من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة القارعة
الحلقة 138
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
16 رمضان 1442 هــ/28 أبريل 2021
* {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث}:
قد يُظن أن هذا الجواب للاستفهام السابق، والذي يظهر أن هذا ليس جوابًا؛ لأن السؤال كان عن ماهية {الْقَارِعَة}، أي: حقيقتها.
أما الآية فهي وصف لبعض حوادث ذلك اليوم، ومع هذا لم يحدِّد زمنًا؛ لأن الساعة من الأمور التي لا يَعلم ميقاتها إلا الله، كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [الأعراف: 187].
فلا مجال للسؤال عن تحديد اليوم هنا؛ ولذا انتقل إلى وصف مشهد من مشاهده، كأنما يشهده الإنسان، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش}، ذكر تعالى تغييرين، أحدهما يتعلق بالناس.
والفَراش هي: الدواب التي تتطاير حول النار، وكثيرًا ما تقع فيها، كما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إنما مَثَلي ومثلُ النَّاس كمَثَل رجل استوقدَ نارًا، فلما أضاءتْ ما حولَهُ جعَلَ الفَراشُ وهذه الدَّوابُّ التي تقعُ في النار يقعنَ فيها، فجعل ينزعُهُنَّ ويغلبْنَهُ فيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ عن النار، وهم يَقْتَحِمُونَ فيها». وكثيرًا ما يضرب بها المثل بالجهل والطيش وسوء المعرفة بالعواقب.
وقد وصفهم بوصف آخر: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر} [القمر: 7].
وثَمَّ فرق بين الفراش والجراد، فهم يشبهون الفراش في تفرقه، وكل واحد يَهِيم على وجهه على غير هدى، ويشبهون الجراد في خروجهم من الأَجْداث- أي: القبور- في كثرة واضطراب يكاد يركب بعضه بعضًا.
وما بالك بموقف يُحشر فيه الناس كلهم أولهم وآخرهم من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الناس، على صعيد واحد، فهاهنا الاضطراب والتداخل.
* {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش}:
ثنَّى الله تعالى بالجبال التي تصبح كالعِهْن المنفوش، وهو الصوف عند جمهور المفسرين.
والمنفوش: المنتفش المتطاير الخفيف، فهذه الجبال القوية المتينة تضعف، حتى تصبح كالصوف المنتفش المتطاير.
وفي آيات أخرى أخبار عن الجبال في يوم القيامة بأوصاف أخرى تحمل على التنوع في العبارة، والتنوع في أحوال الجبال.
فإذا كانت الجبال يقع لها مثل هذا، فما بالك بالإنسان وما يقع له من الرَّوْع والخوف والقلق؟ ولذا يقول أبو العلاء الـمَعَرِّي لما رثى والده:
فيا ليتَ شِعرِي هل يَخِفُّ وقارُه * إذا صارَ أُحْدٌ في القيامةِ كالعِـهْـنِ؟
وهل يَرِدُ الحوضَ الرَّوِيَّ مُبادرًا * مع الناسِ أم يأبى الزِّحِامَ فيستأني؟
* {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة}:
هذه الآيات هي مقصود السورة؛ فالنهاية جنة أو نار، والميزان هو الحكم العدل.
بدأ الله سبحانه بمَن ثقلت موازينهم؛ تقديمًا لجانب الرضا والرحمة؛ لأن الناس في حال رعب وخوف، والسورة ذكرت وصف الناس والجبال، والصوت المرعب، فهو تعالى أسرع بالرحمة والرضا، ولذلك قدم من ثقلت موازينه من أهل الجنة؛ لأن رحمته تسبق غضبه.
والجمع هنا قد يدل على وجود أكثر من ميزان، وقد يكون الميزان واحدًا، وإنما تعدَّد بحسب الأعمال، وقد يكون الأمر شيئًا آخر مما يعلمه ربنا ولا نعلمه، لكننا نؤمن بأن عند الله تعالى موازين، وهذا في القرآن واضح، كما يقول سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين} [الأنبياء: 47].
والسياق يوحي بأن لكل مكلَّف موازين تطيش أو تثقل، موازين عدل تُوزن بها الأعمال، أما كيفية الوزن، فأنت لا تعرف ما هو أهم من هذا وهو حقيقة يوم القيامة، ولا تستطيع أن تتخيَّل على وجه الصحة ما يجري فيه، إلا أن الله تعالى قرَّبه إليك بهذه المعاني التي يدركها عقلك.
وجمهور أهل السنة يؤمنون بالموازين ويثبتونها، سواءً كانت ميزانًا واحدًا أو موازين، وبعضهم يقولون: توزن الأعمال ويوزن الأشخاص وتوزن السِّجِلات والصحائف.
والمهم النظر فيما تثقل به الموازين، وربما يطيل بعضهم الجدل حول الموازين، وتكون موازينه مملوءة بالغيبة والنميمة، والقيل والقال، والغل والحسد، والحقد والكذب، والشحناء.. ففقه اللسان لا يغني عن فقه القلب.
والعيشة الراضية: عيشة ذات رضا، اندمج فيها الرضا، فأصبحت راضية، فضلًا عن صاحبها الذي يتمتع بها، فهو في عيش ناعم منعم.
* {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} :
يعني: من الكفار أو من المسلمين المسرفين على أنفسهم بالذنوب والمعاصي الذين كانت سيئاتهم أكثر من حسناتهم.
والحق ثقيل، كما قال أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، فثقل الميزان يكون بعمل الصالحات والاجتهاد في الطاعات، واستجماع الإرادة والعزيمة، ومدافعة للنفس، أما الباطل فخفيف، لا يحتاج إلى عناء واجتهاد ذي بال.
وهذه الآية تحتمل ثلاثة معانٍ:
1- أن المقصود بـ«الأم»: جهنم؛ لأنه يأوي إليها، فهي مثل الأم، وهو معروف عند العرب، يقول أُمَيَّة بن أبي الصَّلت:
الأرضُ معْقِلُنا وكانَتْ أمَّنا * فيها مقابِرُنا وفِيها نولَدُ
فشبَّه الأرض بالأم؛ لأنه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، ويقول أبو القاسم الشَّابي من المعاصرين:
وقالتْ لِيَ الأرضُ لَمَّا سَأَلْتُ: * أَيَا أُمُّ هل تكرَهِينَ البَشَـرْ؟!
2- أن المقصود بـ«الأم»: الرأس، يقولون: أم رأسه. يعني: رأسه. فالتقدير: فأم رأسه هاوية. كأنه يقول: رأسُه تَهوِي وتتردَّى في جهنمَ.
3- يعني: أمه ثاكلة حزينة، أو في مقام الحزينة، وكأنه مثلٌ يضرب، ولذلك يقول كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه:
هَوَتْ أمُّهُ ما يبعثُ الصبحُ غاديًا * وماذا يؤدِّي الليلُ حين يؤوبُ
هَوَتْ أمُّهُ: على سبيل التوجع له، كما يقولون: فلان ثكلته أمه، ولا يراد به حقيقة معناه.
والأول أرجح أن {هَاوِيَة} صفة لجهنم، يعني: فأمه نارٌ هاوية.
* {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} :
أي: الهاوية، والهاء في: {مَا هِيَه} هاء السكت، وهي تنطق وقفًا ووصلًا عند جمهور القراء، أي: هي نار حامية، وكل نار فهي حامية، فالوصف توكيد لفظي، كما في قوله تعالى في الآية الأخرى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة} [الهمزة: 6- 7]، والناس تعوَّدوا أن يجمعوا حطبًا؛ حتى يوقدوا النار، فتشتعل مرة وتنطفئ مرة أخرى، أما نار الآخرة فشيء آخر، وقد أُوقد عليها ألف عام، ثم ألف عام، ثم ألف عام، وفُضِّلَت على نار الدنيا بسبعين ضعفًا، كلهن مثل حرِّها، فكأن النيران الأخرى لا تعد شيئًا بالقياس إلى نار الآخرة.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7