من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة التكاثر
الحلقة 140
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
شوال 1442 هــ/مايو 2021
* {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر}:
أي: شغلكم، وجعلكم تلهون به عما هو خير منه وأبقى.
و{التَّكَاثُر} تفاعل من الكثرة، ولها ثلاثة معانٍ:
1- الاستكثار من شيء وطلب الزيادة منه، كإنسان عنده مال فيطلب المزيد، وآخر عنده أولاد، وهو يريد المزيد.
2- مسابقة الآخرين ومغالبتهم، فيما يتنافس الناس فيه من جاه أو علم أو مال أو ولد، وقد لا يكون له رغبة في الشيء ذاته بقدر الرغبة في الغلبة والسبق، ولذلك قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20]، فالتفاخر يكون مع الآخرين؛ لأن الإنسان لا يتفاخر مع نفسه.
وهذا هو الموضع الثاني الذي ذُكر فيه لفظ {التَّكَاثُر} في القرآن.
3- المفاخرة بالكلام دون الفعل، وهو مقصور على المفاخرة بما مضى من أفعالهم أو أفعال آبائهم.
والآية عتاب ولوم على التكاثر في أمر الدنيا والغفلة عن الآخرة، وأن العبرة بالكيف لا بالكم، أما الاهتمام بالكم فهو التكاثر.
وغالب الناس مشغوفون بالكم أكثر من الكيف، فتجد أحدهم حريصًا على جمع المال ورصده، لا يبالي أمن الحلال أم من الحرام؟ وقد يكون بخيلًا، فلا يرى عليه أثر النعمة والغنى، فيعيش عيشة الفقراء، محرومًا من طيب اللباس والطعام والسكن، وما هو إلا وبال عليه، كما قال علي رضي الله عنه: «عجبتُ للبخيل؛ يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنى الذي إياه طلب، فيعيشُ في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء!».
ومثله: التكاثر في عدد الأولاد، دون اهتمام بالتعليم والتربية والأدب، وكأنه في زمن الجاهلية، يريد أولادًا يخوِّف بهم أعداءه أو يحمي بهم ذِماره، وقد يعجز عن الإنفاق عليهم، أو منحهم العاطفة والحب، أو مساعدتهم على النجاح والتفوق.
وفي العبادات، صارت عناية الناس بالمبنى دون المعنى، وبشكل العبادة دون حقيقتها وروحها، ويتحدَّثون: فلان كم صلَّى، وكم صام، وكم ختم المصحف، وكم حفظ من فنون العلم ونصوصه، دون أن يتساءلوا عن أثر ذلك على سلوكه وخلقه وسمته.
وغالب ثقافة الناس عددية: كم عدد المسلمين، كم أتباع هذه الجماعة أو الحزب، وكم عدد قراء هذا الكتاب، أو مشاهدي هذا المقطع، أو متابعي هذه القناة أو البرنامج، أو مشتري هذه المطبوعة، أو متصفحي هذا الموقع؟
أما السؤال عن التأثير والتغيير، فقلما نعيره الأهمية اللازمة.
وفي غزوة حُنين أعجبت المسلمين كثرتهم، فحاقت بهم الهزيمة، فقال سبحانه: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِين} [التوبة: 25].
ومطلق التكاثر لا يذم، بل المذموم هو التكاثر الملهي، كما تنصُّ الآية.
ولذلك قال الله سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين: 26]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُون * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون} [الواقعة: 10- 11]. فإذا كان هذا عنده أعمال، وهذا عنده أعمال، وأعمالهم متكافئة طمأنينة وإتقانًا وإخلاص نية، وعلى وفق السنة، فإنهم يتفاضلون بعد ذلك بالكثرة، أي: بما استغرق من أوقاتهم وجهدهم من تلك الأعمال.
وسواءً حملناه على طلب المزيد، كما هو المعنى الأول، أو على منافسة الآخرين، كما قد يقع في الجهاد أحيانًا؛ فقد تجد قومًا يكون لهم بلاء، فالآخرون يريدون أن يكون لهم بلاء أعظم، أو هؤلاء لهم دعوة، فالآخرون يحاولون أن يحقِّقوا نجاحًا في الدعوة يسبقون به هؤلاء، أو كان نوعًا من التكاثر بالقول الذي لا يقصد به الاغترار بالعمل، وإنما يقصد به المنافسة في الخير، أو إثبات الحق، فليس مذمومًا بإطلاق، وإنما المذموم منه ما كان ملهيًا عن طاعة الله تعالى، ولهذا يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «سبق درهمٌ مئةَ ألفِ درهم». وذلك لأن الدرهم هو كل ما يقدر عليه، وتوفر فيه الصدق والإخلاص، وتجرد من المن والأذى.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7