الثلاثاء

1446-12-28

|

2025-6-24

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
وزارة صلاح الدين في مصر والمهام التي أنجزها

الحلقة: الثالثة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شوال 1441 ه/ يونيو 2020

كان صلاح الدين قد أظهر كفاءةً خلال صحبته لعمِّه: أسد الدين شيركوه أثناء حملاته على مصر ، فتولَّى الوزارة بعد وفاة عمِّه ، وهو في الحادية والثلاثين من عمره اختاره ، العاضد ، لأنه كان اصغر الأمراء سناً ، ولعلَّه يكون أكثر طواعيةً له ، إلا أنَّ الملك الناصر ـ كما لقبه العاضد ـ خيَّب ظنَّ الفاطميين، فشرع يستميل قلوب الناس إليه، كما بذل لهم من الأموال التي قد جمعها عمُّه ، فمال الناس إليه ، وأحبُّوه ، وسيطر على الجند سيطرةً تامَّةً، وكانت المهام التي أنجزها صلاح الدين في عهد نور الدِّين عظيمةً ، وضخمةً ، واستطاع القضاء على مراكز القوَّة.
1 ـ مؤامرة مؤتمن الخلافة:
جرى من الأحداث في مصر بعد تولية صلاح الدين منصب الوزارة: أنَّ البلاد كانت تجتاز مرحلةً خطيرةً في تاريخها ، فالدَّولة الفاطمية لا زالت موجودةً يساندها الجيش الفاطمي ، وكبار الدولة ، والخطر الصليبي لا يزال جاثماً على مقربة من أبواب مصر الشرقية ، فكان عليه أن يثبِّت أقدامه في الحكم؛ ليتفرَّغ لمجابهة ما قد ينشأ من تطورات سياسية ، ولم يلبث أن أظهر مقدرةً كبيرة في إدارة شؤون الدولة ، وهو عازم على الاستئثار بكافة الاختصاصات؛ حتى التي تخصُّ منصب الخلافة ، ونفَّذ عدة تدابير كفلت له الهيمنة التامة، منها:
ـ استمال قلوب سكان مصر بما بذل لهم من الأموال ، فأحبُّوه.
ـ أخضع مماليك أسد الدِّين شيركوه ، وسيطر بشكل تام على الجند بعد أن أحسن إليهم.
ـ قوَّى مركزه بما كان يمدُّه به نور الدين محمود من المساعدات العسكرية ، وقد وصل أخوه الملقب بشمس الدولة «توران شاه بن أيوب» مع أحدى هذه المساعدات العسكرية. وقد. أدَّت التدابير التي نفَّذها صلاح الدين إلى تقوية قبضته على مقدَّرات الدولة ، وزادت من تراجع نفوذ العاضد ، وبالتالي مركز الإمامة ، وأثارت استياء كبير الطواشية مؤتمن الخلافة ، وهو نوبيٌّ ، وقائد الجند السُّودان، وقد أدرك: أنَّ نهج صلاح الدين في الحكم سوف يقضي في حال استمراره على الدولة الفاطمية إنْ عاجلاً ، أو اجلاً ، ويبدو: أنَّه كان من بين الطامعين في خلافة شاور ، ولما لم يفلح؛ راح يحيك الدَّسائس للإطاحة بصلاح الدين ، وحاول الاتصال بعمُّوري الأول ملك بيت المقدس ، لتحريضه على مهاجمة مصر ، املاً في حالة الاستجابة أن يخرج صلاح الدين إلى لقائه ، فيقبض هو على من يبقى من اصحابه في القاهرة ، ويثبت على منصب الوزارة ، ويتقاسم البلاد مع الصليبيين. غير أن صلاح الدين علم بخيوط المؤامرة حين ارتاب أحد أتباعه في شكل الخفين اللَّذين اتخَّذهما رسول مؤتمن الخلافة إلى عموري الأول ، فأخذهما ، ونزع خياطتهما ، فاكتشف الرِّسالة بداخلها ، فقبض على مؤتمن الخلافة ، وانتهز الفرصة للتخلُّص منه ، غير أن أنباء اهتزاز مركزه في مصر شجَّعت النصارى على القيام بمحاولة أخرى لمهاجمة مصر. وقد قام صلاح الدين بأبعاد جميع الخدم من السُّودان عن قصر الخلافة ، واستعمل على الجميع في القصر بهاء الدين قراقوش ، فكان لا يجري في القصر صغيرٌ ، ولا كبيرٌ إلا بحكمه ، وأمره.
2 ـ وقعة السُّودان:
وذلك: أنَّه لما قتل الطَّواشي مؤتمن الخلافة الخادم الحبشيُّ ، وعزل بقيَّة الخُدَّام؛ غضبوا لذلك ، واجتمعوا قريباً من خمسين ألفاً ، فاقتتلوا هم وجيش الملك صلاح الدين بين القَصْرَين ، فقُتل خلق كثير من الفريقين ، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة ، وقد قُذِفَ الجيشُ الشاميُّ من القصر بحجارة ، وجاءهم منه سهامٌ ، فقيل: كان ذلك بأمر العاضد ، وقيل: لم يكن بأمره ، ثم إنَّ أخا الناصر صلاح الدين شمس الدولة «توران شاه» وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين إلى أخيه ليشدَّ أزره أمر بإحراق منظرة العاضد ، ففُتِح الباب ، ونُودِي: إنَّ أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السُّودان من بين أظهركم ، ومن بلادِكم. فقوي الشاميون ، وضعف جأش السودان جدَّاً ، وأرسل الملك الناصر إلى محلَّتهم المعروفة بالمنصورة؛ الَّتي فيها دُورُهم ، وأهلُوهم بباب زويلة ، فأحرقها ، فولَّوا عند ذلك مُدبرين، وركبهم السَّيف ، فقتل منهم خلقاً كثيراً ، ثم طلبُوا الأمان من الملك صلاح الدين ، فأجابهم إلى ذلك ، وأخرجهم إلى الجيزة ، ثمَّ خرج إليهم شمسُ الدولة تورانشاه أخو الملك صلاح الدين ، فقتل أكثرهم ، ولم يبق منهم إلا القليل {فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ} [النمل: 52]. ويبدو أنَّ حاكم مصر الفاطمي العاضد كان في ذلك الوقت على علم بمؤامرة مؤتمن الخلافة ، لأنه ليس من المتصور أن يجري ذلك في قصره ، وبدون علمه ، ويؤكِّد ذلك: أنَّ قوات صلاح الدين يوسف بن أيوب تعرَّضت وهي تصفي أطراف المؤامرة ، بهجمات بالحجارة ، والسهام صادرةً من قصر الحاكم ، بل إنَّ العاضد كان يراقب المعركة من القصر.
كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء ، وبالذات القاضي الفاضل؛ الذي كان العقل المفكر للقضاء على النفوذ الفاطمي في مصر ، وتثبيت المذهب السنُّي ، وسيأتي الحديث عنه مفصَّلاً بإذن الله في حديثنا عن الدَّولة الأيوبية.
كان القاضي الفاضل يراقب كتَّاب ديوان الإنشاء ، والمسرَّحين منهم بصورة خاصة ، وكانت العيون مبثوثةً في كلِّ ناحيةٍ ، ومنطقةٍ ، وزاويةٍ ، في القصور ، وبين العساكر ، وعلى الحدود، وعلى كلِّ محطَّةٍ من محطَّات البريد،أو محطَّات الاتصال بين مصر و الفرنج، وقد كانت هذه العيون على اتصال مباشر بالقاضي الفاضل ، تزوِّده بتقريرها بواسطة الرُّسل ، وعلى أجنحة الحمام الزَّاجل.
3 ـ القضاء على الأرمن:
ولم يتوقَّف نصر صلاح الدين بالقضاء على شوكة السُّودان؛ بل أتبعه بفلِّ شوكة الأرمن ، وهم الفرقة التالية للسُّودان قوةً ، وعدداً ، فأحرق داراً للأرمن بين القصرين ، وفيها عددٌ كبير من الجنود الأرمن ، معظمهم من الرُّماة ، ولهم رواتب من الحكومة ، وكان هؤلاء قد حاولوا أن يعرقلوا حركة قوات صلاح الدين في أثناء المعركة مع السُّودان برميهم بالنشَّاب ، فلقوا جزاءهم ، وأما من تبقَّى منهم ، فنفاهم صلاح الدين إلى الصَّعيد. أضعف صلاح الدين بقضائه على شوكة السودان ، والأرمن الدَّولة الفاطمية إلى حدٍّ بعيد ، بحيث أصبح من الواضح: أنَّ القضاء على الدَّولة الفاطمية نفسها لم يعد بعيداً.
4 ـ اهتمام صلاح الدين بتقوية جيوشه:
أخذ صلاح الدين يعمل حال تولِّيه الوزارة على إعداد جيش أيوبي ليكون نواة لجيشٍ مصريٍّ جديد ، يدافع به عن حكمهم ، وعن مصر من الغزو الإفرنجي ، ولم يَخْفَ عليه تدهور وضع الجيش الفاطمي؛ لأنه خبره في أثناء رحلاته الثلاث إلى مصر ما بين سنة 559 وسنة 564هـ/1163م ـ 1168م ، وعرفه معرفةً جيدةً من حيث مصادره البشرية ، والمالية ، والحربية ، و ومن حيث تنظيمه ، وفرقه المبنية على أساسٍ عرقيٍّ ، مثل السُّودان ، والأرمن ، والمصريِّين، والدَّيلم، والأتراك، والعربان، وكان يعرف بالتفصيل وضع كلِّ فرقةٍ من هذه الفرق، وكان القاضي الفاضل قد عمل في إدارة هذه القوَّات في عهد رزيك بن الصالح ، وساهم معها في بعض وقائعها الحربية خلال الحملة الفرنجية الشاميَّة الثانية على مصر، كما أشرنا سابقاً، وشاهد قادة الفرق المختلفة من هذه القوات ؛ وهم يتنافسون في شأن السُّلطة ؛ الأمر الذي أنهك القوات ، وأضعف مصر إلى حدٍّ أصبحت تعجز معه عن الدفاع عن استقلالها ، أو حتى عن بقائها.
وعرف القاضي الفاضل الكثير عن القوات المصرية عن طريق عمله معها في ديوان الجيش ، وفي ديوان الإنشاء؛ الذي كان يتعامل مع ديوان الجيش ، ويشرف على العيون ، والرُّسل ، فألّم بهذه القوات ، وعرف دخائلها ، وأطَّلع على كلِّ فرقةٍ منها ، وعلى نيَّات كلِّ قائد من قوَّادها ، ولم يضنَّ بمعلوماته عنها على صلاح الدين ، بل وجهه في تنظيم جيشه الأيوبي ، وإدارته ، وظلَّ طول عمره مع صلاح الدين يشرف على عساكره ، ويراقب إعدادها ، وتنظيمها ، ومواردها الماليَّة ، ويصحبها من مصر إلى الشام لتحارب مع صلاح الدِّين ، ومن الشام إلى مصر لتستعدَّ ، وتتجهَّز لحملات مقبلة ضد الفرنج ، وقد أنشأ صلاح الدين في بداية عهده في الوزارة جيشاً كبيراً ازداد عدداً ، وعدَّة بمرور الوقت ، واتساع عملياته الحربية ضد الفرنج ، وكان قوام هذا الجيش في مصر الحرس الخاص ، والجيش النظامي في مصر ، ثم الجيوش الشعبية؛ التي تكَوَّنت من أمراء الإقطاع، وجنودهم ، ولا سيَّما في الشام ، والجزيرة بعد سنة 570هـ/1174م والبدو. ويأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى مفصَّلاً في الحديث عن الدَّولة الأيوبية ، وصلاح الدين.

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf
 
 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022