الثلاثاء

1446-11-08

|

2025-5-6

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
المدارس النظامية ودورها في الإحياء السُّنِّي والتَّصدِّي للفكر الشِّيعي الرافضي

الحلقة: الحادية العشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المدِّ الشيعيِّ الإماميِّ ، والإسماعيليِّ الرافضيِّ عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ ، فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً ، وسنِّياً متحمساً هو: الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك ، فرأى هذا الوزير: أنَّ الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية ، والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح على المدى البعيد؛ إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومةٌ فكرية ، ذلك أنَّ الشيعة ـ إماميةً كانوا ، أو إسماعيليةً ـ نشطوا في هذه الفترة ، وما قبلها إلى الدَّعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعدَّدة ، وهذا النشاط الفكري ما كان لينجح في مقاومته إلا نشاط سنِّيٌّ مماثل يتصدَّى له بالحجَّة ، والبرهان فقد كانت الدولة الفاطمية تقوم بإعداد الدُّعاة من خلال جامع الأزهر؛ الذي جعلوا منه مؤسَّسةً تعليميَّةً تعنى بنشر مذهبهم في عام 378هـ.
هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تعد بعناية خاصَّةٍ في عاصمة الدولة الفاطمية لإعداد الدُّعاة، وتثقيفهم ثقافة مذهبيةً واسعةً قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي ، وكان لذلك أثر في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجةً لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة ، لذلك كلِّه فكَّر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به ، ومعنى ذلك: أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً ، وتربية الأمة على كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستَمدَّة من الوحي الإلهي. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية؛ التي نسبت إليه؛ لأنَّه هو الذي جدَّ في إنشائها ، وخطَّط لها ، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة ، واختار لها الأكفاء من الأساتذة ، فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السَّلاجقة.
وقد وفق الله نظام الملك توفيقاً قلَّ نظيره في التاريخ السياسي ، والعلمي ، والديني ، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً وعلى الخصوص نظامية بغداد؛ التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون؛ إذ كان اخر مَنْ عرفنا ممَّن درس فيها صاحب القاموس الفيروز ابادي المتوفى سنة 817هـ؛ حيث زالت في نهاية القرن التاسع الهجري وأدَّت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السنِّي الشافعي ، وزوَّدت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن ، وبخاصةٍ دوائر القضاء ، والحسية ، والاستفتاء ، وهي من أهمِّ وظائف الدولة في ذلك العصر ، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي؛ حتى اخترقوا حدود الباطنية في مصر ، وبلغوا الشمال الإفريقي ، ودعموا الوجود السنِّي بها. لقد تخرج من هذه المدارس جيلٌ تحقَّق على يديه معظم الأهداف؛ التي رسمها نظام الملك ، فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا منها يرحلون إلى أقاليم أخرى؛ ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي ، والحديث الشريف ، ونشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار؛ التي انتقلوا إليها ، أو يتولوا مجالس القضاء ، والفتيا ، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية الهامة في دواوين الدولة ، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي ـ أوَّل مدرس بنظامية بغداد ـ بقوله: خرجت إلى خراسان ، فما بلغت بلدةً ، ولا قريةً إلا وكان قاضيها ، أو مفتيها ، أو خطيبها تلميذي ، أو من أصحابي.
وقد ساهمت هذه المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوَّة ، وكان من أبرز اثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي ، وخاصةً بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس ، وكان الإمام الغزالي على قمَّة المفكرين الذين شنُّوا حرباً شعواء على الشيعة الرافضة. وقد مهَّدت المدارس النظامية بتراثها ، ورجالها ، وعلمائها السبيل ، ويسَّرته أمام نور الدين زنكي ، والأيوبيين؛ كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات ، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح وخاصةً في المناطق التي كانت موطناً لنفوذ الشيعة في تلك المرحلة ، كالشَّام ، ومصر ، وغيرها.
إنَّ من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المشروع الباطني الجديد النشط في أنحاد المعمورة ، وقد استهدف عقيدة الأمة ، وكتاب ربِّها ، وسنَّة نبيها ، وتاريخها ، وعظماءها ، فهل نستلهم الدروس ، ونستخرج العبر ، ونعمل بالسنن ، والقوانين الإلهية في الدَّعوة إلى الإسلام الصحيح؛ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيكون من حكامنا مثل ألب أرسلان في شجاعته ، ومن وزرائنا كنظام الملك في همَّته ، وغيرته ، ومن علمائنا كالجويني ، والغزالي ، والبغوي ، والجيلاني ، وعلماء المغاربة الأفذاذ في دفاعهم عن الكتاب ، والسنة ، والصحابة ، وقضايا الفكر الإسلامي الصَّحيح ، ونوظف الوسائل الحديثة في بثِّ عقائد الإسلام الصحيحة ، وتاريخه الموثَّق ، وفكره البديع من خلال الفضائيات ، والإنترنت ، والمطابع ، والجرائد ، والمجلات ، والكتب ، والنَّدوات ، والمؤتمرات ، والمناهج ، والمدارس ، والجامعات ، ووسائل الدَّعوة بأنواعها ، نريد بذلك وجه الله ، والدار الاخرة ، ومرافقة النبيين ، والصدِّيقين ، والشهداء ، والصالحين.
جهود الإمام الغزالي في دحر الشيعة الباطنية:
إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية: أنَّها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني؛ فإنَّ وهذا الأمر لم يكن بالأمر السهل ، بل كان نتيجة لجهود مضنية ، وتضحيات رائعة ، وتكاتف للجهود ، وقد كان من أبرز اثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي ، وخاصةً بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس ، وكان الإمام الغزالي ـ العالم السني ـ على قمَّة المفكرين الذين شنُّوا حرباً شعواء على الشِّيعة الرافضة الباطنية؛ إذ يذكر هو: أنه ألف في ذلك كتباً عدَّة: اشهرها: فضائح الباطنية الذي كُلِّف بتأليفه في 487هـ من قبل الخليفة المستظهر، على أنَّ الشيء المثير للإعجاب هو شجاعة الغزالي في حملته على الإسماعيلية الباطنية؛ التي جاءت في وقت انتشر فيه دعاتهم في فارس ، وتزايد خطرهم؛ حتى أقاموا الحصون ، والقلاع ، وهدَّدوا أمن الناس ، وسلامتهم ، وقاموا بالاغتيالات على نطاقٍ واسع، فشملت كثيراً من الساسة، والمفكرين، وعلى رأسهم نظام الملك نفسه.
والغزالي قام بهذه الحملة بتوجيه من السُّلطة ، مع رغبة الغزالي العالم السني في القيام بواجبه في الدفاع عن الإسلام الحقيقي ، وهذا شيءٌ جميل لمَّا تلتقي جهود السُّلطة السياسة مع علمائها في تحقيق أهداف الإسلام من خلال مؤسَّسات نافعة للمجتمع ، والدولة ، كالذي قامت به المدارس النظامية في مقاومة الفكر ، والنفوذ الشيعي الباطني، فقد كانت الدولة الفاطمية قد تذرعت بالفلسفة ، والعقيدة الباطنية ، وظهرت في مظهر ديني سياسي ، فكانت كما يقول الأستاذ الندوي ـ أشدَّ خطراً على الإسلام من الفلسفة ، فقد كانت الفلسفة تعيش في برجها العاجي بعيداً عن الشعب ، والجمهور ، وأما الباطنية فكانت تتسرَّب إلى المجتمع ، وتنفث سمومها فيه ، وكان لها الإغراءات المادية القوية.
ولم يكن في العالم الإسلامي في اخر القرن الخامس أحد أجدر بالردِّ عليها، والكشف عن أسرارها ونقض ما تبني دعوتها من الغزالي ، وكان لكتابات الغزالي أثرٌ قويٌّ في مجال الردِّ على الباطنية ، فقد استطاع بفكره القوي ، وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية ، وأن يناصر المذهب السني ، فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية ، والعلوم العقلية من الفلسفة ، والمنطق ، والكلام في نسف جذور المذهب الباطني ، وقال فيهم كلمته التي طار بها الركبان ، وسارت مسير الأمثال: «ظاهرهم الرفض ، وباطنهم الكفر المحض ، فهم يتسترون بالتشيُّع ، وما هم من الشيعة في شيء ، وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام».
وممَّا يذكر للغزالي: استمراره على نقد هذه الطائفة ، وكشف اللثام عن تناقض أفكارها ، وفضائح أعمالها ، وسوء نواياها ، برغم ما كان معلوماً في ذلك الوقت: أنَّ هذا النقد قد يكلِّفه حياته ، وقد رأى بنفسه مصرع رجل الدولة الكبير الوزير نظام الملك ، وكانت الشيعة الباطنية تهدِّد كلَّ من يرونه خطراً عليهم من رجال الملك ، أو رجال العلم بالانتقام في صورة طعنةٍ في خنجر ، أو سمٍّ يدس في طعام ، أو غير ذلك من الأساليب التي أتقنوها ، ونفذوها بكلِّ دقة. وهذا إن دلَّ على شيءٍ؛ فإنما يدل على شجاعة الغزالي في صدعه بالحقِّ ، ومواجهة الباطل ، مهما تكن النتيجة ، ولن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وهذا درس ، وتذكير للعلماء المعاصرين أن يصدقوا الله في مقاومة الباطنيين الجدد ، وقد رأيت بعض المحسوبين على العلماء يخشونهم ، ويخافون من القتل ، والاغتيال ، أو تهمة الطائفية ، أو بعضهم وقع تحت تأثير إبر التخدير الباطنية ، ومجاملات لا وزن لها في ميزان الشريعة ، أو حسابات دنيوية زائلة ، ولذلك تركوهم يعيثون بعقائد الأمة ، ومقدَّساتها ، وساهم بعض علماء الأمة في تخدير الجمهور العريض من أبناء المسلمين؛ مع علم هؤلاء العلماء بخطر هؤلاء القوم على عقائد الأمَّة ، وأخلاقها ، أما يخشى هؤلاء الناس من يومٍ تتقلَّب فيه القلوب ، والأبصار ، ويسأل اللهُ فيه الصادقين عن صدقهم؟!.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022