من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة الهمزة
الحلقة 150
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
شوال 1442 هــ / يونيو 2021
* {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَه }:
اختلف القراء فيها، فقراءة عاصم: {جَمَعَ } بالتخفيف، وقرأ حمزة والكِسائي وابن عامر بتشديد الميم: {جَمَّعَ}، وهو أبلغ من {جَمَعَ }، وتدل على الجهد الذي بذله في تجميع المال، فهو قد أخذ وقتًا طويلًا في تجميعه، وبذل فيه كثيرًا من الأسباب والحيل.
وجاء المال نكرة: {مَالاً }؛ لأن المال في ذاته ليس هو الذي ينفع الإنسان، وإنما الذي ينفعه عمله الصالح، وجمع المال بحد ذاته ليس مذمة، وإنما المذمة ما وراء ذلك من سوء التصرف فيه.
وفيها معنى أنه لم يكن يهتم بنوع المال وسلامة مصدره، بقدر ما يهتم بجمعه، حتى لو كان من حرام أو غش أو سرقة.
ولقوله: {وَعَدَّدَه } أكثر من معنى:
1- جعله عُدَّة، بمعنى أنه أَعَدَّه، وادَّخره لنوائب الدهر وصروف الزمان، ونسي أن هذا المال قد يخذله أحوج ما يكون إليه.
2- عدَّده، أي: أحصاه مرة بعد مرة، وهذا ينبئ عن الحرص والنهم الشديد والخوف على زواله، وليس المذموم هو الغنى أو كثرة المال، وإنما الحرص والانشغال به عن طاعة الله أو تصريفه في الحرام.
3- عدَّده، أي: نوَّعه، يعني: عنده أنواع وألوان من الأموال أرصدة، وسبائك ذهب، وعقار، وماشية... إلخ.
إن كل ما كان سببًا في احتقار الناس وازدرائهم فهو معيب، حتى لو كان ذلك بعبادة أو علم أو جاه أو نسب أو حسب أو جمال أو مال، على أن كسب المال ليس عيبًا بذاته.
ذَرِيني للغِنَى أسعَى فإِنـي * رأيتُ الناسَ شرُّهمُ الفقيرُ
وأحقرُهم وأهونُهم لدْيهِم * وإن أمسَى لهُ نسـبٌ وخيرُ
ويُهمِلُه النـديُّ وتـزدريـهِ * عقيلتُه ويهمـلُـه الصـغـيرُ
إلى قوله:
قليلٌ ذنبـهُ والذنـبُ جـمٌّ * ولكِـنْ للغِنَى ربٌّ غَـفـورُ
فالغنى منه ما يكون سببًا في رفعة الإنسان في الدنيا، واحترام الناس له، ومنه ما يكون سببًا في رفعته في الآخرة، ووصوله إلى أعلى الدرجات.
* {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَه }:
أي: أخلده في الدنيا، وأتى بالفعل الماضي: {أَخْلَدَه }، ولم يقل: «يخلده»، على سبيل التهكُّم بهذا الذي يحسب أن القضية مفروغ منها، فما دام عنده مال، فهو قد أخلده، والأمر قد حُسم وانتهى، فيقال له: رويدك، وهَوِّن عليك! ليس الأمر كما تظن.
وكيف يحسب أن ماله أخلده؟ هذا له عدة احتمالات:
1- يحسب أن المال أطال عمره، ومن الناس مَن يظن أنه بالمال، يتداوى من الأمراض، ويأكل أطيب الطعام، وأن المال يكون سببًا في طول عمره، والواقع أن الإنسان قد يموت بسبب ماله، وإن كان من المعلوم بالحساب والإحصاء أن معدل أعمار الأفراد في الدول المتقدِّمة أطول منه في الدول النامية، بسبب الخدمات الصحية، والغذائية، والوقائية، وهذه من الأسباب الشرعية، وليس سببًا خارقًا أو خارجًا عن القضاء والقدر، فالبلاد التي تشيع فيها الأمراض والمخاطر البيئية، وتكثر فيها حالات المصادرة والقهر والحرمان والأذى للناس؛ يكون الفرد فيها أقصر عمرًا.
لكن هل الأغنياء والمشاهير في البلاد المتقدِّمة أو غيرها هم أطول أعمارًا من غيرهم؟
إن من أكثر أسباب مرض الضغط والسكر والقلق والجلطات الدماغية، الانشغال بالمال والإفراط فيه.
2- أنه نسي الموت بانهماكه بالدنيا وانشغاله بها، فعمله على مَن يعتقد الخلود، كما يقول الحسن البصري: «ما رأيتُ يقينًا لا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه من الموت».
3- أنه يظن المال أخلده في الذكر، والذكر عُمْر، كما قال الشاعر:
فارفعْ لنفسِكَ بعد موتِك ذكرَها * فالذِّكرُ للإنسانِ عمرٌ ثانِي
فهو بنى المباني الفخمة، وشَيَّد وأَسَّس، فلذلك يحسب أن هذا المال خلَّده ببقاء ذكره بعد الموت، ومن الناس مَن يكون له شيء من الذكر بالمال إذا أحسن استخدامه، ومع هذا فالناس سَرَعان ما ينسون، وإن ذكروا فذكرهم لا ينفع الميت إِلَّا أن يكون دعاء وثناء بخير.
4- أن يكون المقصود خلود مَن بعده من الورثة والقرابة ونحوهم، فهو يظن أنه بنى لهم مجدًا لا يزول بهذا المال.
5- أنه يحسب المال أخلد طريقته ومنهجه، كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَال } [إبراهيم: 44]. هم يعرفون أنهم يموتون، ولكن يقولون: يرثنا قوم آخرون، يكونون مثلَنا، على طريقتنا ومنهجنا. وفي كتاب: «نهاية التاريخ» أن الحضارة الأمريكية ونظام الحكم الديمقراطي الليبرالي هو نهاية التاريخ والتطور البشري.
وفي الآية الكريمة تعريض لطيف بأن المجد ليس بالمال، ولهذا قال بعده: {كَلاَّ} وإنما سبب الخلود في الدنيا والآخرة هي الأعمال الصالحة، والفضائل المعنوية: فضيلة العلم، الخلق، الإحسان إلى الناس، والتعبد، والتواضع، فالفضائل المعنوية والعلوم والأخلاق، هي المجد الباقي لصاحبه في الدنيا والآخرة.
فبذلك يضمن الإنسان شيئًا من الخلود في الدنيا بالذكر الحسن، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِين } [الشعراء: 84]. وكذلك الخلود في الجنة.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7