الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة الفيل

الحلقة 155

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

ذو القعدة 1442 هــ / يونيو 2021

* {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل }:
الاستفهام هنا تقريري، والمعنى: أنك قد رأيتَ، ولكنه غالبًا يأتي بصيغة النفي الذي ظاهره النفي وحقيقته الإثبات، ويفيد معنى التحدِّي، فلا المخاطب ولا غيره يستطيع أن ينفي هذه الحادثة، فهي في ثبوتها قضية يقينية لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يشكِّك فيها.
وهذا الاستفهام التقريري مثله كثير في القرآن، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [البقرة: 243]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } [الفرقان: 45]، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك } [الشرح: 1]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } [الضحى: 6].
والرؤية هنا يحتمل أن تكون علمية، أي: علمتَ العلم اليقيني القطعي أن الله تعالى فعل بأصحاب الفيل ما فعل.
ويحتمل أن تكون بصرية، يعني: بعينك، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الفيل وما جرى لهم بعينه؟ كلَّا.
فإما أن يحمل على مَن رأوا هذه الحادثة، وكان بعضهم أحياء كما تقدَّم، وهم مخاطبون بهذا القرآن ويسمعونه، أو أن يكون ذلك إشارة إلى ما رأوا من الآثار، مثل أثر ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى في بيت أم هانئ رضي الله عنها بعض الحجارة، ومثل ما ذكر بعضهم أن آثار الأفيال كانت موجودة في أنحاء مكة.
وفي التعبير بالرؤية دعوة إلى استحضار الصورة في الذهن؛ لأن الكيفية عبارة عن صورة تفصيلية، فإذا قيل لك: كيف فعل ربك؟ تخيَّلت الكيفية والجيش والأفيال، ثم الحجارة وهي تقصفهم قصفًا.
وفي قوله: {كَيْفَ } لفت نظر المستمع إلى أن يعتني بالكيفية في الأشياء.
فالكيفيات مهمة للتخيّل والتصوّر، وحينما يذكر تعالى الأشياء بالكمية، فإنه يذكر معها ما يتعلق بشكلها وأهميتها وصفتها.
ففي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم } [الشعراء: 7]، عبَّر بـ{كَمْ } وهذا من حيث كثرة أنواع النبات، لكن هذا غير خارج عما نقوله؛ فهو يلفت النظر إلى الصفة وهي تتعلق بالكيفية، فالزَّوج الكريم والبَهيج هي صفات تتعلق بالكيفية.
فالكيفية مقصودة، وملاحظتها ضرورية، وعلى الإنسان أن يلاحظ في موضوع الكيفية شيئين:
1- ما يتعلق بالأشياء القَدَرِية المخلوقة من الله تعالى، فإن مراعاة كيفيتها مما يقيم الحجة على الناس، وهو أبلغ في الاعتبار، فإذا فكَّر الإنسان: كيف يسمع؟ كيف يبصر؟ كيف يأكل؟ كيف يفكِّر ويعقل؟... إلخ، فإن التأمل يُحدث يقظة القلب والإيمان.
والتدبر شيء ضخم هائل، وجرب ذلك في الكلام، نحن نسمع الكلام ونقول الكلام، ولكن لا يفكِّر أحدنا في كيفيته، وكيف يخرج؟ وكيف تتكون الحروف؟ وكيف يسمع؟ وكيف يصل؟ وكيف يحلِّله الدماغ؟ وكيف تنقله الأعصاب؟ وكيف يستجيب له الجسم؟ وكيف تتكون اللغات وتكتمل وتتنوع؟ أو كيف يأكل؟ أو يشرب؟ أو ينام؟ وما الفرق بين النوم واليقظة؟ أو كيف يفكِّر؟ وكيف يستذكر؛ لكان التأمل في هذه الكيفيات من أعظم ما يعزِّز الإيمان.
2- ما يتعلق بالأمر الاختياري، فإن على الإنسان أن يضبطه بالمعيار الشرعي، ويصحِّحه ويلتزم فيه بالأدب والخلق والتهذيب، ويطوِّره شيئًا فشيئًا؛ لأن العبرة بالكيفيات، وليس فقط بالكميات، يعني: ليس العبرة كم لك من صديق؛ لأن كثرة الأصدقاء ليست بحد ذاتها أمرًا محمودًا، ولهذا قال ابن الرُّومي:
عدوُّك من صديقِك مستفادُ * فلا تستكثرنَّ من الصِّحـابِ
فـإنَّ الـداءَ أكـثــر مـا تـراه * يكونُ من الطعامِ أو الشـرابِ
العبرة بكيفية الصحبة، وحسن المعاشرة، وحسن الأدب، والتلطف، والصبر، والاستفادة منهم، ومثله العبادات والطاعات والمصالح، العبرة بكيفية إنجازها وأدائها، فليتأمل المؤمن كيف يصلِّي، وكيف يصوم، وكيف يحج، وكيف يعبد ربه، وكيف يطبق تعاليم الإسلام بالأخلاق والعلاقات وغيرها.
وهذا يبيِّن فضل معرفة الكيفيات المفصَّلة على الإجمال والإبهام.
فلو قيل لك: إن جيشًا غزا مكة وقُتلوا، ربما لا يلفت نظرك، لكن إذا فصَّل ذلك كما في السياق؛ لوجدت العجب في ترسيخ الإيمان وتدعيمه، حتى إن الأساطير المركبة المتداولة في ثقافات الشعوب ذات تأثير عظيم بسبب تفصيلها وتحديد مساقاتها.
وتأمَّل أنه قال هنا: {فَعَلَ }، ولم يقل: «صنع»، أو: «خلق»، أو: «أرسل»؛ لأن الأمر الذي جرى على أصحاب الفيل فيه خَلْقٌ، مِن خَلْقِ الطير والحجارة، وفيه إرسال، وفيه جعل، فاختار تعالى كلمة: {فَعَلَ }؛ حتى تشمل هذه الأشياء كلها.
وقال: {رَبُّكَ }، ولم يقل: «الله»؛ لما فيه من إشارة إلى ارتباط حادثة الفيل بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الحادثة وإن كانت قبل البعثة، بل وقبل ميلاده صلى الله عليه وسلم، إلا أنها من إرهاصات بعثته صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك استعمل لفظ «الرب»، المتضمِّن لمعنى الرحمة والرعاية، وفيها الملك والتدبير، وفيها التصريف والتربية.
فـ{رَبُّكَ } هو الذي ربَّاك بنعمه، وتعاهدك بفضله وعطائه، فكأن في ذلك إشارة إلى أن حادثة الفيل هي من لُطف ربك، وحُسن تدبيره وتصريفه ورعايته لك، فقدَّم بين يدي بعثتك، بل بين يدي ميلادك هذه الحادثة العظيمة التي كان من آثارها حفظ الكعبة، وكون قبائل العرب في الجزيرة العربية يتجهون إلى الكعبة بالتعظيم، ويحبون الكعبة وأهلها، ويكون لقريش من المكانة ما يمهد ويهيئ لقبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه فيهم.
وفيه معنى الاختصاص؛ فالذي أَهْلَك أهل الفيل هو {رَبُّكَ }، وهو الذي سوف يهلك كلَّ عدو يقصدك بسوء؛ لأنك أنت وكل مؤمن أعظم حرمة من الكعبة، وقد ورد في الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة وقال: «ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ! ما أعظمَكِ وأعظمَ حُرمتَكِ! والذي نفسُ محمد بيده، لحُرْمةُ المؤمن أعظمُ عند الله حرمةً منك، مالِه ودمِه، وأن نظنَّ به إِلَّا خيرًا». وقتل المؤمن أعظم عند الله تعالى من زوال الكعبة!
فهذا فيه ربط للنبي صلى الله عليه وسلم بحادثة الفيل، فهو مثل قول الله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد } [البلد: 1- 2]، فهذه هي مكة التي وُلدت فيها، وبُعثت فيها، وسوف تكون منطلقك ومردك: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص: 85].
وقوله: {بِأَصْحَابِ الْفِيل } يرى جمهور المفسرين أن نسبتهم إلى الفيل هو مجرد تعريف، مثل قولك: أصحاب الجمل، وأصحاب الكهف، وأصحاب السجن، وأصحاب السَّبْت، وأصحاب الجنة، أي: البستان، فقد يُنسب الناس إلى أدنى ملابسة تتعلق بهم.
أما العرب، فلم تكن تعرف الفيل أصلًا، بل كانوا يتخيلونه مجرد تخيل بأذهانهم، كما قال كعب بن زُهير:
وقد أقومُ مقامًا لو يقومُ به * أرى وأسمع ما لا يسمع الفيلُ
وكما قال لَبِيد:
ومقام ضـيـق فـرَّجته * بـبـيـانٍ ولـسـان وجـدلْ
لو يقومُ الفيلُ أو فياله * زلَّ عن مثل مقامي وزحلْ
والفيل أعظم من الجمل الذي تعرفه العرب، وله هذا الخرطوم الذي يلتف به على ما يريد، وكانوا في الحروب يعتبرونه محفة، ويركب عليه ستة أو سبعة من الجنود، وهو سلاح هائل يحطم ما أمامه.
فجيش أَبْرَهة جاؤوا إلى جزيرة العرب بشيء لم يكن معروفًا عند العرب، يشبه أسلحة العصر الحاضر من الطائرات الضخمة والبارجات الهائلة والدبابات العظيمة التي لا عهد للعرب بها، فوقع لهم من الدهشة والخوف والرُّعب ما لا يخطر على بال، وكان أَبْرَهة وجنده يظنون أنهم مانعتهم أفيالهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا؛ ولهذا ناسب أن ينسبهم إليه، وفي هذا نوع من التحقير المبطن لهم؛ لأن هذا الفيل- وهو حيوان- بَرَكَ، وحُبِس عن مكة، فكان إذا وُجِّه إلى الكعبة بَرَكَ، وإذا وُجِّه إلى أي جهة أخرى ثار وأسرع في المسير، في حين يصرُّ هؤلاء على هدم بيت الله تعالى وأذية أهل بيته! فكان الفيل خيرًا منهم عملًا وأحسن مصيرًا.

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022