(التوتر بين عماد الدين والسلطان مسعود)
كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
الحلقة: 37
بقلم: د.علي محمد الصلابي
صفر 1444 ه/ سبتمبر 2022م
أجرى الخليفة المسترشد بالله العباسي مفاوضات ناجحة مع عماد الدين زنكي، وعُقد الصلح بين الجانبين في مطلع عام 528هـ أواخر عام 1133م وتُبودِلت الهدايا، وأرسل عماد الدين زنكي ابنه سيف الدين غازي إلى الخليفة؛ ليؤكد طاعته وولاءه له(1)، واستنجد الخليفة بزنكي عام 529هـ أثناء صراعه مع السلطان مسعود، وكان عماد الدين زنكي آنذاك يحاصر دمشق، ففك الحصار عنها، وعقد صلحاً مع حكومتها حتى لا يُطعن من الخلف، وعاد مسرعاً إلى بغداد لنجدة الخليفة، إلاَّ أنَّه وصل متأخراً؛ إذ انتصر السلطان مسعود على الخليفة المسترشد في المعركة التي دارت بينهما في العاشر من رمضان ووقع في الأسر، وظل مأسوراً حتى منتصف ذي القعدة، حين هاجمه جماعة من الباطنية، وقتلوه(2).
وقد فصَّلت في سيرة المسترشد بالله العباسي في كتابي عن دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني، والغزو الصليبي. هذا وقد أخذت البيعة بعد مقتل المسترشد بالله لابنه أبي جعفر منصور الملقب بالراشد بالله (529هـ 530هـ) بموافقة السلطان مسعود(3)، وهكذا ضاعت فرصة أخرى من يد عماد الدين زنكي للسيطرة على العراق، ونتيجة لهذه التطورات السياسية ازداد التوتر بين عماد الدين زنكي والسلطان، وقد بلغ حداً دفع الثاني إلى تدبير مؤامرة لاغتيال الأول حتى يتخلَّص من خطره بشكلٍ نهائيٍّ، فاستدعاه إلى أصفهان، لكن دُبَيساً أخبره بنواياه، وحذَّره من التوجه إلى بلاطه، فامتنع عن الذهاب، ولما علم السلطان بما فعله دُبيس؛ قتله على الفور.(5)
وكان عماد الدين زنكي قد أحسن لصدقة، فعندما وقع في يدي تاج الملوك حاكم دمشق طلب عماد الدين من أمير دمشق أن يسلمه دُبيساً وإن امتنع عن تسليمه سار إلى دمشق، وحاصرها، وخرَّبها، ونهب بلدها، فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل عماد الدين سونج بن تاج الملوك والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دُبيساً، فأيقن دُبيس بالهلاك ففعل زنكي معه خلاف ما ظن، وأحسن إليه، وحمل له الأقوات، والسلاح، والدواب، وسائر أمتعة الخزائن، وقدمه على نفسه، وفعل معه ما يفعل مع أكابر الملوك.(6)
ولما سمع عماد الدين زنكي بمقتل دبيس بن صدقة قال: فديناه بالمال، وفدانا بالروح(7)، وذكر ابن كثير بأنه فداه بخمسين ألف دينار، وما لبثت العلاقات أن تدهورت بين الخليفة الجديد، وبين السلطان مسعود واجتمع لدى الراشد عدد من الأمراء المناهضين للسلطان، وجندوا له العمل على إسقاطه، والمجيء بسلطان جديد يرتضونه(8). وفي مستهل صفر عام 530هـ وصل زنكي بغداد قادماً من الشام بعد أن استدعاه الراشد، واتفق معه على إعلان الخطبة لألب أرسلان المقيم في الموصل(9)، وانضم إلى الأمراء الذين كانوا قد حرَّضوا الخليفة على إعلان العصيان ضد السلطان مسعود(10). ووجد الخليفة: أنَّ الفرصة قد سنحت للبدء بالعمل، فألغى الخطبة لمسعود، وحوَّلها لداود بن محمود، خلافاً لما تمَّ الاتفاق عليه مع زنكي.(11)
وقام السلطان الجديد بتعيين شحنة له في العراق، ولم يمض على ذلك سوى وقت قصير حتى دبَّت الخلافات بين الراشد وسائر الأمراء بسبب المنافسات والأحقاد القديمة(12)، واتفق المتحالفون على توجيه ضربتهم للسلطان مسعود في بلاد فارس نفسها، إلاَّ أنَّهم ما أن قطعوا مسافة قصيرة حتى ورد خبر بتوجه مسعود على رأس قواته صوب بغداد، فارتأوا أن يعودوا إليها لاتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة لصد الهجوم(13)، وما لبث السلطان مسعود أن فرض الحصار على بغداد، وجرت مناوشات، ومعارك جانبية بين الطرفين لم تستقرَّ عن نتيجة حاسمة وسعى الخليفة إلى إحلال الصلح، وإنهاء الخلاف، ولكن دون جدوى.
وأخذت الأوضاع داخل بغداد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم(14)، ونجح السلطان مسعود في دخول بغداد، وخلعه عن سدة الخلافة، وولَّى المقتفي لأمر الله مكانه في شهر ذي الحجة عام 530هـ أيلول عام 1136م(15)، وغادر الراشد بغداد متوجهاً إلى الموصل بصحبة عماد الدين زنكي، والجدير بالذكر: أنَّ الخطبة للمقتفي اقتصرت على بعض أنحاء العراق بينما استمرت مناطق الموصل، والجزيرة، وبلاد الشام تخطب للراشد الذي كان يتمتع بحماية عماد الدين زنكي.(16)
مراجع الحلقة السابعة والثلاثون:
(1) المنتظم (10/34) الباهر ص 47 ـ 48.
(2) عماد الدين زنكي ص 57.
(3) المصدر نفسه ص 57 تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 95.
(4) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 95.
(5) المنتظم(10/53) تاريخ الزنكيين ص 95.
(6) الكامل في التاريخ(8/680).
(7) واقع التربية الإسلامية في عهد نور الدين ص 17.
(8) عماد الدين زنكي ص 58.
(9) النجوم الزاهرة(5/358) عماد الدين زنكي ص 58.
(10) المنتظم (10/55) عماد الدين زنكي ص 58.
(11) مفرج الكروب (1/64) عماد الدين زنكي ص 58.
(12) عماد الدين زنكي ص 59.
(13) المنتظم (10/57) مفرج الكروب (1/65).
(14) عماد الدين زنكي ص 60.
(15) مفرج الكروب (1/65، 66) تاريخ الزنكيين في الموصل ص 95.
(16) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 96.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي