من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(أدلة البعث والنشور)
الحلقة: الثامنة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الثاني 1442 ه/ نوفمبر 2020
الإيمان بالمعاد دلَّ عليه القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والقران كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال اليوم الآخر وتفاصيل ما فيه، وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة، والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد، وكما ذكر القرآن الأدلة عليه، وردَّ على منكريه، وبيَّن كذبهم، وافتراءهم.
والفطرة السليمة تدل عليه وتهدي إليه، ولا صحة لما يزعمه الضالون من أن العقول تنفي وقوع البعث والنشور، فإن العقول لا تمنع وقوعه، والأنبياء لا يأتون بما تحيل العقول وقوعه، وإن جاؤوا بما يحيِّر العقول ومن وسطية القرآن، وحكمته، واستقامته على الصراط المستقيم جاءت الأدلة التي تكلمت على البعث بأساليب متنوعة، ومتعدِّدة تخاطب الفطرة، والعقل السليم، وتؤثر في أعماق القلوب فإذا تأملت وتفكرت في كتاب الله اتضح لك أدلةٌ كثيرة منها:
أولاً: إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة:
ومن أعظم الأدلة الدالة على وقوع المعاد إخبار الحق تبارك وتعالى بذلك، فمن امن بالله وصدق برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل فلا مناص له من الإيمان بما أخبرنا به من البعث، والنشور، والجزاء، والحساب، والجنة، والنار، وقد نوَّع الحق تبارك وتعالى أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس، واكد في القلوب:
1 ـ ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخباراً مؤكداً بـ: (إنَّ) أو بـ: (إنَّ واللام) كقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}[طه: 15].
وقوله: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [الحجر: 85] وقوله: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ } [الأنعام: 134] وقوله: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ *}[المرسلات: 7].
2 ـ وفي موضع آخر يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه كقوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا *}[النساء: 87].
ويقسم على تحقيق ذلك بما شاء من مخلوقاته كقوله: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا *فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا *وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا *فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا *فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا *عُذْرًا أَوْ نُذْرًا *}[الذاريات: 1 ـ 6] وقوله: {وَالطُّورِ *وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ *وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ *وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ *إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ *}[الطور: 1 ـ 8].
3 ـ وفي بعض المواقع يأمر رسله بالقسم على وقوع البعث وتحقيقه، وذلك في معرض الرد على المكذبين به المنكرين له، كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [سبأ: 3] وقوله: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [يونس: 53] وقوله: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *}[التغابن: 7].
4 ـ وفي مواضع أخرى يذم المكذبين بالمعاد كقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *}[يونس: ].
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [الشورى: 18] وقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ *}[النمل: 66 ].
5 ـ وأحياناً يمدح المؤمنين بالمعاد: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ *}[آل عمران: 7 ـ 9].
6 ـ وأحياناً يخبر: أنه وعد صادق، وخبر لازم، وأجل لا شك فيه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ} [هود: 103] وقوله: {مَشْهُودٌ * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ *}[الذاريات:5].
7 ـ وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه كقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا *}[المعارج: 6 ـ 7] وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *}[النحل:1].
8 ـ وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم، ويذم الآلهة التي يعبدها المشركون لعدم قدرتها على الخلق، وإعادته كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأِنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا *}[الفرقان:3].
9 ـ وبيَّن في مواضع أخرى: أنَّ هذا الخلق، وذاك البعث، وبعثكم {إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28] وقال: {أيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *}[القيامة: 3 ـ 4].
ثانياً: ومن وسطية القرآن في إقناع الناس بالإيمان باليوم الآخر الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى:
استدل القرآن على الخلق الثاني بالخلق الأول، فنحن نشاهد في كل يوم حياة جديدة تخلق، أطفال يولدون، وطيور تخرج من بيضها، وحيوانات تلدها أمهاتها، وأسماك تملأ البحر والنهر، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يُبيد الله هذه الحياة.
إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن أنَّ خلقهم على هذا النحو أعظم دليل، فالقادر على خلقهم، قادر على إعادة خلقهم، وقد أكثر القرآن من الاستدلال على النشأة الاخرة بالنشأة الأولى، وتذكير العباد المستبعدين لذلك بهذه الحقيقة: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا *أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا *}[مريم: 66 ـ 67].
ويذكِّرنا القرآن في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب، فالقادر على جعل التراب بشراً سويّاً لا يعجزه أن يعيده بشراً سويّاً مرة أخرى بعد موته، ويذكرنا أيضاً بخلقنا نحن ـ ذرية آدم ـ فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين، تحول هذا الماء، فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة..... إلى أن نفخ فيها الروح، وجعلها إنساناً سويّاً. فالقادر على هذا الخلق المشاهد المعلوم قادر على إحياء الخلق، وإحياء الموتى.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ *}[الحج: 5 ـ 7].
وقد أمر الله عباده بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق ؛ ليستدلُّوا بذلك على قدرته على الإعادة: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِىءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *}[العنكبوت: 19 ـ 20].
ثالثاً: ومن الأدلة التي ذكرت في القرآن في الاستدلال على البعث: القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه، قبيح في نظر البشر أن يُرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير مَنْ يستطيع حمل العظيم، ومثله: إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قويّاً، لا يقال له: إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل الضعيف، ومن استطاع أن يبني قصراً لا يعجزه بناء بيت صغير. ولله المثل الأعلى! فإن جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، فكيف يقال للذي خلق السموات، والأرض: أنت لا تستطيع أن تخلق ما دونها؟!
قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } [يس: 81] وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *}[غافر:57].
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (فإنه من المعلوم ببداهة العقول: أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني ادم، والقدرة عليه أبلغ، وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك).
وقال شارح الطحاوية: (أخبر تعالى: أنَّ الذي أبدع السموات والأرض ـ على جلالتهما ـ يُحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردُّها إلى حالتها الأولى).
رابعاً: قدرته تبارك وتعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال، فالذين يكذبون بالبعث يرون هلاك العباد، ثم فناءهم في التراب، فيظنون: أن إعادتهم بعد ذلك مستحيلة: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *} [السجدة: 10]. والمراد بالضلال في الأرض تحلُّل أجسادهم، ثم اختلاطها بتراب الأرض، تقول: ضلَّ السمن في الطعام، إذا ذاب، وانماع فيه.
وقد بين الحق تبارك وتعالى في أكثر من موضع: أن من تمام ألوهيته، وربوبيته قدرته على تحويل الخلق من حال إلى حال، ولذا فإنه يميت، ويحيي، ويخلق، ويفني، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *}[الأنعام: 95 ـ 96].
ومن الحبة الجامدة الصماء يخرج نبتة غضة خضراء تزهر، وتثمر، ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوباً جامدة ميتة، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردِّة التي تنطلق في أجواء الفضاء.
إن تقليب العباد: موت فحياة، ثم موت فحياة دليل عظيم على قدرة الله التي تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [البقرة: 28].
وقد ذُكِرَتِ الأدلة التي ذكرتها في الاحتجاج على البعث من الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى، ومن كون القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه، وتحويل الخلق من حال إلى حال في سورة يس في موضع واحد من كتاب الله، وهذا يدلُّ على وسطية القرآن، واستقامته على الصراط المستقيم، واعتداله وقوة حجته في إقناع الناس بإقامة الحجج والبراهين.
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *}[يس: 78 ـ 83].
ونزلت هذه الآيات في أُبيِّ بن خلف؛ حيث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذا وهو رميم؟! قال: «الله يحييه، ثم يميتك، ثم يبعثك ثم يدخلك النار»، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد. وقيل: نزلت في العاص بن وائل.
ولو كان صاحب المقولة المذكورة في أسباب النزول لبيباً عاقلاً؛ لم يسأل هذا السؤال؛ لأن وجوده وخلقه في هذه الحياة يجيب على السؤال ؛ وقد وضح النص هذا المعنى الذي أجمله في البداية، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *} [يس: 79] فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى ؛ إذ كل عاقل يعلم ضروريّاً: أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية؛ لكان على الأولى أعجز، وأعجز.
1 ـ ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه؛ أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *} [يس: 79] فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، مواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم، كامل القدرة؛ كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟!
2 ـ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة، وبرهان ظاهر يتضمَّن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *} [يس: 80] فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة، واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلأئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده؛ تنقاد له مواد المخلوقات، وعناصرها ولا يستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد، ودفعه من إحياء العظام وهي رميم.
3 ـ ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر فإنَّ كلَّ عاقل يعلم: أن من قدر على العظيم الجليل فهو قادر على ما دونه بكثير. قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ *}[يس:81].
فأخبر: أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامهما، وسعتهما، وعجيب خلقهما أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى.
4 ـ ثم أكد تبارك وتعالى ذلك، وبيَّنه ببيان اخر، وهو أن فعله ليس بمنزلة غيره الذي يفعل بالالات والكلفة، والنصب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لابد معه من إله ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكوَّن {كُنْ} فإذا هو كائن كما شاء ، وأراده {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس: 82] ثم ختم هذه الحجة بإخباره: أن ملكوت كل شيء بيده ، فيفرق فيه بفعله وقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *}[يس:83].
خامساً: ومن أدلة البعث التي جاءت في القرآن الكريم ما ذكر الله في كتابه من إحياء بعض الأموات في هذه الحياة.
ومن ذلك ما أخبر الله تعالى عن قوم موسى، قال تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *} [البقرة: 55] فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم بعثهم بعد موتهم {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} [البقرة: 56] وقتيل بني إسرائيل الذي اختلفوا في قاتله، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل بجزء منها، فأحياه الله، وأخبر عمَّن قتله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ *}[البقرة: 73].
وأخبر المولى ـ عز وجل ـ عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف خشية الموت، فأماتهم الله، ثم أحياهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ *}[البقرة: 243].
وأخبرنا المولى عز وجل عن قصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فتعجب من إحياء الله لها بعد موتها، فأماته الله مئة عام ثم بعثه حتى يوقن: أن الله على كل شيء قدير. قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *}[البقرة: 259].
وإبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فكان هذا المشهد الذي حدثنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *}[البقرة: 260].
أمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور، فيذبحها، ثم يفرِّق أجزاءها على عدَّة جبال، ثم ناداها امراً إياها بالاجتماع، فكان كل عضو يأتي، ويقع في مكانه، فلما تكامل اجتماعها، نفخ الله فيها الروح، وانطلقت محلقة في الفضاء.
وعيسى عليه السلام كان يصنع من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، فقد قال لقومه:
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
وأصحاب الكهف ضرب الله على اذانهم في الكهف ثلاثمئة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } [الكهف: 12] {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف: 19] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا *}[الكهف:25] .
وكانت آية موسى الكبرى عصا جامدة يلقيها على الأرض، فتتحول بقدرة الله إلى ثعبان مبين: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ *}[الشعراء: 32]، وعندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم؛ ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع تلك العِصيَّ، والحبال على كثرتها: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ *}[الشعراء:45].
سادساً: ومن أدلة القرآن على إثبات البعث، ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات، وقد ضرب الله المثل لإعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية بإحيائه الأرض بعد موتها بالنبات: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] وقال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ *}[فاطر:9].
سابعاً: والدليل السابع الذي ذكر في القرآن الاستدلال بحكمة الله؛ حيث إن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي على أساسه يعبدونه، ويطيعونه، ويتبعون أمره، ويجتنبون نهيه، فمن العباد من استقام على طاعة الله، وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولابد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ *}[القلم: 35 ـ 37].
إنَّ الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثاً، وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح، والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *}[ص: 27 ـ 28].
فهذه أساليب القرآن في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، ونجد في القرآن الكريم وصفاً لأهوال يوم القيامة، ويصور القرآن الكريم بعض معالم أهوال يوم القيامة: من قبض الأرض، وطي السماء، ودك الأرض، ونسف الجبال، وتفجير البحار، وتسجيرها، وموران السماء، وانفطارها، وتكوير الشمس، وخسوف القمر، وتناثر النجوم، ويصور لنا القرآن الكريم حال الكفار، وذلتهم، وهوانهم، وحسرتهم، ويأسهم، وإحباط أعمالهم، وتخاصم العابدين والمعبودين، وتخاصم الأتباع وقادة الضلالة، وتخاصم الضعفاء والسادة، وتخاصم الكافر وقرينه الشيطان، ومخاصمة الكافر أعضاءَه، وتخاصم الروح والجسد، وتكلم القرآن عن الشفاعة، وَبَيَّن شروطها، والمقبول منها والمرفوض، والمراد بالحساب والجزاء، وعن مشهد الحساب، وهل يسأل الكفار؟ ولماذا يسألون؟ وحدثنا القرآن الكريم عن اقتصاص المظالم بين الخلق، وكيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة، وبَيَّن المولى عز وجل في القرآن عظم شأن الدماء، وبين: أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها الأعمال، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض، ومَنِ الذين يردون على الحوض، والذين يذادون عنه.
وصور القرآن الكريم حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين، وهذا الذي ذكرنا كله من وسطية القرآن في باب الإيمان باليوم الاخر، وحكمته البالغة في إخباره بما ينفع الناس، وترغيبهم، وترهيبهم منه، حتى يستعدوا لذلك اليوم بالأعمال الصالحة، ويبتعدوا عن الأعمال المحرمة.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com