وقد اتَّضح لنا من خلال استعراض علاقة عماد الدين زنكي بالقوى الإسلامية كإمارات المدن ، والإمارات المحلية في الجزيرة ، والشام ، والقبائل الكردية ، والتركمانية ـ مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خلال علاقاته السلمية ، والحربية مع هذه القوى المنبثة في المنطقة ، فهو من الناحية الرسمية كان قد تسلَّم من السُّلطان السلجوقي «محمود بن محمد بن ملكشاه» عام 522هـ منشوراً يقرُّ سلطته الشرعية على الموصل ، والجزيرة ، والشام ، وقد تأكدَّ هذا المنشور خلال الأعوام التالية. إلا أنَّه لم يكن كافياً لتثبيت سلطته الفعلية في هذه الفترة التي استطاع فيها عدد كبير من الأمراء أن يفرضوا سلطتهم على عددٍ لا يُحصى من المدن ، والأقاليم ، مستقلين إلى حد كبير عن السلطة السلجوقية ، ومستفيدين من مجموعةٍ من العوامل الشخصية ، والسياسية ، والجغرافية ، والاقتصادية ، والبشرية ، فكان لا بدَّ لزنكي إذاً من إخضاع هذا العدد الكبير من السلطات المتمركزة في المنطقة ، ومن اختيار أسلوب الهجوم مُنذ البداية بالرغم ممَّا يحيق بهذا الأسلوب من أخطار ، أولها: احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من الأمراء العادين ، وقد يتحوَّل هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي ، كما حدث بالنسبة للأراتقية ، وثاني تلك الأخطار: عدوم وجود خط رجعة في حالة إنكساره ، أو انسحابه أمام الأمراء المحلِّيين الذين كانوا يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم. إلا أنه لم يأبه لهذه الأخطار ، وراح يهاجم الأمراء المحليين مُنذ البداية ، دفعه إلى ذلك طموحه ، وشجاعته الشخصية ، واطمئنانه إلى قاعدةٍ شعبية تحبه ، وتخلص له لمواقفه السابقة تجاه الصليبيين قبل أن يتولى الحكم في الموصل ، كما ساعده على ذلك منشور السُّلطان انف الذكر بتسليم الموصل ، والجزيرة ، والشام ، وما كان يتضمنه من اعتراف بحرية زنكي في الاشتباك مع التشكيلات السياسية المحلية ، واكتساحها ، والتوسل بأية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
ولكنَّ الأهمَّ من ذلك كله ما تمتع به زنكي من مقدرةٍ سياسيةٍ ، وعسكرية ، وما تميَّز به من نظرٍ بعيد؛ ذلك: أنَّه عرف ـ مُنذ البدء ـ أنه إذا ما سلك سبيل المسالمة ، والتودد تجاه الأمراء المحليين؛ فإنَّ حصونهم ، ومدنهم ، وإماراتهم ستظلُّ تشكِّل عوامل خطر ضد إمارته ، لقربها منها ، ولاستراتيجية مواقعها؛ إذ تشكل نقاط تسلط مرتفعة ، إنحدارها باتجاه الموصل ، وخطوطها الخلفية سلاسل جبلية ، وأنهار متشابكة ، وحصون منيعة. كما أن السياسة الانعزالية التي اتبعها أولئك الأمراء تجاه الخطر الصليبي المتقدم نحو الشرق، وما تبع ذلك من تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية ، والعسكرية ، والاقتصادية قد أدَّت إلى عجز هذه الإمارات عن الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف.
هذا في الوقت الذي كان على زنكي فيه أن يعمل على إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد الإمارات المتفرقة ، المبعثرة في جبهةٍ إسلامية موحدة الدين أغارت قوَّاته على المواقع الصليبية ، وتوغلَّت إلى اسوار أنطاكية ، ثمَّ عادت تحمل معها كثيراً من الغنائم ، والأسلاب. وبعد فترةٍ قصيرةٍ أغار «لجة» التركي على بعض المناطق الصليبية في الشمال ، فساق ، وسبى ، وقتل ، وذُكر: أنَّ عدد القتلى بلغ سبعمئة رجل ، وفي رمضان من العام
نفسه هاجم «سوار» معسكراً صليبياً عند جسر الحديد إلى الشمال الشرقي من أنطاكية ، بعد أن اجتاز بقواته نهر العاصي صوب تجمُّعات العدو ، وتمكَّن من قتل معظم أفراد المعسكر ، واسر الباقين ، وما لبث أمير أنطاكية أن خرج ـ في العام التالي ـ للإغارة على وادي بزاغة القريب من حلب ، فتصدَّى له سوار ، وأجبره على الانسحاب. وتمكن جوسلين من الفرصة ، فقام بهجوم على تجمُّعات المسلمين عند ضفاف الفرات ، وتمكَّن من أسر تسعمئة رجل منهم ، ثم أرتأى الطرفان عقد هدنة بينهما لم يكن لأمير أنطاكية نصيب فيها.
وهكذا ظلَّ القتال مستمراً بين هذه الإمارة ، وقوات حلب ، وعندما خرجت طائفة كبيرة من تجار أنطاكية في جمادى الأولى من عام 538هـ تحرسها قوةٌ من الفرسان في طريقها إلى بعض البلاد الصليبية المجاورة ، ومعها مالٌ كثيرٌ ، وأموالٌ ، ومتاعٌ؛ باغتها المسلمون ، وأوقعوا بها ، وتمكَّنوا من إبادة كافة أفراد القوة التي خرجت لحمايتها ، وغنموا ما كانت تحمله من بضائع قيِّمة. وفي أواخر ذي القعدة من العام نفسه هاجمت مجموعةٌ من فرسان حلب قوَّةًمن الفرسان الصليبيين الخارجين من باسوطا ، وأبادوهم ، وأسروا صاحب باسوطا؛حيث اعتقله سوار في حلب.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf
عماد الدين زنكي و فتح الرُّها (2)
الحلقة: الخامسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ مايو 2020
1 ـ مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرُّها:
إنَّ كثيراً من الباحثين، والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية ، بل إنَّ الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الإنحطاط ، اخذين بأقوال واراء المستشرقين ؛الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ ، وأدب هذه الحروب لأسبابٍ كثيرةٍ ، منها: رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين ، وقسوتهم ، ثم حتى لا نشعر بالعزَّة ، والفخر؛ ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً ، وأكراداً ، وأتراكاً ـ يقودون الجيوش؛ وهم يحملون راية الإسلام ـ مقاتلين ، ومجاهدين ، ومنتصرين يترفَّعون عن القوميات ، والوطنيات الجاهلية ، يجمعهم حبُّ الله ، ورسوله ، والجهاد في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته.
إنَّ أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة ، ثم إلى إعادة تقييم ، وحينئذ سنجد: أنَّ آراءنا قد تغيَّرت تغيراً إيجابياً؛ لأننا سنجد فيه الكثير مما يستحقُّ الدراسة ، وسنجد الكثير من الأشعار اللَّطيفة الرقيقة في الحماسة ، ووصف المعارك ، ومديح الأبطال ، وسنجد الشعر الحزين الباكي في رثائهم. وهذه باقةٌ طيبة من الأشعار متعلقة بفتح الرُّها ، ومدح عماد الدين زنكي ، فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرُّها، فقال:
بجيشٍ جاش بالفُرسان حتَّى
وألسنةٌ من العذبات حُمْرٌ
وأروع جيشه ليلٌ بهيم
صفوحٌ عند قدرته ولكن
فكان ثباتُه للقلب قلباً
ظننت البَّر بحراً من سلاح
تخاطبنا بأفواه الرِّياح
وغُرَّتُه عمودٌ للصباح
قليلَ الصَّفْح ما بين الصِّفاح
وهيبتُه جناحاً للجناح
أ ـ القيسراني يمدح عماد الدين في فتح الرُّها: قال الشاعر:
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده
وهل طَوَّق الأملاك إلا نجاده
قد كان لهذا الفتح رنة فرح في نفوس الناس ، وبفتح الرُّها تغيَّرت نظرة الفرنج إلى قوة المسلمين ، وأعادها عماد الدين إلى ديار الإسلام بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن، ومما جاء في القصيدة:
وعن ثغر هذا النَّصر فلتأخذ الظُّبى
سمت قُبَّة الإسلام فخراً بطوله
وذاد قسيمُ الدَّولة ابنُ قسيمها
لِيَهْنِ بي الإيمان أمنٌ ترفَّعَتْ
وفتحٌ حديثٌ في السَّماع حديثه
أراح قلوباً طِرْن من وُكُناتِها
لقد كان في فتح الرُّها دلالة
يُرَجُّون ميلاد ابن مريم نصرة
مدينة إفك مُنذ خمسين حِجَّة
تفوتُ مدى الأبصار حتى لو أنَّها
وجامحهٌ عزَّ الملوكَ قِيادُها
فأوسعها حرَّ القِراع مُؤَيَّد
كأنَّ سنا لَمْعِ الأسنَّةِ حولَه
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة
فصَّدًّت صُدُودَ البِْكر عند افتضاضها
فيا ظَفَراً عمَّ البلادَ صلاحُه
فلا مُطْلَقٌ إلا وشُدَّ وثاقُه
ولا مِنبرٌ إلا ترنحَّ عُودُه
فإن يثكل الإبرنز فيها حياته
وباتت سرايا القمص نقمص دونها
إلى أين يا أسرى الضَّلالة بعدها
رُوَيْدكُمُ لا مانع من مُظفَّر
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عَزْمَهُ
وقل لملوك الكُفر سُلُم بعدها
كذا عن طريق الصُّبح أيتها الدُّجى
ومن كان أملاك السَّمواتِ جندَه
ولله عزم ماءُ سيحان ورده
سَناها وإن فات العيونَ اتقادُه
ولم يك يسمو الدِّين لولا عمادُه
عن الله ما لا يُستطاعُ ذيادُه
رواسيه عزَّاً واطمأنَّ مهادُه
سهيٌّ إلى يومِ المَعَادِ معَادُه
عليها فوافى كلَّ صدرٍ فؤادُهُ
على غير ما عند العُلُوجِ اعتقادُه
ولم يُغْن عند القوم عنهم ولادُه
يَفُلُّ حديد الهند عنها حدادُه
ترقَّت إليه خان طرْفاً سوادُه
إلى أن ثناها من يعزُّ قيادُه
بصيرٌ بتمرين الألدِّ لِدَادهُ
شرارٌ ولكن في يديه زنادُه
فما راع إلا سورُها وإنهدادُهُ
وهيهات كان السَّيف حتماً سفاده
بمن كان قد عمَّ البلادَ فسادُه
ولا مُوثَقٌ إلا وحُلَّ صِفادُه
ولا مصحفٌ إلا أنار مدادُه
وإلا فقل للنَّجم كيف سُهادُهُ
كما يتترَّى عن حريق جرادُه
لقد ذَلَّ غاويكم وعَزَّ رشادُه
يعانِدُ أسباب القضاءِ عِنادُهُ
رمى سَدَّ ذي القرنين أصمى سدادُهُ
ممالكها إنَّ البلاد بلاده
فيا طالما غال الظلامَ امتدادُهُ
فأيَّة أرضٍ لم ترضها جيادُه
وروضة قسطنطينية مستراده
وله قصيدة هنَّأ بها القاضي كمال الدين بن الشهرزوري أَوَّلُها: هي جنَّة المأوى فهل من خاطب يقول فيها:
إن الصَّفائح يوم صافحتِ الرُّها
فتح الفتوح مبشِّراً بتمامه
لله أَية وقفةٍ بدرية
ظَفَرٌ كمال الدين كنت لقاحَه
وأمدَّكم جيشُ الملائك نصرةً
جنبوا الدّبور وقد تمَّ ريح الصَّبا أترى الرُّها (الورهاء) يوم تمنَّعت
لا أين يا أسرى المهالك بعدها شدَّا إلى أرض شدا على أرض الفرنجة بعدها
أفغرَّكم والثَّأرُ رهنُ دمائكم
وإذا رأيت اللَّيثَ يجمع نفسَه
عطفت عليها كل أشوس ناكب
كالفجر في صدر النَّهار الآيَبِ
نُصرت صحابتُها بأيمن صاحب
كم ناهضٍ بالحرب غير محارب
بكتائب محفوفةٍ بكتائب
جندُ النُّبُوَّة هل لها مِنْ غالب
ظنَّت وجوب السورِ سورة لاعب
ضاق الفضاء على نجاة الهارب
إن الدُّرُوبِ على الطريق اللاَّحبِ
ما كان من إطراق لحظ الطَّالبِ
دون الفريسة فهو عينُ الواثب
ب ـ ابن منير يمدح عماد الدين في فتح الرُّها:
صفاتُ مجِدكَ لفظ جلَّ معناه
يا صارماً بيمين قائمُهُ
أصبَحْتَ دون ملوك الأرض منفرداً
فداك مَنْ حاولت مسعاك هِمَّتُهُ
قُلْ للأعادي ألا موتوا به عمداً
مَلْكٌ تنام عن الفحشاء هِمَّتُهُ
ما زال يَسْمُكُ والأيام تخدمه
حتى تعالت عن الشِّعْرى مشاعرُه
وقد روى الناس أخبار الكرام مضوا
على المنابر من أنبائه أرج
فتحٌ أعاد على الإسلام بَهْجَتَهُ
يُهْدَى بمعتصم بالله فتكته
إن الرُّها غير عمُّوريةٍ وكذا
أخذتِ الكواكب عِزَّا ما بغى أحدُ
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه
مشمِّراً وبنو الإسلام في شُغُلٍ
يا مُحيي العَدْلِ إذ قامت نَوَادِبُه
يا نعمة الله يستضفي المزيد بها
أبقاك للدِّين والدُّنيا تحوطُهما
فلا استردَّ الذي أعطاكَه اللهُ
وفي أعالي اللهِ حَدَّاه
بلا شبيهٍ إذ الأملاكُ أشباهُ
جهلاً وقصَّرَ عن مسعاك مسعاهُ
فالله خيَّبَكم والله أعطاه
تُقَىً وتسهر للمعروف عيناه
فيما ابتلاه وتُدْني مل توخَّاه
قدراً وجاوزت الجوزاء نعلاهُ
وأين ممَّا رووه ما رأيناه
مقطوبة بفتيق المِسْك رَيَّاه
فافترَّ مبسُمه واهتزَّ عِطْفَاه
حَديثها نَسَخ الماضي وأنساه
مَن رامها ليس مَغْزَى كمغزاه
من الملوك لها وَقْما فواتاه
رأيٌ يبيتُ فُوَيْقَ النَّجْم مسراه
عن بَدْءِ غرْسٍ لهم أثمار عقباه
وعامر الجُودِ لمَّا محَّ معناه
للشاكرين ويستقني صفاياه
من لم يُتوِّجْك هذا التَّاج إلا هو
ولابن منير أيضاً من قصيدة أخرى يقول فيها:
أيا مَلِكاً ألقى على الشِّرك كلكلاً
جمعت إلى فتح الرُّها سدَّ بابه
هو الفتح أنسى كلَّ فتح حديثُه
فضضت به نقشَ الخواتِم بعده
تجرَّدت للإسلام دون ملوكه
أخو الحرب عَذَّتْهُ القراع مفطَّماً
أناخ على أُمَّاتِه كَلْكَلُ الثُّكْلِ
بجمعك بين النَّهْب والأَسْر والقتل
وتوَّجَ مسطورَ الرِّواية والنَّقْلِ
جُزيتَ جزاءَ الصِّدق عن خاتم الرُّسلِ
تَبْتَذُّكَ أسبابُ المذلَّةِ والخَذْل
يشوب بإقدام الفتى حُنْكَة الكَهْلِ
وقال أيضاً:
بعماد الدِّين أضحت عروة الدِّينِ
واستزادت بقسيم الدَّولة
ملكٌ أسهر عيناً لم يزل
لاخَلْت من كَحَل النَّصْر فقد
كلَّ يوم مرَّ من أيامه
لو جرى الإنصاف في أوصافه
ما روى الرَّاوون بل ما سطَّروا
إذ أناخ الشرك في أكنافه
وقعة طاحت بكلب الرُّوم من
إن حمت مصر فقد قام لها
والرُّها لو لم تكن إلا لاالرُّها
درج الدَّهر عليها مُعصِراً
هَمَّ قسنطنطين أن يَفْرَعَهَا
ولكمِ مِنْ مَلِكٍ حاولها
هي أخت النَّجم إلا أنَّها
مُنِيَتْ منه بليثٍ قائدٍ
زارها يزأرُ في أسدٍ وغىً
صولجوا البيضَ بضربٍ نَثَرَ
يا لها هِمَّةُ ثَغْرٍ أضحكتْ
بَرْنسَتْ رأسَ برنسٍ ذلَّةً
وسروج مُذْ وَعَتْ أسراجه
تلك أقفال رماها الله من
شامَ منه الشَّامُ برقاً ودْقُه
كم كنيسٍ كُنِست آرامها
معصوباً بها الفتح المبين
القسم في إدحاض كيد المارقين
هَمُّها تشديدَ هَمِّ الرَّاقدين
فقأت غيظاً عيونَ الحاسدين
فهو عُيدٌ عائد للمسلمين
كان أولاها أمير المؤمنين
مثل ما خَطَّتْ له أيدي السِّنين
بمئي ألفٍ تلاها بمئين
قطعه التِّين إلى قطع الوتَينْ
واضح البرهان أنَّ الصِّين صينْ
لَكَفَتْ حسماً لشكِّ المُمترين
لم تدنس بمرام اللاَّمسين
ومضى لم يَحوِ منها قِسْطَ طين
فتحلَّى الحين وسما في الجبين
منه كالنَّجم لرأي المبصرين
بِعران الذُّلِّ اساد العرين
تبدل الأسد في الزأر الأنين
الهامَ في ساحاتها نَثْرَ الكُرِيْن
من بني القُلْفِ ثغورَ الشَّامتين
بعدها جاست حوايا جوسلين
فَرَّقَتْ جُمَّاعها عنها عِضين
عزمه الماضي بخير الفاتحين
مؤمنُ الخَوف مخيفُ الامنين
منه بَعْد الروح في ظلِّ السَّفين
إلى أن قال:
هِمَّةٌ تمْسي وتَضْحَى عزمةً
قُلْ لقومِ غرَّهم إمهالُه
إنَّه الموت الذي يُدْرِكُ مَنْ
وهو يُحيي مُمسكي عُروته
مَنْ يطعْ ينجُ وَمَنْ يَعْصِ يكنْ
أقسم الجدُّ بأن تبقى لكي
وتفيض العدل في أقطارها
لا تزال دارُك كيف انتقلت
كلَّ يومٍ يتحلَّى جِيْدُها
كلَّما أُخلص فيها دعوةٌ
ليس حصن إن نحته بحصين
ستذقون شذاه بعد حين
فرَّ منه فشجاً للغافلين
إنَّها حبلٌ لمن تاب متين
من غداة عبرةً للآخرين
تملك الأرض يميناً لا يمينْ
مُنْسِياً مُؤْلِمَ عَسْفِ الجائرين
كعبةً محفوفةً بالطَّائفين
من نظيم المَدْح بالدُّرِّ الثمين
لك قالت ألسْنُ الخلْقِ آمين
2 الأحداث العسكرية بعد فتح الرُّها:
كان فتح الرُّها بدايةُ لها ما بعدها؛ إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمَّته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة ، فاستغلَّ فرصة تضعضع أحوال الصَّليبيين في المنطقة، واتَّجه إلى «سروج» التي تخلَّت حاميتها عنها مولية الفرار ، واستولى عليها ، وما لبثت الحصون المجاورة أن أخذت تسقط في يديه واحدةً تلو الأخرى، وجعل لا يمرُّ بعمل من أعمالها ، ولا معقل من معاقلها ، إلا سُلِّم إليه في الحال ، ثم يَمِّمَ وجهه صوب قلعة البيرة الحصينة المطلَّة على الفرات ، وكانت من أهم الحصون التي تبقَّت لجوسلين الثاني ، وأشدِّها مناعةً ، ففرض الحصار عليها ، وقطع عنها ما كان يصل إليها من القوت ، والميرة ، والمعونة حتى أشرفت على الاستسلام ، وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقتل نائبه في الموصل ، فاضطرَّ إلى فكِّ الحصار ، والإسراع بالتوجُّه إلى مقرِّ إمارته لإقرار الأوضاع فيها: إلا أنَّ صليبيي الحصن خافوا من مهاجمته إياهم ثانيةً ، فأرسلوا إلى حسام الدين تمرتاش الأرتقي ، وأعلموه برغبتهم في التنازل له عن موقعهم هذا قبل أن يسقط بيد عدِّوهم اللدود. وهكذا فقدَ صليبيو الرُّها كافة حصونهم الواقعة شرقي الفرات ، كنتيجةٍ مباشرة لسقوط القاعدة الأم بيد زنكي ، ولم يتبقَّ لجوسلين من إمارته الواسعة سوى عدد من الحصون المنتشرة غربي الفرات كـ: باشر ، ومرعش ، ودلوك ، وسمسياط ، وعينتاب ، وعزاز واستطاع نور الدين محمود ـ فيما بعد ـ اكتساحها جميعاً ، ومحو أولى الإمارات الصَّليبية من الوجود.
3 ـ من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصَّليبيين:
لم يقتصر عماد الدين زنكي في قتاله للصليبيين على الحروب النظامية فحسب؛ إذ كان ذلك يقتضي منه البقاء باستمرار في بلاد الشام ، واستنفاد قواه في قتال أعدائه هؤلاء ، وعدم تمكُّنه ـ بالتالي ـ من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة في العراق ، وأدرك أهمية الاستفادة من الغارات ، أي: الهجوم ، والإنسحاب السريع ، سيما في فترات غيابه عن الشام ، ذلك: أنَّ هذا النوع من القتال سيتيح له الحصول على نتائج هامة ، أولها: إقلاق الصليبيين ، وعدم إعطائهم المجال لإعادة تنظيم قواتهم ، ورسم الخطط الهجومية على مواقع المسلمين في المنطقة ، ومن ثمَّ تمكين هؤلاء من الدفاع عن مراكزهم ، والاحتفاظ بها ، وثانيها: إضعاف قوى العدو العسكرية ، والاقتصادية ، بما تحدثه ـ هذه الحروب ـ من قتل ، وأسر ، ونهب ، وتخريب ، وثالث تلك النتائج: قطع الاتصال بين المراكز الصليبية شمالي الشام ، وعدم إعطائهم الفرصة للتجمُّع ، وتوجيه ضربةٍ موحَّدةٍ ضدَّ المسلمين.
وقد اعتمد زنكي في هذا النوع من القتال على محاربي التركمان ، ومهَّد لذلك بتوثيق علاقاته بقادتهم ، وإسناد كبرى المناصب الحربية إليهم ، وقد عمل زنكي على توفير القيادة الحاذقة من التركمان: أيتكين ، ولجة التركي ، والياروق ، وغيرهم ، والمحاربين الشجعان للقيام بشنِّ ما يطلق عليه اليوم حروب المقاومة ، والعصابات ، وجعل من حلب مركزاً لهم نظراً لأهمية موقعها بالنسبة للحصون الصَّليبية ، والإسلامية على السواء ، فهي تتوسَّط أنطاكية ، والرُّها الصليبيتين ، وتسيطر على خطوط المواصلات بينها ، كما أنها تُعَدُّ خير قاعدةٍ عسكرية لتوجيه الهجمات السريعة ضد مواقع ، وتحركات الصليبيين ، وقوافل إمدادهم ، وتموينهم.
وقد قامت هذه الجماعات من التُّركمان بشنِّ غاراتٍ عديدةٍ ضدَّ جيوش الأعداء ، ومعسكراتهم ، وقوافلهم ، ومراكز تجمُّعهم ، ولم تخل سنةٌ من سني الصراع ، وحروب العصابات كان يقوم بها هؤلاء التُّركمان ، ويلحقون ـ بفضلها ـ خسائر مختلفة في صفوف أعدائهم ، ففي رجب من عام 524هـ على سبيل المثال جهز زنكي قوةً عسكريةً على عزاز الصليبية ، وعاثت في بلاد جوسلين أمير الرُّها. وفي العام التالي حدث اشتباك بين سوار ، وجوسلين شمالي حلب ، أسفر عن انتصار الصليبيين ، ومقتل عدد من المسلمين ، مما دفع سوار إلى القيام بهجوم على ربض الأثارب،والإستيلاء على مقادير من أموالهم ، ومحاصيلهم ، ثم ما لبث بعد عامٍ واحد 526هـ أن أوقع بصليبي تل باشر ، وقتل منهم خلقاً كثيراً ، ولم يتوقف ـ سواء هو وجنده التركمان ـ عن شنِّ الغارات ضدَّ الصليبيين كلَّما اتيحت الفرصة لذلك.
وشهد صفر من عام 527هـ عدَّة اشتباكات بين الطرفين ، وقع أحدُها بالقرب من قنسرين ، إثر قيام بلدوين بيت المقدس بمحاولة للهجوم على أطراف حلب ، حيث تصدَّى له سوار ، وجماعة من جنده ، واسفر القتال عن هزيمة المسلمين ، وانسحابهم إلى حلب ، إلا أنَّ قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج بهم ثانيةً ووقع على طائفة من الصليبين ، فأوقع بهم ، وأكثر القتل ، والأسر ، وانهزم من سلم منهم إلى بلادهم ، وعاد إلى حلب حاملاً معه رؤوس القتلى ، والأسرى ، وكان يوماً مشهوداً ، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى قام صليبيو الرُّها بمحاولة جديدة للإغارة على أعمال حلب ، فخرج إليهم سوار يصحبه الأمير حسَّان البعلبكي أمير منبج ، وأوقع بهم على غرَّة ، وتمكن من إبادة عدد كبير منهم ، وأسر الباقين ، ثم قفل عائداً إلى حلب دون أن يصاب أحدٌ من جنده بأذىً. وفي جادى الاخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان بالإغارة على تل باشر ، فتصدَّى له صليبيو ذلك الموقع ، إلا أنه تمكَّن من هزيمتهم ، وحصد رؤوس ألف رجل ، حملها معه إلى حلب. وفي ربيع الأول من العام التالي سار صاحب موقع القدموس الصليبي إلى قنسرين ، على رأس قوة من فرسان أنطاكية ، فلقيهم عسكر حلب بقيادة سوار ، وأسفر القتال عن انتصار الصليبيين ، واضطر قائد زنكي إلى مصالحتهم ، إلا أنه ما لبث أن باغت إحدى سراياهم بهجومٍ سريعٍ ، وتمكَّن من قتل معظم أفرادها ، ثم قفل عائداً إلى حلب: فسرَّ الناس بذلك بعد مساءتهم ، ولم يمض سوى وقت قصير حتى أغار فرسان الرُّها على أطراف حلب الشمالية في طريقهم إلى إحدى المعسكرات الصليبية ، فأوقع بهم سوار ، وحليفه أمير منبج ، واباد عدداً كبيراً منهم ، بينما وقع معظم الباقين في الأسر.
ثم ما لبث سوار أن أقام ـ في نفس العام ـ بغارةٍ واسعةٍ على المواقع الصليبية في منطقة الجزر ، وزردنا ، وأوقع بأعدائه عند حارم ، ثم عاد إلى حلب محملاً بالغنائم ، والأسلاب ، وأخذ نطاق الغارات ، والهجمات المفاجئة يتَّسع شيئاً ، فشيئاً ، وشهد رجب من عام 530هـ محاولةً واسعةً قام بها سوار؛ إذ سار على رأس ثلاثة الاف فارس من التركمان ، وفاجأ بلاد اللاذقية ، وأعمالها بهجومٍ مباغت لم يكن الصليبيون يحسبون له أيَّ حساب ، وتمكَّن بذلك من أسر سبعة الاف أسير ، والحصول على مقادير كبيرةٍ من الغنائم ، واجتياح عشرات من القرى ، والمزارع الصليبية ، ملأ المسلمون أيديهم منها بالأسرى ، والغنائم ، وقد استبشر مسلمو المنطقة أيَّما استبشار لهذا النصر الكبير الذي أحرزه سوار ، والذي كان بالنسبة لصليبي الشمال نكبةً لم يمنوا بمثلها.
والواقع أنَّ ما شاهدته أنطاكية ، خلال عامي 529هـ ، 530هـ من فتن داخلية بسبب النزاع على الحكم أسهم إلى حدٍّ كبير في عجز هذه الإمارة عن الدفاع عن نفسها إزاء هجمات المسلمين ، الأمر الذي دفع قائدهم إلى استغلال الفرصة ، وتحقيق نصرٍ كبيرٍ ضدَّ صليبي الشَّمال. وفي أواخر العام التالي قام سوار بهجوم مباغت ضدَّ سرية بيزنطية كبيرة العدد ، كانت تتقدَّم شرقاً ، وتمكَّن من قتل ، وأسر عددٍ من أفرادها، ثم قفل عائداً إلى مقرِّه في حلب. ولم تمض سوى أشهر معدودات على هذا الهجوم حتى قام الصليبيون ، والبيزنطيون بإرسال قوات مشتركة لاحتلال قلعة الأثارب القريبة من حلب ، وبعد أن حققت هذه القوات هدفها ، وأوكل إليها حراسة أسرى المسلمين الذين جمعوا في هذا الموقع. إلا أن سوار ما لبث أن خرج على رأس قواته ، وهاجم الحامية الصليبية ، والبيزنطية ، وتمكَّن من استخلاص معظم أسرى المسلمين من ايديهم ، وعاد بهم إلى حلب؛ التي عمَّها السرور ، وسادتها الأفراح لهذا النصر؛ الذي حققه أميرها. وفي عام 533هـ هاجم سوار عدداً من المواقع الصليبية ، واستولى على بعض الغنائم ، إلا أن فرسان الصليبيين تمكَّنوا من اللحاق به ، وإنزال هزيمةٍ بقواته، أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف فارس منهم ، وانسحب هو إلى حلب بمن سَلِم من جنده.
واستمرَّت المناوشات بين الطرفين طيلة السنين التالية ، وأصابها بعض الفتور خلال عامي 534هـ 535هـ. اثر فشل زنكي في الاستيلاء على دمشق في عام 536هـ والسنين التي تلته ، ففي الأشهرل الأولى من هذا العام قام الصَّليبيون بهجومٍ سريع ضدَّ بعض المواقع الإسلامية غربي حلب ، ولدى تفرُّقهم ، أرسل سوار قوةً من التركمان بقيادة ابنه على سبيل تحقيق برنامجه المزدوج ، أي: تشكيل الجبهة الإسلامية ، وضرب الصليبيين.
وقد اتَّضح لنا من خلال استعراض علاقة عماد الدين زنكي بالقوى الإسلامية كإمارات المدن ، والإمارات المحلية في الجزيرة ، والشام ، والقبائل الكردية ، والتركمانية ـ مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خلال علاقاته السلمية ، والحربية مع هذه القوى المنبثة في المنطقة ، فهو من الناحية الرسمية كان قد تسلَّم من السُّلطان السلجوقي «محمود بن محمد بن ملكشاه» عام 522هـ منشوراً يقرُّ سلطته الشرعية على الموصل ، والجزيرة ، والشام ، وقد تأكدَّ هذا المنشور خلال الأعوام التالية. إلا أنَّه لم يكن كافياً لتثبيت سلطته الفعلية في هذه الفترة التي استطاع فيها عدد كبير من الأمراء أن يفرضوا سلطتهم على عددٍ لا يُحصى من المدن ، والأقاليم ، مستقلين إلى حد كبير عن السلطة السلجوقية ، ومستفيدين من مجموعةٍ من العوامل الشخصية ، والسياسية ، والجغرافية ، والاقتصادية ، والبشرية ، فكان لا بدَّ لزنكي إذاً من إخضاع هذا العدد الكبير من السلطات المتمركزة في المنطقة ، ومن اختيار أسلوب الهجوم مُنذ البداية بالرغم ممَّا يحيق بهذا الأسلوب من أخطار ، أولها: احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من الأمراء العادين ، وقد يتحوَّل هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي ، كما حدث بالنسبة للأراتقية ، وثاني تلك الأخطار: عدوم وجود خط رجعة في حالة إنكساره ، أو انسحابه أمام الأمراء المحلِّيين الذين كانوا يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم. إلا أنه لم يأبه لهذه الأخطار ، وراح يهاجم الأمراء المحليين مُنذ البداية ، دفعه إلى ذلك طموحه ، وشجاعته الشخصية ، واطمئنانه إلى قاعدةٍ شعبية تحبه ، وتخلص له لمواقفه السابقة تجاه الصليبيين قبل أن يتولى الحكم في الموصل ، كما ساعده على ذلك منشور السُّلطان انف الذكر بتسليم الموصل ، والجزيرة ، والشام ، وما كان يتضمنه من اعتراف بحرية زنكي في الاشتباك مع التشكيلات السياسية المحلية ، واكتساحها ، والتوسل بأية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
ولكنَّ الأهمَّ من ذلك كله ما تمتع به زنكي من مقدرةٍ سياسيةٍ ، وعسكرية ، وما تميَّز به من نظرٍ بعيد؛ ذلك: أنَّه عرف ـ مُنذ البدء ـ أنه إذا ما سلك سبيل المسالمة ، والتودد تجاه الأمراء المحليين؛ فإنَّ حصونهم ، ومدنهم ، وإماراتهم ستظلُّ تشكِّل عوامل خطر ضد إمارته ، لقربها منها ، ولاستراتيجية مواقعها؛ إذ تشكل نقاط تسلط مرتفعة ، إنحدارها باتجاه الموصل ، وخطوطها الخلفية سلاسل جبلية ، وأنهار متشابكة ، وحصون منيعة. كما أن السياسة الانعزالية التي اتبعها أولئك الأمراء تجاه الخطر الصليبي المتقدم نحو الشرق، وما تبع ذلك من تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية ، والعسكرية ، والاقتصادية قد أدَّت إلى عجز هذه الإمارات عن الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف.
هذا في الوقت الذي كان على زنكي فيه أن يعمل على إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد الإمارات المتفرقة ، المبعثرة في جبهةٍ إسلامية موحدة الدين أغارت قوَّاته على المواقع الصليبية ، وتوغلَّت إلى اسوار أنطاكية ، ثمَّ عادت تحمل معها كثيراً من الغنائم ، والأسلاب. وبعد فترةٍ قصيرةٍ أغار «لجة» التركي على بعض المناطق الصليبية في الشمال ، فساق ، وسبى ، وقتل ، وذُكر: أنَّ عدد القتلى بلغ سبعمئة رجل ، وفي رمضان من العام
نفسه هاجم «سوار» معسكراً صليبياً عند جسر الحديد إلى الشمال الشرقي من أنطاكية ، بعد أن اجتاز بقواته نهر العاصي صوب تجمُّعات العدو ، وتمكَّن من قتل معظم أفراد المعسكر ، واسر الباقين ، وما لبث أمير أنطاكية أن خرج ـ في العام التالي ـ للإغارة على وادي بزاغة القريب من حلب ، فتصدَّى له سوار ، وأجبره على الانسحاب. وتمكن جوسلين من الفرصة ، فقام بهجوم على تجمُّعات المسلمين عند ضفاف الفرات ، وتمكَّن من أسر تسعمئة رجل منهم ، ثم أرتأى الطرفان عقد هدنة بينهما لم يكن لأمير أنطاكية نصيب فيها.
وهكذا ظلَّ القتال مستمراً بين هذه الإمارة ، وقوات حلب ، وعندما خرجت طائفة كبيرة من تجار أنطاكية في جمادى الأولى من عام 538هـ تحرسها قوةٌ من الفرسان في طريقها إلى بعض البلاد الصليبية المجاورة ، ومعها مالٌ كثيرٌ ، وأموالٌ ، ومتاعٌ؛ باغتها المسلمون ، وأوقعوا بها ، وتمكَّنوا من إبادة كافة أفراد القوة التي خرجت لحمايتها ، وغنموا ما كانت تحمله من بضائع قيِّمة. وفي أواخر ذي القعدة من العام نفسه هاجمت مجموعةٌ من فرسان حلب قوَّةًمن الفرسان الصليبيين الخارجين من باسوطا ، وأبادوهم ، وأسروا صاحب باسوطا؛حيث اعتقله سوار في حلب.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf