من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة التكاثر
الحلقة 141
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
شوال 1442 هــ/مايو 2021
* {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر}:
{حَتَّى } حرف غاية عند أهل اللغة، يعني: ألهاكم إلى غاية معينة، والمعنى: استغرقتم في ملذات الدنيا، فلم تفيقوا إلا وأنتم في القبور؛ ألهاكم حتى مُتم ودفنتم.
وعبَّر عن ذلك بالزيارة؛ لأنهم سوف يرتحلون منها إلى الدار الآخرة، فهي إقامة مؤقتة، وقد جاء في «الصحيح» أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم زار أعرابيًّا مريضًا، وكان فيه حمَّى شديدة، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا بأسَ طَهورٌ إنْ شاءَ اللهُ». فقال الأعرابيُّ: كلا، بل حمى تفورُ، على شيخ كبير، تُزِيرُه القبورَ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فنعم إذًا».
وتُزِيرُه القبور، أي: توصله إلى الموت.
وقد يتساءل البعض: كيف ماتوا فعلًا وهم ما زالوا أحياء يسمعون الخطاب، ويردون الجواب، ويتقلبون في الأرض، ويتكاثرون بالأموال والأولاد، ويسعون سعيًا كادحًا حثيثًا؟
الجواب: أن هذا باعتبار ما سيكون، ويقول العلماء: هذا لتحقق الوقوع، وقد يعبر بالفعل الماضي لتحقّق الوقوع، وهذا أمر مقطوع به، ولا أحد يشك في أنه سوف يزور المقابر.
وعبَّر هنا بالفعل الماضي {زُرْتُمُ}، ولم يقل: «تزوروا»؛ لتحقّق الوقوع، فهو أمر مقطوع به، متعلِّق بالتكاثر، والمعنى: إن حبكم للتكاثر والتهاءكم به حملكم على التفاخر بالأموات، فكأنكم ذهبتم إلى القبور لتستنطقوا منها مآثر آبائكم.
{حَتَّى زُرْتُمُ} إشارة إلى أنهم حُرِموا من المحاسبة والمراجعة والنظر والتأمل في أحوالهم؛ ولذلك يموتون ولديهم حاجات وأمنيات معلَّقة، وكانوا يتوهمون أنهم سيحققونها، وكانوا يعوِّلون على شيء اسمه: المستقبل، وهذا المستقبل لما صار حاضرًا، تجدَّدت لهم الآمال والأطماع، حتى زاروا المقابر دون أن يشعروا.
فصاحب المال زار القبر، ولم يتمكَّن من كتابة الوصية!!
وصاحب الذنب زار القبر، ولم يتمكَّن من التوبة!!
ها هم يموتون، وتموت بموتهم آمالهم وأحلامهم، وفي الآية حث على استثمار الحياة، والتحذير من التسويف وطول الأمل.
والله سبحانه لم يذكر ما هو الشيء الذي لَهَوْا عنه، أما الذي لَهَوْا فيه فهو ظاهر، ولم يذكره لظهوره ولهوانه، وأما الذي لَهَوْا عنه، فلم يذكره لعظمته؛ فالإنسان ربما لَهَى بأمورٍ دنيئةٍ خسيسةٍ حقيرة عن أمور عظيمة، وعن جنة عرضها السماوات والأرض، وعن رضا الله تبارك وتعالى، وعن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، وعن أجمل لذات الحياة ومتعها.
ربما يُشْغَلُ كثيرون بلذة الجسد الحسية والمتاع العابر، ويقعون في حبائله بالحلال أو بالتأويل أو بالحرام، ويرونه غاية اللذة، فيلهيهم عن كسب المعارف والعلوم، وما فيه من المتعة والبهجة، وعن العبادة وما فيها من الطمأنينة وقرة العين، وربما شغلهم عن تذوق حلاوة الأخلاق والعقل والروح.
* {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون}:
الآية مكررة مرتين، و{كَلاَّ} حرف زجر ووعيد وتهديد، في غالب سياقات القرآن، ولا يوجد في القرآن تكرار من غير معنًى مضاف، وقد صنَّف بعض أهل العلم كتبًا في أسرار التكرار في القرآن العظيم، سواءً تكرار القصص، أو المعاني، أو الألفاظ، وهو ما يسمى بالتكرار اللفظي، أو التوكيد اللفظي.
و{ثُمَّ} حرف عطف يفيد التراخي، والتكرار لا يعني مرتين فقط، بل هو إلى ما لا نهاية؛ فالعرب عادة يستخدمون المرتين تعبيرًا عن مطلق العدد، فهو تحذير وإنذار وتوبيخ وتقريع مستمر مرة بعد مرة، وهو حجة بالغة عليهم أن الله أمهلهم ومدّ لهم وحذَّرهم المرة تلو الأخرى.
ويحتمل أن التحذير الأول: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون} أي: في الدنيا، وذلك بما سوف ترون من المصائب، وذهاب القوة وورود المرض، والهزيمة والخذلان، وظهور الحجج والآيات، ونصر الله تعالى لأوليائه ورسله عليهم السلام، ورفعةِ شأن هذا الدين.. سوف تعلمون هذا في الدنيا، وعند الموت يؤمن الكافر، ويبر الفاجر، ولاتَ ساعة مَنْدَم.
والدنيا فيها من العبر الشيء الكثير، والذين يرحلون عنها سوف يجدون شيئًا آخر مختلفًا عما كانوا يعيشونه في الدنيا ويتمتعون به.
أما الثاني فهو وعيد يتعلَّق بالبرزخ، ولذلك كان بعض الصحابة- كعلي وابن عباس رضي الله عنهم- يرون في هذه الآية دليلًا على إثبات عذاب القبر؛ لأن قوله سبحانه: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون} دليل على ما سوف يرونه ويعلمونه بعد الدنيا، وذلك حينما يكونون في قبورهم. وقد تكون الأولى للدنيا، والثانية للآخرة مطلقًا، وليس للقبر فقط، وإنما للقبر وللنشر وللحساب وللجزاء وللنار إذا دخلوها.
ويحتمل أن قوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون} للكفار، وقوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون} للمؤمنين.
وهذا معنًى لا بأس به، وإن لم يكن في قوة ما قبله؛ فالمؤمنون سوف يعلمون، وسيرون فضل الله تعالى ورحمته وآياته في الأنفس وفي الآفاق، كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53]، والكفار سوف يعلمون وعيد الله تعالى وصدق ما أخبر به الرسل.
ولم يبيِّن ماذا سوف يعلمون؛ ليكون التهديد غامضًا مبهمًا ضخمًا، فقد يكون المراد: سوف تعلمون العذاب، أو الوعيد، أو النار، أو السخط، أو الخوف والرعب الذي يداخلكم وقت حلول الوعيد.
ومن معاني الإبهام وعدم تحديد المعلوم: الإشارة إلى أن السبب في لهوهم وانشغالهم بالتكاثر هو نقص علمهم أو عدم علمهم، فعدم العلم هو سبب اللهو، وسبب التكاثر، ولو عرفوا المعرفة الصحيحة لعقلوا.
وفي ذلك إشادة بالعلم، وأنه أول درجات الاستقامة؛ ولذا قال تعالى:
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19].
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/books/7