الإثنين

1446-11-07

|

2025-5-5

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
أساليب المغاربة في مواجهة الدولة الفاطمية العبيدية

الحلقة: الثامنة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

لقد سلك علماء السنَّة المغاربة في مقاومة التشيع أساليب عديدة ، منها: المقاومة السلبية ، والمقاومة الجدلية ، والمقاومة المسلَّحة ، وكانت هناك أنواع أخرى من المقاومة ، مثل: عن طريق التأليف ، وعن طريق نظم الشعر..إلخ.
أ ـ المقاومة السلبية:
أولى الوسائل التي استعملها علماء المغرب السنَّة في مقاومة التيار الشيعي: الوسيلة السلبية ، ونعني بها: المقاطعة الجماعية التي قاطع بها علماء المغرب كلَّ ماله صلة بالتشيُّع ، أو بالحكم القائم ، وتمثَّلت تلك المقاطعة في مقاطعة قضاة الدولة ، وعمَّالها ، ورفض من استطاع منهم دفع الضرائب لها.ومن مظاهر هذه المقاومة مقاطعة حضور صلاة الجمعة التي كانت مناسبة لِلَعْنِ أصحاب رسول الله على المنابر ، فتعطلت بذلك الجمعة دهراً بالقيروان. ومنهم من اكتفى بالدُّعاء عليهم ، كما فعل الواعظ عبد الصمد ، وكما كان يفعل أبو إسحاق السبائي الزاهد إذا رقى رقية يقول بعد قراءة الفاتحة ، وسورة الإخلاص ، والمعوذتين: وببغضي في عبيد الله ، وذرِّيته ، وحبِّي في نبيك ، وأصحابه ، وأهل بيته اشف كلَّ من رقيته. ومن مظاهر المقاومة السلبية أيضاً: مقاطعة كلِّ من يسير في ركب السُّلطان ، واعتزاله ، وكل من كانت له صلة بهذا السلطان ، أو سعى إلى تبرير وجوده عملاً بقوله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ} [المجادلة: 22] . فهذا خلف بن أبي القاسم البراذعي (ت نحو 400هـ) قام عليه فقهاء القيروان لصلته بملوك بني عبيد ، وقبوله هداياهم ، وتأليفه كتاباً في تصحيح نسبهم ، وزادت النقمة عليه عندما وجدوا بخطِّه الثناء على بني عبيد متمثلاً ببيت الحطيئة:
أولئك قومٌ إنْ بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا

لذلك كله أفتى فقهاء القيروان بطرح كتبه ، وعدم قراءتها ، وإزاء ذلك اضطر هو إلى الهجرة إلى صقلية حيث حصلت له حظوةٌ كبيرةٌ عند أميرها.
ب ـ المقاومة الجدلية:
كانت المقاومة الجدلية هي أقوى ، وأوسع أنواع المقاومة التي قام بها علماء السنة المغاربة ضد الشيعة الرافضة المنحرفين ، وقد سطع في سماء هذه المساجلات العلمية ، والمناظرات العقدية عددٌ كبير من العلماء ، وكانوا لسان أهل السنة الناطق ، والذابَّ عن بيضة هذا الدين ، وممن لمع نجمه في ميدان المناظرة: الشيخ عبد الله بن التبان (371ت) وقد اشتهر بسبب مناظراته لبني عبيد؛ حتى ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار المختلفة لعلمه بالذبِّ عن مذهب أهل السنة ، وكان هذا الإمام ـ فضلاً عن براعته في الجدل ، والمناورةـ شجاعاً ، مقداماً ، لا يهاب الموت ، من ذلك ما ذكره المالكي ، والدباغ من أن عبد الله المعروف بالمحتال ، صاحب القيروان قد شدَّد في طلب العلماء ، فاجتمعوا بدار ابن أبي زيد القيرواني ، فقال لهم ابن تبَّان: أنا أمضي إليه ، أبيع روحي لله دونكم؛ لأنه إن أتى عليكم؛ وقع على الإسلام وهنٌ عظيم. وفعلاً ذهب إليه ، وأقام عليه الحجَّة هو ، وجماعته الذين جاء بهم؛ ليناظروه وبعد أن هزمهم في مجلس المناظرة؛ لم يخجلوا أن يعرضوا عليه أن يدخل في نحلتهم ، ولكنه أبى ، وقال: شيخ له ستون يعرف حلال الله ، وحرامه ، ويردُّ على اثنين وسبعين فرقة يقال له هذا؟ لو نشرتموني في اثنتين ما فارقت مذهب!.
ولما خرج من عندهم بعد يأسهم منه؛ تبعه أعوان الدولة الفاطمية العبيدية ، وسيوفهم لصلته عليه ليخاف من يراه من الناس على تلك الحال ، فإذا به ـ وهو تحت الضغط ـ يهدي الناس ، ويقدم لهم النصيحة ، ويقول لهم دون خوف ، ولا وجل: تشبثوا ، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام ، فإن فارقتموه؛ هلكتم. وكان يخشى على العامَّة من فتنة بني عبيد ، ويقول: والله ما أخشى عليهم الذنوب؛ لأن مولاهم كريم ، وإنما أخشى عليهم أن يشكُّوا في كفر بني عبيد ، فيدخلوا النار.
وممن اشتهروا بالذبِّ عن الإسلام ، وأشهروا حجج الحقِّ ، وبراهين العدل ، وإقامة الحجَّة على دعاة الدولة الفاطمية أبو عثمان سعيد بن الحداد (ت302هـ) لسان أهل السنة ، وابن حنبل المغرب قال عنه السلمي: كان فقيها صالحاً ، فصيحاً ، متعبداً ، أوحد زمانه في المناظرة ، والردِّ على الفرقة. وقال عنه الخشني: كان يردُّ على أهل البدع المخالفين للسنة ، وله في ذلك مقاماتٌ مشهودة ، واثارٌ محمودة ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب ، حتى مثَّله أهل القيروان بأحمد بن حنبل. وقال عنه المالكي: وكانت له مقاماتٌ في الدين مع الكفرة المارقين أبي عبيد الله الشيعي ، وأبي العباس أخيه ، وعبيد الله ،أبان فيها كفرهم ، وزندقتهم ، وتعطيلهم. حاولت الدولة الفاطمية بالمغرب إجبار الناس على مذهبهم بطريقة المناظرة ، وإقامة الحجَّة مرةً ، والتهديد بالقتل مرَّة أخرى ، فارتاع الناس من ذلك ، ولجؤوا إلى أبي سعيد ، وسألوه التقية ، فأبى ، وقال: قد أربيت عن التسعين ، ومالي في العيش حاجةً ، ولا بدَّ لي من المناظرة عن الدِّين ، أو أن أبلغ في ذلك عذراً! ففعل ، وصدق ، وكان هو المعتمد عليه بعد الله في مناظرة الشيعة. ومن أشهر هذه المناظرات:
ـ التفاضل بين أبي بكر وعليٍّ رضي الله عنهما:
وأول هذه المناظرات ـ كما يذكر صاحب المعالم ـ حول التفاضل بين أبي بكر ، وعليٍّ ، رضي الله عنهما ، فبعد الاجتماع بين ابن الحداد ، وأبي عبيد الله الشيعي سأل أبو عبيد الله الشيعي ابن الحداد: أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيْرَهم ـ يعني بأصحاب الكساء: محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، رضي الله عنهم ، ويعني بغيرهم: أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال أبو عثمان: أيُّما أفضل: خمسة سادسهم جبريل ، عليه السلام ، أو اثنان الله ثالثهما؟ فبهت الشيعيُّ.
ـ موالاة عليٍّ رضي الله عنه:
في هذه المناظرة أراد عبيد الله الشيعي أن يثبت أنَّ الموالاة في قوله عليه الصلاة ، والسلام: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» بمعنى العبودية: قال له: فما بال الناس لا يكونون عبيداً لنا؟ فقال ابن الحداد: لم يُرِدْ ولاية رقٍّ، وإنما أراد ولاية الدِّين، ثم قرأ ـ قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّ‍ۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩ وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠} [آل عمران: 79 و80] .ثم قال: فما لم يجعله الله لنبيٍّ؛ وعليٌّ ـ رضي الله عنه ـ لم يكن نبياً، وإنما كان وزيراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم . هذه إشارات عابرة، وهي جزءٌ صغير من مجموع المناظرات التي دارت بين الفريقين.
ج ـ المقاومة المسلَّحة:
لم يكتف علماء المغرب بالمقاومة السلبية، والمقاومة الجدلية، بل منهم من حمل السلاح، وخرج ليقاتلهم. فهذا جبلة بن حمود الصدفي ترك سكن الرباط، ونزل القيروان ، فلمَّا كُلِّم في ذلك؛ قال: كنا نحرس عدواً بيننا، وبينه البحر، والآن حل هذا العدوُّ بساحتنا، وهو أشدُّ علينا من ذلك، وقال: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك. واستدلَّ بقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ} [التوبة: 123] .
ومنهم الإمام: أبو القاسم الحسن بن مفرج (ت309هـ) الذي كان من أوائل من خرج على الشيعة ، ومات شهيداً ، قتله عبيد الله المهدي ، وصُلِبَ ، هو ورجل يدعى أبا عبد الله السدري؛ الذي كان من الصالحين ، وكان قد بايع على جهاد عبيد الله ، وجعل يحثُّ الناس على جهاده ، فبلغ خبره عبيد الله ، فأمر بقتله.
ثم إنَّ العلماء خطوا خطوةً أكبر بإصدار فتوى بوجوب قتال الدَّولة الفاطمية العبيدية ، وكان ذلك بعد اجتماعٍ ، وتشاور بين علماء السنَّة ، وتحالفوا مع أهل القبلة ضدَّ الفاطميين؛ الذين حكموا عليهم بالكفر لمعتقداتهم الفاسدة. قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولاني: خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي ـ رحمه الله ـ مع شيوخ إفريقية إلى حرب بني عبيد مع أبي يزيد ، فكان أبو إسحاق يقول ـ ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد ـ: هؤلاء من أهل القبلة وهؤلاء ليسوا من أهل القبلة ـ يريد عسكر بني عبيد ـ فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من هو على غير القبلة ـ فإن ظفرنا بهم؛ لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد؛ لأنه خارجيٌّ، والله عزَّ وجلَّ يسلط عليه إماماً عادلاً ، فيخرجه من بين أظهرنا ، ويقطع أمره عنَّا.
والذين خرجوا معه من الفقهاء ، والعباد: أبو العرب ابن تميم ، وأبو عبد الملك مروان نصروات ، وأبو إسحاق السبائي ، وأبو الفضل ، وأبو سليمان ربيع بن القطَّان ،
وغيرهم كثير. وفي الموعد المحدَّد خرج العلماء ومن ورائهم وجوه القوم ، وعامَّتهم في أعدادٍ غفيرة ، لا يحصيهم عدٌّ ، ولم يتخلَّف من العلماء ، والصلحاء أحدٌ إلا العجزة ، ومن ليس عليهم حرج ، وكان ربيع القطان في طليعة الصفوف راكباً فرسه ، وعليه الة الحرب متقلِّداً مصحفه ، وهو يقول: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابةً من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك ، وأعداء نبيك! وقد أبلى العلماء في تلك المواجهة بلاءً حسناً ، وقدَّموا صوراً حقيقيةً للجهاد في سبيل الله لأعداء الإسلام ، واستشهد منهم مالا يقل عن الثمانين عالماً ، منهم: ربيع القطان ، والميسي ، وغيرهما ، وحققوا انتصاراً باهراً ، وكادوا يستولون على المهدية ، لولا أنَّ ساعة الغدر حلَّت، ورجعت الكرة عليهم حين خدعهم أبو يزيد ، وأسفر عن وجهه القبيح المناوىء لأهل السنَّة ، وأمر جنده أن ينكشفوا عنهم بقوله: إذا التقيتم مع القوم؛ فانكشفوا عن أهل القيروان؛ حتى يتمكَّن أعداؤكم من قتلهم لا نحن ، فنستريح منهم. وكان غرضه من تلك الفعلة الشنيعة ، والخدعة المنكرة الراحةَ منهم؛ لأنه فيما ظنَّ إذا قتل شيوخ القيروان ، وأئمَّة الدين؛ تمكن من أتباعهم ، فيدعوهم إلى ما شاء الله ، فيتبعونه فهزم شرَّ هزيمة ، حيث انضمَّ عددٌ قليل من جنده إلى صفوف عدوِّه ، ولم يبق له من الجند إلا القيل ، وقتل شرَّ قتلة ، وكانت نهايته يوم 30محرم سنة 336هـ.
وقد أثرت هذه المواجهة بين السنة ، والشيعة على الساحة المغربية فيما بعد ، حيث استمرَّت المقاومة فيمن جاء بعدهم؛ حتى بعد خروج بني عبيد من المغرب ، فكانوا يبحثون عن مراكز وجود الشيعة ، فإذا عثروا عليهم؛ قتلوهم ، وسلبوا أموالهم ، فقد ذكر ابن عذارى في البيان المغرب: أنه كان بمدينة القيروان قوم يتستَّرون بمذهب الشيعة من شرار الأمة ، انصرفت العامة إليهم من فورهم ، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً: رجالاً ، ونساءً ، وانبسطت أيدي العامة على الشيعة ، وانتهبت دورهم ، وأموالهم، ويصف القاضي عياض هذه الحادثة: وكان ابتداء ذلك اليوم الجمعة منتصف المحرم ، قتلت العامة الرافضة أبرح قتلٍ بالقيروان ، وحرقوهم ، وانتهبوا أموالهم ، وهدموا دورهم ، وقتلوا نساءهم ، وصبيانهم ، وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلَّطها عليهم ، وخرج الأمر من القيروان إلى المهدية ، وإلى سائر بلادهم ، فقتلوا ، وأحرقوا بالنار ، فلم يُترك أحدٌ منهم في إفريقية إلا من اختفى. وهكذا كان هذا النوع من المقاومة هو أشدُّ الأنواع ، وأنكاها ، طهَّر الله به أرض المغرب من بدعة التشيُّع الباطني الرافضي.
د ـ المقاومة عبر التأليف:
وكانت المقاومة عبر التأليف من الوسائل المجدية ، والنافعة في مقاومة الشيعة ، والتي كان لها أثرٌ طيب في إقلاقهم ، وقض مضاجعهم ، وإعلانهم الحرب على مَنْ يفعل ذلك ، كما كان لها أثر في تبصير العامة بالحق ، وإرساء دعائم السنة ، وكانت هذه المؤلفات تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: المؤلفات التي تتناول مسائل العقيدة جملةً وفق منهج أهل السنة ، والجماعة ، ومن بين المسائل التي تتناولها مسألة الإمامة عند أهل السنة ، وأفضلية أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليِّ ، رضي الله عنهم أجمعين ، وشرعية خلافة الثلاثة خلافاً للشيعة الرافضة ، والترضِّي عن اصحاب رسول الله جميعاً من غير تفريقٍ بينهم ، واعتبارهم جميعاً عدولاً خلافاً للشيعة الذين يكفِّرونهم ، ويفسِّقونهم عدا نفرِ قليل منهم. فهذا النوع من التأليف كان له أثرٌ عميق في تبصير الناس بدينهم ، ونشر المذهب الحقِّ فيهم ، حتى أصبحوا يعتبرون كلَّ من خالف هذه العقيدة مخالفاً للإسلام ، وخارجاً عن جماعة المسلمين ، يجب فيه كلُّ ما يجب في الكافر من المعاداة ، والقتال ، والمقاطعة ، ووغير ذلك من المعاملة ، لعلَّه يرتدع ، ويرجع ، ويتوب.
والنوع الثاني: المؤلفات التي ألفت للردِّ على الشيعة خاصَّةً ، وعلى عقائدهم الباطلة: وهذا النوع من التأليف ـ كما سبق الحديث عنه ـ جاء نتيجة ظروفٍ خاصَّةٍ أوجبت على أهل السنة الردَّ عليهم ، وتفنيد شبههم ، ودحض باطلهم. ومن هذا الصنف من المؤلفات نذكر كتابَيْ «الإمامة» اللَّذين ألفهما الإمام محمد بن سحنون ، وهما أعظم ما ألف في هذا الفنِّ. يقول عيسى بن مسكين: وما ألف في هذا الفنِّ مثلهما ، وكتاب الإمامة للإمام إبراهيم بن عبد الله الزبيري ، وكتاب «الردُّ على الرافضة» له أيضاً ، واللذان كانا السبب في محنته ، وسجنه، وضربه من قبل الدولة الفاطمية العبيدية. فهذا النوع كان له أثره في المقاومة.
هـ مقاومة شعراء أهل السنة:
إلى جانب وسيلة التأليف كانت هناك وسيلةُ نظم الشعر لهجو بني عبيد ، وذمِّهم ، وقد برز في هذا الميدان كثيرٌ من الشعراء ، منهم: ابو القاسم الفزاري ، فقد وصفهم ، ووصف سلوكهم ، فقال:
عبدوا ملوكَهم وظنُّوا أنَّهم
وتمكَّن الشيطان من خطواتهم
رغبوا عن الصدِّيق والفاروق في
واستبدلوا بهما ابن الأسود نابحاً
تبعوا كلاب جهنَّم وتأخَّروا
أمِنَ اليهود؟ أم النَّصارى؟ أم هم
أم هم من الصَّابئين أم من عُصبةٍ
أم هم زنادقة معطلة رأوا
أم عصبةٌ ثنويةٌ قد عظَّموا
سبحان مَنْ أبلى العباد بكفرهم
يا ربِّ فالعنهم ولقِّهم
نالوا بهم سببَ النَّجاة عموما
فأراهم عِوَج الضَّلال قويما
أحكامهم لا سلموا تسليما
وأبا قدارة واللَّعين تميما
عمَّن أصارهم الإلهُ نجوما
دهريَّةٌ جعلوا الحديثَ قديما
عبدوا النَّجومَ وأكثروا التنجيما
أن لا عذاب غداً ولا تنعيما
النورين عن ظلماتهم تعظيما
وبشركهم حقباً وكان رحيماً
بأبي يزيد من العذاب أليما

ومن أشهر ما قاله قصيدته الرائية التي انتشرت في الآفاق ، والبلدان ، والتي قال فيها:
عجبت لفتنة أعمتْ وعمَّت
تزلزلت المدائنُ والبوادي
وضاقت كلُّ أرضٍ ذات عرض
فنجَّى القيروان وساكنيها
أحاط بأهلها علماً وخبراً
وجلَّلهم بعافيةٍ وأمنٍ
وأثبت جلَّة العلماء فيها
ومنها سادة العلماء قدماً
وفيها القوم عبَّادٌ خيارٌ
هم افتكُّوا سبايا كلِّ أرضٍ
كفيناهم عظمائمها جميعاً
يقوم بها دعيٌّ أو كفورُ
لها وتلَّونتْ منها الدُّهورُ
ولم تغن المعاقلُ والقصورُ
إلهٌ دافعٌ عنها قدير
وميِّز ما أكنَّتْهُ الصُّدور
وأُسْبِل فوقها سترٌ ستير
بحار لا تعدُّ ولا بحور
إذا عُدُّوا وليس لها نظير
فقد طاب الأوائل والأخير
وفادوا ما استبدَّ به المغير
فزالت عنهمُ تلك الشُّرور

وسكنَّا قلوباً خافقاتٍ
واوينا واسينا وكنَّا
فبات طعامنا لهم طعاماً
وكان لنا ثوابُ الله ذُخراً
ولولا القيروان وساكنوها
وليس لنا كما لهم حونٌ
ولا سورٌ أحاط بنا ولكن
ولا نأوي إلى بحرٍ وإنا
ولكنا إلى القران نأوى
عقائق كالبوارق مرهفاتٍ
وسُمرٌ في أعاليهن شهبٌ
أُمَّات عروقها ضرُّ ضرير
لهم أهلاً وأكثرهم شطير
هناك ودُورنا للقوم دور
وقام بشكرنا منهم شكور
لغابَ طعامُهم والمخ ريرُ
ولا جبلٌ أعاليه وعور
لنا من حفظ ربِّ العرش سُورُ
إذا قضى القضا تُنَحَّى البحُورُ
وفي أيماننا البيض الذكور
بها ُُتُحمى الحرائمُ والثُّغور
بها ظمأٌ مواردها النُّحور

إلى أن قال:
وإنَّا بَعْدُ من خوفٍ وأمنٍ
رسولَ الله والصدِّيق حبَّاً
وبعدهما نحبُّ ْالقوم طُرَّاً
ألا بأبي وخالصتي وأمِّي
سأهدي ما حييتُ له ثناءً
نحبُّ إذا تشَعَّبت الأمور
به ترجى السَّعادة والحبور
وما اختلفوا فربُّهم غفور
محمَّدٌ البشيرُ لنا النَّذير
مع الرُّكبان ينجد أو يغور

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf
 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022