من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الهمزة
الحلقة 151
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
شوال 1442 هــ / يونيو 2021
* {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } :
وهذا زجر وإنكار لهذا الحسبان، يعني: حسابه خطأ، ولا خلود له.
و{الْحُطَمَة }: شديدة الحطم والتحطيم، وجاء في «صحيح مسلم»، أن عائذَ بن عمرو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عُبيد الله بن زياد، وهو أمير بالكوفة، وكان بطَّاشًا ظلومًا، فقال له: أي بُنَيَّ، إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إن شرَّ الرِّعاءِ الـحُطَمةُ». يعني: الذي يحطم رعيته حطمًا بقسوة وغلظة، لا يبالي بكبير ولا صغير ولا ضعيف ولا غيره، ثم قال: «فإياك أن تكون منهم». فقال له: اجلس، فإنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: وهل كانت لهم نُخالة؟ إنما النُّخالة بعدهم وفي غيرهم.
وهذه من الأجوبة المفحمة المسكتة، يعني: أنت وأمثالك النُّخالة.
فالحُطَمة تحطم الإنسان، وتأتي عليه كله، والنَّبْذ هو الرمي والإلقاء، كما تُنبذ النواة أو الحصاة.
وفيه إشعار بالإهمال والنسيان، كما لو كان شيئًا حقيرًا مستكرهًا، فيُنبذ ويُلقى ويُهمل ويُنسى، فلا يتفطن له أحد، وسوف يُهمل ذكره، بخلاف ما كان يظن أن ماله أخلده، سوف لا يُذكر، ولا يخلد ولا يبقى، ولهذا قال تعالى عن فرعون الذي يحسب أن ماله وسلطانه أخلده: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } [القصص: 40]، في احتقار وازدراء وتهوين.
والحُطَمة: اسم من أسماء جهنم، أو صفة لجهنم، أو إحدى دَرَكاتها أو أبوابها، على وزن: فُعَلَة، كهُمزة ولمُزة؛ فـ«الجزاء من جنس العمل»، فهذا الإنسان هُمزة لُمزة، توعَّده الله سبحانه أن يُنبذ في الـحُطَمة، جزاءً وفاقًا لما كان عليه في الدنيا من تحطيم الناس باحتقارهم والاستهزاء بهم والتكبر عليهم.
* {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَة }:
قال سُفيان بن عُيينة رحمه الله: «كلُّ شيء في القرآن: {وَمَا أَدْرَاكَ } فقد أخبره به، وكلُّ شيء: {وَمَا يُدْرِيكَ } فلم يخبره به».
وقد تقدَّم الكلام حول هذا الحصر.
وهو سؤال تفخيم، كما في قوله: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ } [القارعة: 1-3].
وفي الآية الكريمة إشارة إلى خيبة طموح الإنسان في الخلود: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه }؛ لأن الله قال له: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } [الهمزة: 4] ، ومتى يُنبذ في الحطمة؟ في الآخرة، يعني: بعد الموت.. فهو سوف يموت ولا يخلَّد.. {وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [مريم: 80]، فآماله وطموحاته في الخلود والبقاء تبخرت وذهبت أدراج الرياح، فلا أهل ولا مال {خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الزمر: 15].
و{الْحُطَمَة } ليست معروفة في لغة العرب، ولعل هذا من أسرار السؤال عنها كالقارعة والحاقة وغيرها؛ فالله تعالى يذكر هذه الأسماء التي لم يعرفها العرب من قبل، أو كانوا يستخدمونها في معنى ثم غيَّر القرآن استخدامها ووظَّفها في غيره.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7