الجمعة

1446-11-18

|

2025-5-16

(محمد البشير الإبراهيمي أول مؤيد للثورة الجزائرية:اقتراحات وبيانات)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 259

بقلم: د. علي محمد الصلابي

رجب 1443 ه/ فبراير 2022م

أخذت الصيحة في أول نوفمبر 1954م الذين ظلموا حين أعلن الشعب الجزائري جهاده، فعقدت الدهشة ألسنة بعض السياسيين الجزائريين، وانطلقت ألسنة «التقدميين» تندد «بالإرهاب» وتشجب «العنف»، ولكن شخصية واحدة كانت يقظة مع خيوط فجر ذلك اليوم، وعرفت أن الفجر صادق، وأن المؤذن حقيقي، فاستجابت للنداء، إنها شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي.

إن أول مؤيد للجهاد الجزائري هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فقد أصدر مكتب جمعية العلماء بالقاهرة يوم 2 نوفمبر 1954 بياناً حمل فيه على فرنسا وحمّلها عاقبة ما ارتكبته في الجزائر، وأكد لها أنها «ستكون سبب موتها».

ثم ذكّر حكومات المشرق العربي بواجبها في «إمداد وتشجيع» هذه الحركات المتأججة في المغرب العربي.

وقد جاء في هذا البيان الذي تم توزيعه على الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية: ... أما نحن المغتربين عن الجزائر، فوالله لكأنها حملت الرياح الغربية ـ حين سمعنا الخبر ـ روائح الدم زكية فشارك الشم الذي شم، والسمع الذي سمع، والبصر الذي قرأ، فيتألف من ذلك إحساس مشبوب يصيرنا ـ نحن في القاهرة ـ وكأننا في مواقع النار والنار من خنشلة وباتنة.

ثم أكد ذلك البيان ببيان اخر يوم 3 نوفمبر 1954م، حيّا فيه الثائرين الأبطال الذين سفهوا زعم فرنسا أن الجزائر راضية بها مطمئنة إليها، والذين شدوا عضد إخوانهم في تونس والمغرب، والذين وصلوا حلقات الجهاد الذي هو طبيعة ذاتية في الجزائري، ثم ذكّرهم بجرائم فرنسا في حق دينهم ودنياهم، وأنه ليس أمامنا إلا «بقاء كريم أو فناء شريف» .

ثم عزز الإمام ذانيك البيانين بثالث وجّهه إلى الشعب الجزائري المجاهد، حياه فيه وذكّره بغدر فرنسا وأياديه البيضاء عليها، ونكرانها لجميله «فلم تُبق لكم ديناً ولا دنيا»، وحذر فيه الجزائريين من النكوص والتراجع، وأكد لهم أن فرنسا: تنظر إليكم مسالمين أو ثائرين نظرة واحدة، وهي أنها عدو لكم وأنكم عدو لها، ووالله لو سألتموها ألف سنة لما تغيرت نظريتها العدائية لكم، وهي بذلك مصممة على محوكم ومحو دينكم وعروبتكم وجميع مقوماتكم. ثم يدعوهم جميعاً إلى الكفاح المسلح.. فهو الذي يسقط علينا الواجب ويدفع عنا وعن ديننا العار.

لقد كانت هذه البيانات الصادرة كلها في العشر الأوائل من نوفمبر 1954م، عن أهم شخصية دينية وسياسية جزائرية ـ من غير أن يطلب منه طالب أو يضغط عليه ضاغط ـ كانت تلك البيانات ضربة قاضية على كل مناورة يمكن أن تلجأ إليها فرنسا في حال سكوته.

واقترح الشيخ الإبراهيمي على شيخ الأزهر يوم 12 نوفمبر 1954، أن يدعو إلى الجهاد ضد فرنسا، كل هذه المواقف الأولية لقيادة الجمعية في الخارج ؛ جعلت الضابط الفرنسي «سيرفي» يتهم الجمعية بالضلوع في تفجير الثورة.

لقد قدمت تلك البيانات دعماً قوياً للمجاهدين، ونفخت في الثورة روحاً، وهي في أوهن مراحلها، حيث أخرجت الشعب الجزائري من التردد والحيرة اللذين كان يمكن أن يُصاب بهما، لجهله بمصدر الثورة وتوجهها، فبيانات الإمام الإبراهيمي شهادة للشعب الجزائري على شرعية المولود ـ الثورة ـ وصحته، وكما أدت هذه البيانات دوراً هاماً في تقبل الشعب بسرعة للثورة، وكانت بمثابة جواز مرور للمسؤولين عنها ـ الثورة ـ إلى قادة جل الدول العربية والإسلامية، الذين لم يكونوا يعرفون مسؤولاً واحداً من مسؤولي الثورة، وزاد مِن تقبُّل قادة تلك الدول للثورة ومسؤوليها طلبُ الإمام الإبراهيمي من شيخ الجامع الأزهر يوم 12 نوفمبر 1954م أن يدعو المسلمين إلى الجهاد ضد فرنسا، الأمر الذي جعل الضابط الفرنسي «سيرفي» المتخصص في علم الاجتماع يكتب في جريدة «لُومُوند»: إن جمعية العلماء هي المسؤولة عن هذه الحوادث.

ولاشك أن هذا الضابط يعلم أن الجمعية ليست هي التي أطلقت الرصاصات، ولكنها هي التي حررت عقول من أطلقوا تلك الرصاصات وأنفسهم، فثورة الفاتح من نوفمبر كانت ترجمة عملية لفكرة جمعية العلماء التي أسسها ابن باديس.

لقد أزعجت هذه البيانات الذين في صدورهم غلّ، وفي قلوبهم مرض، لجمعية العلماء ولرئيسها الإمام محمد البشير الإبراهيمي، لأنهم كانوا يتمنون أن لا تؤيد الجمعية جهاد شعب علّمته معنى الجهاد ووجوبه، أو أن يتأخر تأييدها فيصبح لا قيمة له، كإيمان فرعون الذي لم يعلنه إلا بعد أن أدركه الغرق، فرُدّ عليه لذلك، فإن بعض من كتبوا عن ثورة الشعب الجزائري أهملوا الإشارة إلى هذه البيانات وموقف الإمام محمد البشير الإبراهيمي من جهاد شعبه، ومنهم من أشار إلى تلك البيانات وإلى ذلك الموقف على استحياء، ومنهم من فرّق بين موقف الإمام الإبراهيمي وبياناته وبين موقف الجمعية، فقالوا إن هذه البيانات تعبير عن موقف شخصي للإمام الإبراهيمي الذي كان بالقاهرة، وبالتالي فهي لا تعبر عن موقف الجمعية.

ولنسأل هؤلاء عن الحقيقة التاريخية: إذا كان الإمام يتكلم باسمه الشخصي وليس باسم جمعية العلماء، فلماذا يوقع تلك البيانات بصفته رئيس جمعية العلماء؟ ولماذا يصرّ على ذكر مصدر تلك البيانات وهو مكتب جمعية العلماء بالقاهرة؟

ولنسألهم مرة أخرى: لو لم تكن تلك البيانات باسم جمعية العلماء ؛ فلماذا سكت عنها هؤلاء العلماء؟ ولماذا لم يستنكروها؟ أو يتبرؤوا منها؟ أو يشجبوا موقف الإمام؟

إن الحقيقة التاريخية تقول: إن جمعية العلماء برئيسها كانت متقدمة على غيرها في احتضانها لجهاد الشعب الجزائري.

لقد كان في إمكان الإمام الإبراهيمي أن يلتزم الصمت وينتظر تطور الأوضاع كما فعل بعض السياسيين المحترفين، أو أن يندد بالإرهاب ويستنكر «العنف» كما فعل الشيوعيون أدعياء الثورة، أو أن يصدر البيانات باسمه الشخصي ليجنّب الجمعية التي يرأسها ويقودها السوء، ولكنه أدرك بحسّه العميق وتحليله الدقيق أن هذا الذي وقع في أول نوفمبر بالجزائر هو «ثورة» وليس «فورة»، وأن هذه الثورة تتميز «بحسن التدبير والنظام والإحكام»، وأن الثورة شعبية غير متأثرة بالتأثيرات الحزبية، وأن طابعها عسكري حازم عارف بمواقع التأثير.

من أجل ذلك فهذه الثورة في أمسّ الحاجة إلى مساندة هيئة ذات مصداقية لدى الشعب الجزائري، وتزكية شخصية موثوق بها لديه، ليحتضن الثورة ويُمِدّها بأمواله وبنيه.

ولم يكن في الجزائر انذاك هيئة موثوق بها وبرئيسها وأعضائها إلا جمعية العلماء، فالشيوعيون لا تأثير لهم على الشعب الجزائري، لا قبل الثورة ولا في أثنائها ولا بعدها، فإدارتهم إدارة مكتبية ـ بروقراطية ـ لا صلة لها بالشعب، ولم تكن قادرة على تحليل الحالة الثورية تحليلاً صحيحاً، وكان خضوع الحزب الشيوعي الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي ـ خضوعاً كبيراً ـ وكانوا أسارى نظريتهم الخيالية القائلة: بأنه من المحال تحرير الوطن الجزائري قبل انتصار طبقة العمال في فرنسا، والقائلة بنفي: صفة الثورة عن طبقة الفلاحين عامة والفلاحين الجزائريين منهم خاصة.

وأعضاء حزب أحباب البيان كانوا محدودي التأثير على الشعب الجزائري بسبب منطلقاتهم الفكرية التغريبية، وإيمانهم بإمكانية الوصول إلى نوع من الكيان السياسي المشترك بين الجزائريين والفرنسيين تحت السيادة الفرنسية.

وأما أعضاء حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، فقد كان بأسهم بينهم شديداً، فقد اختلفوا وانقسموا على أنفسهم.

إن بيانات الإمام الإبراهيمي المتتالية المؤيدة للثورة، الداعية إلى تأييدها، كانت مدداً إلهياً لها في أول عهدها وفي مرحلة ضعفها، لأنها جعلت الشعب الجزائري يطمئن إليها ويثق بها، ويقبل عليها من غير تردد ومن غير ضغط أو إكراه، فدفع الجماهير إلى الثورة ضد المستعمر يكون دائماً باسم الدين، لأن الجزائري ـ الذي لا يملك شيئاً يقتات به ـ ليس لديه إمكانية أخرى للتعبير عما يريده وما يرفضه في المجال السياسي ؛ سوى السير وراء ما يعتقد أنه طبقاً لعقيدته الإسلامية، ومن هنا كانت استجابته لتوجيه العلماء.

ويلعب هؤلاء العلماء دوراً كبيراً في إشعال الروح الدينية لدى الشعب، وفي دفعه من الناحية الدينية إلى الثورة ضد المستعمرين. ولم يمض إلا ثلاثة أشهر منذ إعلان الجهاد حتى تداعى أبناء الجزائر المقيمون في القاهرة وفي مقدمتهم الإمام الإبراهيمي، وحرروا ميثاقاً وأسسوا تنظيماً سُمي «جبهة تحرير الجزائر»، لخدمة الجزائر والكفاح في سبيل تحريرها واستقلالها مساندين بذلك جيش التحرير.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022