الإثنين

1446-11-07

|

2025-5-5

في سيرة صلاح الدين الأيوبي

جهاد أمير الموصل «اق سُنْقُر البرسقي» لإنقاذ حلب

الحلقة: الثالثة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ مايو 2020

أ ـ حلب تتصدَّى للصليبيين:
تعرَّضت حلب لضغط الصليبيين ، وهجماتهم مراراً عديدةً ، بدأت مع فجر الغزو الصليبي لبلاد الجزيرة ، والشام، وكان أبرزها ، وأخطرها ـ ولا ريب ـ حصار عام 518هـ وقد أدرك الغزاة الأهمية البالغة لهذه المدينة ، وما كانت تتمتَّع به من مركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية ، والعسكرية ، والسياسية ، والاقتصادية ، وخطوط المواصلات ، فهي تقع في مركز وسط حصين بين إمارتين صليبيتين ، هما: الرُّها شرقاً في الجزيرة الفراتية، وأنطاكية غرباً على البحر المتوسط في نفس الوقت الذي يمكنها الاتصال بالقوى الإسلامية التُّركمانية المنتشرة في الجزيرة ، والفرات ، الأناضول ، وشمالي الشام مما يعدُّ أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد ، وتحقيق أهداف حاسمة ضد الصليبيين. وفي المقابل فإنَّ إسقاط حلب ، وضمَّها إلى الكيان الصليبي سوف يؤمن المواصلات بين الرُّها ، وأنطاكية ، ويعجل إقامة وحدة سياسية ، وعسكرية بينهما ، كانت ستلعب ـ ولا شك ـ دوراً خطيراً لصالح الغزاة.
وإذ أدرك الحلبيون عدم جدوى بقاء حلب على هذه الأوضاع القلقة ، وضرورة تسليمها لأميرٍ قوي ، لذلك أرسلوا إلى «إيلغازي الأرتقي» حاكم ديار بكر يطلبون منه القدوم لتسليمها إيَّاه ، فتقدم هذا إلى حلب عام 511هـ ، وتولَّى مقاليد الأمور فيها ، وفرض سيطرته على المواقع التابعة لها ، ولكن إنشغال الرَّجل بأمور ولايته في ديار بكر كان يضطره في كثير من الأحيان إلى الغياب عن حلب ، وإدارة ظهره لمشاكلها ، وكان الصَّليبيون يستغلُّون ذلك ، ويشدِّدون هجماتهم على حلب ، والمناطق المحيطة بها ، حتى إذا توفي الرَّجل في رمضان عام 516هـ سعى الصَّليبيون لاستغلال الفرصة ، وساهم انقسام إمارته بين أبنائه ، وانعزال حلب عن القوى المقاتلة في ديار بكر في تحقيق انتصارات سريعة للصليبيين في شمال الشَّام ، ولكنَّ ظهور ابن أخيه «بلك بن بهرام» وتولِّيه قيادة حركة الجهاد ضدَّ الغزاة قطع الطريق على هؤلاء ، وأنقذ حلب من خطرٍ محقَّق ، غير أن مقتل «بلك» بعد سنتين من توليه الحكم ، وانتقال إمارته إلى ابن عمه حسام الدين تمرتاش ـ الذي تميَّز بالضعف ، والانهزامية ـ فتح الطريق ثانيةً أمام الصليبيين لكي يشدِّدوا النكير على حلب ، ويحقِّقوا حلمهم بالسيطرة عليها. ويصف المؤرخ ابن العديم كيف تدهورت الأوضاع في حلب إثر تولِّي تمرتاش الحكم ، ويقول: فأما تمرتاش فإنه لمَّا ملك حلب؛ ألهاه الصِّبا ، واللعب عن التشمير ، والجدِّ والنظر في أمور الملك ، ففسدت الأحوال وضعف أمر المسلمين بذلك.
وقد بدأ تمرتاش ولايته بإطلاق سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الذي كان بلك قد أسره في إحدى معاركه ضد الغزاة ، وذلك لقاء مبلغ تافه من المال ، وقد أطلقه تمرتاش من معتقله ، وأحضره إلى مجلسه؛ فأكلا ، وتشاربا وخلع عليه تمرتاش قباءً ملكياً ، وأعيد إليه الحصان الذي كان قد أخذه منه «بلك» يوم أسره. ولم يلبث تمرتاش ـ بعدها ـ أن انسحب إلى ولايته في ديار بكر؛ لكي يتَّبع سياسةً انعزالية ، فلا يرمي بسهم ضدَّ الغزاة. وبهذا اتيحت لهؤلاء الفرصة ـ كرةً أخرى ـ لتضييق الخناق على حلب ، والسعي لتحقيق هدفهم؛ الذي عجزوا عنه في السنين السابقة ، وهكذا شهدت حلب في عام 518هـ حصاراً من أخطر ما تعرَّضت له في تاريخ الحروب الصليبية الطويل.
ب ـ خيانة دبيس بن صدقة المزيدي أمير الحلَّة:
بدأت المحاولة لإسقاط حلب بخيانة تقدَّم بها أحد الأمراء العرب: دبيس بن صدقة المزيدي أمير الحلَّة الواقعة جنوبي بغداد ، والهارب من وجه الخلافة العباسية ، والسلطنة السَّلجوقية بسبب استفزازه المستمر لهما ، وتامره عليهما. قال للصليبيين بأنَّ له أنصاراً في حلب ، وأنهم متى رأوه على رؤوس المهاجمين؛ سلموا إليه البلد ، وممَّا قاله للصليبيين: إنَّ أهلها شيعةٌ ، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب ، فمتى رأوني؛ سلَّموا البلد إليَّ ، وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرةً ، ووعد بلدوين أمير أنطاكية ، وجوسلين أمير الرُّها بأنه سيقدم لهما الكثير لقاء مساعدتهما له ، وقال لهما: إنني أكون في حلب نائباً عنكم مطيعاً لكم. وتمكَّن ـ أخيراً ـ من التوصُّل مع الصليبيين إلى اتفاق تكون حلب بموجبه له ، أمَّا الأموال فتكون لهم ، فضلاً عن بعض المواقع القريبة من حلب ، وتقدَّم بلدوين على رأس قواته ، ونزل على نهر قويق قريباً من حلب ، وأفسد المناطق الزراعية المحيطة به ، ثمَّ رحل إلى حلب فنزل عليها في أواخر شعبان 518هـ ، وتقدَّم جوسلين أمير الرُّها بصحبة دبيس بن صدقة ـ وكان دبيس شيعياً كابائه ـ صوب ناحيةٍ أخرى من أعمال حلب ، وقاما بتدمير مزروعاتها ، وقُدِّرت الخسائر بما يقرب من مئة ألف دينار ، ومن ثمَّ رحلا ، ونزل مع بلدوين على حلب ، واجتمع بهم هناك
(خونة) اخرون من أجل تطمين مصالحهم ، واقتسام الغنائم في حالة سقوط حلب: سلطان شاه بن رضوان السَّلجوقي ، عيسى بن سالم بن مالك العقيلي ، ياغي سيان بن عبد الجبار الأرتقي.. وفرضوا جميعاً الحصار على حلب من شتَّى جهاتها. ووطَّنوا أنفسهم على المقام الطَّويل ، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها ، وبنوا البيوت لأجل البرد ، والحرِّ، فضلاً عن ثلاثمئة من الخيام ، بينما لم يكن في حلب يومها سوى خمسمئة فارس.
ج ـ أعمال استفزازيَّة صليبية ضدَّ أهالي حلب:
بدأ الغزاة بشن هجماتهم الدَّورية على حلب ، وقطعوا أشجارها ، وأفسدوا بساتينها ، وزروعها في محاولة لتدمير اقتصادياتها التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى ، كما قاموا بتخريب مشاهد المسلمين ، ونبشوا قبور موتاهم ، وسلبوا أكفانهم ، وجعلوا من توابيتهم أوعيةً يتناولون بها طعامهم ، وعمدوا إلى من لم تتقطَّع أوصاله منهم ، فربطوا في أرجلهم الحبال ، وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب ، وجعلوا يصيحون: هذا نبيُّكم محمد!! وأخذت جماعة منهم مصحفاً من المشاهد المحيطة بحلب ، وصاحوا: يا مسلمين أبصروا كتابكم!! ثم ثقبه أحدهم بيده ثمَّ شدَّه بخيطين ، وربطه بأسفل برذون قريب ، فراح هذا يروث عليه.. وكلما أبصر صاحبه الروث يتساقط على المصحف الشريف؛ صفَّق بيديه ، وضحك عجباً ، وزهواً.
د ـ المقاومة الحلبيَّة الشعبيَّة:
لم يكتف الصليبيون بهذا ، بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين ، فاضطر هؤلاء إلى مجازاتهم بالمثل ، وكان يقود المقاومة الإسلامية القاضي أبو الفضل بن الخشاب الذي كان قد تمرَّس على أعمال الدفاع منذ بداية العقد ، وكان ملك شعبية واسعةً في حلب ، فأصدر أوامره بتوجيه ضربات مباشرة في قلب معسكرات الغزاة ، فكانت جماعة من مقاتلي حلب تخرج سرَّاً لتغير على هذه المعسكرات ، فتقتل ، وتأسر ، وتقفل عائدةً من حيث أتت.... وفي الوقت نفسه كانت الرُّسل تتردَّد بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ، ولكن دون جدوى.
هـ استنجاد أهالي حلب بأمير ديار بكر:
ضاق الأمر بالمسلمين في حلب ، واعتصرهم الإرهاق ، والجوع ، فاتَّفق أميرهم بدر الدين الأرتقي ، وجماعةٌ من كبار المسؤولين على إرسال وفد من زعماء حلب إلى ديار بكر للاستنجاد بأميرها حسام الدين تمرتاش ، وتسلَّل أعضاء الوفد الثلاثة ليلاً ، ومضوا إلى ماردين ـ قاعدة ديار بكر ـ ليستغيثوا بأميرها علَّه يولي اهتماماً لما تعانيه حلب من ويلات ، وعندما وصلوا إلى هناك كان حسام الدين منهمكاً في الاستيلاء على بلاد أخيه سليمان؛ الذي كان قد توفي في تلك السنة ، الأمر الذي دفعه إلى إهمال شؤون حلب ، وعدم الاستجابة لمطالب وفدها ، وقد بقي أعضاء هذا الوفد فترةً من الوقت في ماردين يحثُّون حسام الدين على التوجُّه إلى حلب لإنقاذها من الحصار ، وهو يعدهم ، ويمنِّيهم ، ويماطلهم دون أن يقدم على أيِّ إجراء ، فأعملوه ،: أنَّهم لا يريدون سوى أن يصل بنفسه ، والحلبيون يكفونه أمر الغزاة إلا أنَّ مساعيهم فشلت. وفي نهاية المطاف تمكَّن الوفد الخلاص من مراقبة حسام الدِّين ، التي فرضها عليهم؛ حتى لا يغادروا ماردين للاستنجاد بأمير اخر خوفاً من ازدياد ضعف مركزه ، وفقدانه مدينة حلب ، واستطاع الوفد الاتصال بوالي الموصل السَّلجوقي« اق سنقر البرسقي».
و ـ آق سنقر البرسقي واستجابته لاستغاثة أهل حلب:
كان البرسقي حينذاك مريضاً ، وكان الضَّعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً ، فمنع الناس من الدخول عليه إلاَّ الأطباء ، ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك ، فأعلن البشائر في عسكره ، وارتفع عنده التكبير ، والتهليل ، ونادى بعضُ أصحابه أهل حلب: قد مات من أمَّلتم نصره؛ فكادت أنفس الحلبيين تزهق.
وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدُّخول؛ أذن البرسقي لهم ، فدخلوا عليه ، واستغاثوا به ، وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ، ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة ، فأجابهم الرَّجل: إنكم ترون ما أنا الان فيه من المرض ، ولكني قد جعلت لله عليَّ نذراً لئن عافاني من مرضي هذا؛ لأبذلنَّ جهدي في أمركم ، والذبِّ عن بلدكم ، وقتال أعدائكم ، ولم تمض ثلاثة أيام على مقابلته تلك حتى فارقته الحمَّى ، وتماثل للشفاء ، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل ، ونادى قواته لأن تتأهب لقتال الصليبيين ، وإنقاذ حلب ، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد ، فغادر الموصل متجهاً إلى الرَّحبة ، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق ، و«خيرخان» أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته ، فلبَّى هذان الأميران دعوته ، وبعثا عساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرَّك آنذاك صوب بالس القريبة من حلب ، وأرسل من هناك إلى مسؤوليها ، وشرط عليهم ـ مسبقاً ـ تسليم قلعة حلب لنوَّابه لكي يحتمي بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين ، فأجابوه إلى طلبه ، وما أن استتب الأمر لهؤلاء النواب ، واطمأنَّ الرَّجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه؛ حتى بدأ زحفه صوب مواقع القوات الصَّليبية التي تطوِّقُ حلب.
وصلت قوات طلائع البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة من سنة 518هـ وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة؛ حتى أسرع الصليبيون في التحوُّل إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية ، فعسكروا في جبل جوشن على الطريق إلى أنطاكية ، وهكذا غدوا في حالة الدِّفاع بعد أن كانوا مهاجمين ، وخرج الحلبيون إلى خيامهم ، فنالوا منها ما أرادوا ، بينما اتَّجه قسم اخر منهم لاستقبال البرسقي ، والاختفاء به لدى وصوله ، وقد أدرك الرَّجل ما يرمي إليه الصَّليبيون بانسحابهم ، واتخاذهم موقفاً دفاعياً ، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعساكره ، قد تُعَرِّض حلب للسقوط ، وأرسل طلائعه الكشفية لردِّ القوات المتقدِّمة إلى معسكراتها في حلب ، وقال موضحاً خطَّته هذه: ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ، ويهلك المسلمون؟!أََ ولكن قد كفى الله شرَّهم ، فلندخل إلى البلد ، ونقويه ، وننظر إلى مصالحه ، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم. ومن ثم دخل البرسقي حلب ، وبدأ بحلِّ مشاكلها ، ورفع مستواها الاقتصادي ، والاجتماعي ، فنشر العدل ، واصدر مرسوماً برفع المكوس ، والمظالم المالية ، وإلغاء المصادرات ، وعمَّت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما مُنوا به من الظلم ، والمصادرات ، وتحكم المتسلِّطين طيلة فترة الحصار الصَّليبي.
ولم يكتف البرسقي بذلك ، بل قام بنشاطٍ واسعٍ لجلب المؤن ، والغلال إلى المدينة؛ كي يخفِّف من حدَّة الغلاء ، ويقضي على الضائقة؛ التي يعانيها الحلبيُّون ، وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية ، حيث استأنف المزارعون العمل في الأراضي التي شُرِّدوا عنها ، كما عاد النشاط التجاري إلى سابق عهده اعتماداً على ما تمتَّعت به المنطقة من أمنٍ ، واستقرار. وهكذا استطاع البرسقي أن يُحْكِمَ الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب ، وأن يخلِّص هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية ، ويوحِّده مع الموصل لأوَّل مَّرة منذ بدء هذه الحروب ، الأمر الذي أتاح لهذا القائد ، ولعماد زنكي من بعده أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضدَّ الغزاة.
يقول المؤرخ الإنكليزي المعاصر ستيفن رنسمان: ...سرعان ما غدت الإمارة التي شكَّلها البرسقي نواةً لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متَّحدة زمن الزنكيين ، والأيوبيين والمماليك ، ولم يكن الصَّليبيون؛ الذين وحَّد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة ، وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها ، وما حدث إذاً من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قُدِّرَ لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوَّة الصليبيين في الشام. ونلاحظ حرص عامَّة المسلمين على الاندماج في كيانٍ إسلامي سُّني بغضِّ النظر عن القيادة سواءٌ كانت تركيةً ، أو عربيةً ، أو غيرها ، وإنما المهم من يقوم بواجب الدفاع عن الإسلام ، والمسلمين تحت راية أهل السنَّة.
ز ـ مقتل البرسقي:
في سنة 520هـ ثامن ذي القعدة ، قُتِلَ قسيم الدول اقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل ،قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع ، وكان يصلِّي الجمعة مع العامة ، وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أنَّ عدَّةً من الكلاب ثاروا به ، فقتل بعضها ، ونال منه الباقي ما اذاه ، فقضَّ رؤياه على أصحابه ، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدَّة أيام ، فقال: لا أترك الجمعة لشيءٍ أبداً ، فغلبوا على رأيه ، ومنعوه من قصد الجمعة ، فعزم على ذلك ، فأخذ المصحف يقرأ فيه ، فأول ما قرأ: {وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٣٨} [الأحزاب: 38] ، فركب إلى الجامع على عادته ، وكان يُصَلِّي في الصف الأول ، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عِدَّة الكلاب التي راها ، فجرحوه بالسَّكاكين ، فجرح هو بيده منهم ثلاثة ، وقتل رحمه الله ، وكان مملوكاً تركياً خيراً ، يحبُّ أهل العلم ، والصالحين ، ويرى العدل ، ويفعله ، وكان من خير الولاة ، يحافظ على الصَّلوات في أوقاتها ، ويصلِّي من الليل متهجِّداً.
ح ـ الباطنية من أخطر معوِّقات حركة الجهاد:
أثبت الباطنية عداءهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر ، وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشقُّ للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام ، والجزيرة على حساب المسلمين ، وهكذا أثبتت وقائع التاريخ كيف التقى قادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصرـ في بعض الأحيان ـ في الشهادة. فمن قبل اغتيل شرف الدين مودود ، والان نجد اق سنقر البرسقي يلقى نفس المصير ، وقد عكس ذلك كلَّه: أنَّ مسلك الإسماعيلية الترارية في ذلك الحين كان من أخطر معوقات حركة الجهاد ضدَّ الغزاة نظراً لوجود عدوين في وقتٍ واحدٍ أمام القيادات السُّنِّية على نحوٍ عكس المشاق البالغة التي واجهت أولئك القادة في الدِّفاع عن عقيدة الأمة ، ودينها ، وأعراضها، وأوطانها.
هذا؛ وإن كان اقسنقر البرسقي قد استشهد؛ فإنَّ قائمة المجاهدين عامرةٌ ، ومتأهبةٌ للقتال في سبيل الله ، ففي ربيع الاخر من عام 521هـ/1127م عهد السلطان محمود إمارة الموصل إلى عماد الدين زنكي وبظهوره على مسرح الأحداث بدأت صفحةٌ جديدةٌ في ميزان القوى بين المسلمين والصَّليبيين. وقد بدأ عماد الدين بتكوين جبهة إسلامية متَّحدة ضدَّ الصليبيين ، فسيطر على القلاع القريبة منه مثل جزيرة ابن عَمْرو ، ونصيبين ، وسنجار ، وبلاد الخابور ، وحرَّان ، ثمَّ اتَّجه تفكيره بعد ذلك للاستيلاء على حلب ، أكبر المراكز الإسلامية بشمال الشام ، وواتته الفرصة عندما علم باضطراب الأحوال بها ، وتهديد كلٍّ من جوسلين الثاني صاحب الرُّها ، وبوهمند الثاني صاحب أنطاكية لها ، فسارع عماد الدين زنكي إليها ، فلقيه أهلها بالبشر ، ودخل البلد في يوم الإثنين 13 جمادة الاخرة سنة 522هـ/1128م ، واستولى عليه ، ورتَّب أموره ، وأقطع أعماله الجنود ، والأمراء ، ويؤكد ابن الأثير على أهمية هذا الفتح بقوله: ولولا أنَّ الله تعلى مَنَّ على المسلمين بولاية الشهيد؛ لكان الفرنج استولوا على جميعه.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022