في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
نهاية الدولة الفاطمية
الحلقة: التاسعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
المعز لدين الله الفاطمي ودخوله مصر:
كان يتابع أحوال حكام ، وأمراء مصر عن كثب ، وأصبحت نفسه تسوِّل له الاستيلاء على مصر ، وبموت كافور الإخشيدي في سنة 355هـ اضطربت الديار المصرية ، فاقتنص المعزُّ الفرصة ، ولم يجعلها تمرُّ مرَّ السحاب ، فعزم، ودبر ، وأقدم على حفر الابار ، والقصور فيما بين القيروان إلى حدود مصر ، وحشد الجيوش العظيمة ، وجمع الأموال الجزيلة ، واختار جوهر الصقلِّي قائداً لتلك الجيوش؛ التي كانت تزيد عن مئة ألف ، وأمر المعزُّ كلَّ أمرائه ، وولاته أن يسمعوا ، ويطيعوا ، ويترجلوا في ركاب جوهر الصقلِّي ، وتحرَّكت الجيوش العبيدية لنقل المذهب الباطني إلى مصر؛ ليتخلَّص من الأزمات ، والثورات ، والصِّراعات العنيفة؛ التي قادها علماء أهل السنة في خمس عقودٍ متتالية في الشمال الإفريقي ، رافضين المذهب الباطني ، معلنين عقائد أهل السنة والجماعة ، فاستفاد المعزُّ من ضعف الحكم الإخشيدي التابع للدولة العباسية ، فرمى بسهامه المسمومة ، ودفع إليها جيوشه المحمومة طلباً من أعوانه ، وسعياً للقضاء على الدولة العباسية. وفي جمادى الاخرة سنة 358هـ استطاعت جيوش المعزِّ دخول مصر بقيادة جوهر الصقلي ، الذي لم يجد أيَّ عناء في ضمِّها لأملاك العبيديين. وجوهر الصقلي هذا هو الذي بني الأزهر؛ الذي تمَّ بناؤه سنة 361هـ ليكون محضناً لإعداد دعاة المذهب الإسماعيلي الباطني ، وبعد أن مُهِّدت مصر للمعزِّ؛ الفاطمي العبيدي؛ جهز جيوشه، وحاشيته ، وأهله ، وأمواله ، وسار مفارقاً شمال إفريقيا إلى مصر ، ليتولَّى أمرها ، فأسند زعامة الشمال الإفريقي إلى الأمير الصنهاجي بلكين بن زيري ، وضمَّ المعزُّ إلى مصر كلاً من طرابلس ، وسرت ، وبرقة ، وكان معه شاعره الذي غالى في مدح المعزِّ محمد بن هانىء الأندلسي؛ الذي قال:
فكأنَّما أنت النبيُّ محمد
ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدارُ
هذا الذي تجدي شفاعتُه غداً
وكأنَّما أنصارُك الأنصار
فَاحْكُم فأنتَ الواحدُ القهَّار
حقَّاً وتخمد أن تراه النَّار
ومن شعره في المعز:
النور أنت وكلُّ نورٍ ظلمةٌ
فارزق عبادك فَضْلَ شفاعةٍ
ومنه:
تدعوه منتقماً عزيزاً قادراً
أقسْمتُ لولا أن دُعيتَ خليفةً
شهدت بمفخرك السموات العُلا
وعلمتَ من مكنون سرِّ الله ما
لو كان اتى الخلقَ ما أوتيته
والفوق أنتَ وكلُّ فوقٍ دون
وأقرب بهم زُلفى فأنت مكين
غفاراً موبقةَ الذنوب صفوحا
لدُعيتَ من بعد المسيح مسيحا
وتنزل القرآن فيك مديحاً
لم يؤت في الملكوت ميكائيلا
لم يَخْلُق التَّشبيهَ والتَّأويلا
وكانت بداية رحلة المعز نحو مصر في 362هـ وقتل ابن هانىء في برقة في رجب سنة 362هـ وهو في الثانية والأربعين من عمره ، ووجدوا جثته مرميةً رمي الكلاب على ساحل بحر برقة ، وتأسَّف المعزُّ على قتله ، وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق ، فلم يقدَّر لنا ذلك. واستمر المعزُّ في سيره حتى قارب الحدود المصرية ، ووصل الإسكندرية يوم 23 من شعبان سنة 362هـ واستقبلته وفود عظيمة من أعيان القادة ، والزُّعماء ، والحكَّام في مصر ، وامتدَّ ملك المعز من سبته بالمغرب إلى مكة بالمشرق يأتمر بأوامره سكان وساحل المحيط الأطلنطي ، وبقي المعزُّ في مصر سنتين ونصف ، وتوفي بالقاهرة في السابع من ربيع الأول سنة 365هـ ودامت ولايته بإفريقية ، ومصر ثلاثاً وعشرين سنة.
قال الذهبي: ظهر في هذا الوقت الرفض ، وأبدى صفحته ، وشمخ بأنفه في مصر ، والشام ، والحجاز ، والمغرب بالدولة العُبيدية ، وبالعراق ، والجزيرة ، والعجم بني بُوَيه ، وكان الخليفة المطيع ضعيف الرتبة مع بني بُوَيْه ، وضعف بدنه ، ثم أصابه فالج ، وخَرَسٌ ، فعزلوه ، واقاموا ابنه الطائع لله ، وله السكَّة ، والخطبة ، وقليلٌ من الأمور ، فكانت مملكة المعزِّ أعظم ، وأمكن.
زوال الدَّولة الفاطمية من شمال إفريقية:
استطاع بعض فقهاء المالكية أن يصلوا إلى ديوان الحكم في دولة صنهاجة التابعة للدولة الفاطمية بمصر ، وأثَّروا في بعض الوزراء ، والأمراء ـ الذين كان لهم الفضل بعد الله في تخفيف ضغط الدولة على علماء أهل السنة ـ واستطاع العلامة أبو الحسن الزجال أن يؤثر في الأمير المعز بن باديس الصنهاجي في تربيته على منهج أهل السنة ، وأعطت هذه التربية ثمارها بعدما تولى المعزُّ إفريقية في ذي الحجة سنة 406هـ وكان عمل العلامة أبو الحسن في السرِّ بدون أن يعلم به أحدٌ من الشيعة الرافضة، وكان هذا العالم فاضلاً ذا خلق، ودين، وعقيدة سليمة، ومبغض للمذهب الشيعي الباطني ، واستطاع أن يغرس التعاليم الصحيحة في نفسية ، وعقلية ، وفكر المعز بن باديس؛ الذي تمَّ على يديه القضاء على مذهب الشيعة الإسماعيلية في الشَّمال الإفريقي.
وقد وصف الذهبي المعز بن باديس ، فقال: وكان ملكاً مهيباً ، وثَرِيَّا شجاعاً ، عالي الهمَّة ، محباً للعلم ، كثير البذل ، مدحه الشعراء ، وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثر بإفريقية ، فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسماً لمادة الخلاف ، وكان يرجع إلى الإسلام ، فخلع طاعة العبيدية ، وخطب للقائم بأمر الله العباسي ، فبعث إليه المستنصر يتهدَّده ، فلم يخفه، وردَّ المعزُّ بن باديس على خطاب المستنصر الفاطمي بمصر الذي هدَّده فيه ، وقال له: هلا اقتفيت اثار ابائك في الطاعة ، والولاء... في كلام طويل ، فأجابه المعزُّ: إن ابائك ، وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يتملَّكه أسلافُك ، ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم ، ولو أخروهم؛ لتقدموا بأسيافهم.
وبينت لنا كتب التاريخ: أن المعزَّ بن باديس تدرَّج في عدائه للشيعة الرافضة الباطنية ، ولحكام مصر ، وظهر ذلك في عام 435هـ عندما وسَّع قاعدة أهل السنة في جيشه ، وديوانه ، ودولته ، فبدأ في حملات التطهير للمعتقدات الباطنية ، ولمن يتلَّذذ بسببِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوعز للعامة ، وللجنود بقتل من يظهر الشتم ، والسب لأبي بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما ، فسارعت العامَّة في كلِّ الشمال الإفريقي للتخلُّص من بقايا العبيديين ، ليصفى الشمال الإفريقي من المعتقدات الفاسدة الداخيلة عليه ، وأشاد العلماء ، والفقهاء بهذا العمل الذي أشرف على تنفيذه المعزُّ بن باديس ، رحمه الله ، وذكر الشعراء أشعاراً في مدح المعز ، فقد قال القاسم بن مروان في تلك الحزادث:
وسوف يُقتلون بكلِّ أرضٍ
كما قُتِلوا بأرض القيروان
وقال آخر:
يا معزَّ الدين عِشْ في رفعةٍ
أنت أرضيتَ النبيَّ المصطفى
وجعلت القتل فيهم سنَّةً
وسرورٍ واغتباطٍ وجذل
وعتيقاً في الملاعين السفل
بأقاصي الأرض في كلِّ الدول
واستمرَّ المعزُّ بن باديس في التقرُّب إلى العامة ، وعلمائهم ، وفقهائهم من أهل السنة ، وواصل السير في تخطيطه للانفصال الكلي عن العبيديين في مصر ، فجعل المذهب المالكي هو المذهب الرَّسمي لدولته ، وأعلن انضمامه للخلافة العباسية ، وغيَّر الأعلام إلى العباسيين ، وشعاراتهم ، وأحرق أعلام الدولة الفاطمية ، وشعاراتهم ، وأمر بسبك الدَّراهم ، والدَّنانير التي كانت عليها أسماء العبيديين ، والتي استمرَّ الناس يتعاملون بها 145 سنة ، وأمر بضرب سكَّةٍ أخرى كتب على أحد وجهيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكتب على الآخر: {وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥} [آل عمران: 85] وقضى المعز بن باديس على كلِّ المذاهب المخالفة لأهل السنة من الصُّفرية ، والنكارية ، والمعتزلة ، والإباضية وفي سنة 443هـ انضمَّت برقة كلُّها إلى المعز بن باديس بعد ان أعلن أميرها جبارة بن مختار الطاعة له ، وكلن أوَّل من قاد حملة التطهير على الشيعة الإسماعيلية في طرابلس ، وحارب تقاليدهم الباطلة ، ودعوتهم المضلِّلة هو العلامة علي بن محمد المنتصر، وكنيته أبو الحسن، المتوفي عام 432هـ.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf