(قادة جمعية العلماء في الداخل: الأدوار والجهود)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 260
بقلم: د. علي محمد الصلابي
رجب 1443 ه/ مارس 2022م
قال أحمد توفيق المدني أحد قادة جمعية العلماء في الجزائر أنه خلال زيارة قادته لباتنة في أكتوبر 1954م، علم من مصدر موثوق أنه بعد أيام ستندلع الثورة، وحرصاً منه على تلبية نداء الوطن استدعى أعضاء المجلس الإداري للجمعية لاجتماع في 1 نوفمبر 1954م، وقرر المجلس مساندة الثورة دون تحفظ. كما بعث الأمين العام رسالة إلى الرئيس بالقاهرة يبلغه بأمر الثورة ويدعوه إلى تأييدها.(1)
وخلال شهر جانفي 1955م، نشرت الجمعية بياناً للشعب الجزائري حررته وقدمته للمجلس، فصادق عليه ونشر بجريدة البصائر عدد 304 ومما جاء فيه: إن البلاد في حاجة إلى تغيرات أصولية أساسية تتناول سائر الأسس التي بني عليها النظام الجزائري، لا إلى إصلاحات صورية طفيفة تؤيد الحالة الحاضرة المنكرة.. ولا تقبل الأمة بأية حال ولا ترضى عن برنامج إصلاحي ؛ إلا إذا حقق رغبتها التحريرية الكبرى في كل ما يتعلق بدينها ولغتها.(2)
من الفقرتين وغيرهما نتأكد تماماً أن جمعية العلماء قد ثبّتت موقفها من الثورة الصادر يوم 2 نوفمبر 1954م من طرف رئيس الجمعية، ومن داخل الجزائر من علماء الجمعية الذين دعموا العمل الثوري، الذي يعمل على التحرر من كل قيود الاستعمار، وأما ما ورد في البصائر فيمكن أن نعتبره أسلوب «تقية» لصرف نظر الاستعمار ورفع يده عن الجمعية، وخاصة أن هذا البيان جاء بعد شهرين تقريباً من اندلاع الثورة المسلحة.
من خلال بيانات الجمعية بالقاهرة 2/11/15 نوفمبر 1954م، وبيانها في الجزائر جانفي 1955م، وأغلب افتتاحيات جريدة البصائر ؛ يتبين أن جل عناصر الجمعية كانوا مع الثورة المسلحة كسبيل وحيد للتحرر.(3)
أ ـ الشيخ العربي التيسي:
تعدّ مدارس الجمعية ومعهدها بقسنطينة نموذجاً صادقاً في التأكيد على انخراط الجمعية في دعم الثورة منذ اندلاعها، حيث تجند معلموها وشيوخها وطلابها في إسناد ودعم الثورة، وهو ما نستشفه من خلال استعراضنا لمساهمة خلية معهد ابن باديس الثورية، ودور أساتذته في دعم الثورة التحريرية.
فقد كان الشيخ العربي التبسي يدير المعهد عندما اندلعت شرارة ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م، وقد عرف عن الشيخ وطنيته الصادقة وأفكاره الثورية، تلك الأفكار التي نشرها على نطاق واسع في بلدته تبسة، وعبر الوطن، ومما يؤثر عنه أنه عندما كان يلقي دروسه الوعظية اليومية في تبسة سأله أحد المستمعين عن قصة أهل الكهف السبعة الواردة في القران الكريم هل هي حقيقة؟ فما كان من الشيخ سوى أن أجابه جواباً سياسياً رمزياً بالقول: ما نعرف غير سبع ملايين رقود في الجزائر أنت واحد منهم، ورسالة التبسي المشفرة واضحة، وهي إشعار الجزائريين بواقعهم الاستعماري المرير وبضرورة تفطنهم لتغييره،(4) وطبعاً قصة أصحاب الكهف حقيقية وفيها دروس في الصراع بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والعاقبة للموحدين المتقين.
وقد نقل عنه المقربون منه أنه عندما زار مصر في جولته المشرقية والتقى عبد الناصر في سبتمبر 1954م، طلب منه صراحة أن يساعد الجزائريين بالسلاح، وهو ما ترك انطباعاً جيداً لدى عبد الناصر، الذي كان الداعم الأساسي للثورة وهي في مهدها.(5)
وفي اليوم الثاني لاندلاع ثورة 1954م خرج التبسي من منزله بتبسة، فلقي شخصين مناضلين يعرفهما، فدعا أحدهما وسلمه مبلغ خمسمائة ألف فرنك طالباً منه إيصالها للجماعة، بعد أن أبلغه أنها من حرّ ماله وليست من مال الجمعية.(6)
وقد كشفت شهادة مساعده إبراهيم مزهودي حقائق أخرى عن مساهمة التبسي وجمعية العلماء في الثورة، حيث يذكر مزهودي أن تشجيع الشيخ التبسي كان يقف وراء التحاقه بصفوف الثورة، ويورد حادثة وقعت في بداية الثورة، إذ اتصل بعض قادة الثورة ومنهم شيخاني بشير بالشيخ العربي في تبسة وطلبوا منه مساعدة الجمعية في توفير الألبسة والأغطية لمواجهة برد الشتاء القارس، وأعربوا عن رغبتهم في لقاء الشيخ العربي خارج المدينة وفي مكان قريب من الجبل الأبيض.
فاتصل الشيخ العربي بمزهودي وأعلمه باتصال الجماعة، وبعد التشاور تبين أن خروج الشيخ يثير الشبهات، ويمكن اكتشافه من قبل الإدارة الفرنسية وعيونها، وتقرر أن يقوم بالمهمة مساعده مزهودي.
وتم إرساء اتصال وثيق بين الجمعية وقيادة الأوراس النمامشة، انطلاقاً من جبل تازينت، وامتد الاتصال بعدها إلى قيادة الشمال القسنطيني وعبان بالعاصمة، حيث طلب عبان من الشيخ التبسي تجنيد الجمعية لربط الاتصال بين قيادات الثورة وتقديم الدعم للثورة، وهي مهمة كلف بها التبسي مساعده مزهودي، وذلك بحكم وظيفة هذا الأخير مفتشاً للتعليم وعلاقاته بمعلمي المدارس الحرة في كامل الشرق الجزائري. وهكذا نهض التبسي ومزهودي بمهام جسورة في بداية الثورة وجعلا خلية الدعم الأساسية تتخذ من معهد ابن باديس مقرا.(7)
وقد كان التبسي يتعهد نشاط هذه الخلية، ويؤدي بعض المهمات والرسائل التي يكلفه بها عبان، وتعاون معه في مسائل التنسيق وجمع المال وتجنيد إمكانيات الجمعية في خدمة الثورة، وقد واصل التبسي تهجمه على الاستعمار في خطبه وكتاباته، وتعرض للاعتقال مرات عدة.
وفي 4 أبريل 1957م قررت الإدارة الفرنسية التخلص منه، فاختطفته عصابة اليد الحمراء من منزله واغتالته، وأنكرت الإدارة الفرنسية علمها بالحادث، ولا يعرف إلى اليوم له قبر، وقبل اعتقاله الأخير واغتياله زار مدينة قسنطينة وتفقد المعهد وسير الدراسة، واجتمع بالشيوخ والطلبة وأوصاهم خيراً بالدين والوطن، وقد أثار خبر مقتله صدمة داخل الوطن وخارجه.(8)
ب ـ مزهودي إبراهيم:
من رجال جمعية العلماء، ومسؤول خلية دعم الثورة بالمعهد، ورائد في جيش التحرير الوطني، ولد بالحمامات قرب تبسة عام 1922م. تلقى تعليماً دينياً بمسقط رأسه وعلى يد العربي التبسي بتبسة، وواصل تعليمه بجامع الزيتونة إلى أن تخرج منه عام 1946م بشهادة التحصيل، وعاد إلى أرض الوطن وانخرط في نشاط جمعية العلماء، وتولى عدة مسؤوليات في الإشراف على التعليم الحر، منها مفتش مدارس التعليم بالشرق الجزائري.
وانضم إلى جبهة التحرير الوطني منذ ميلادها بتوجيه من العربي التبسي، حيث ربط الاتصال بين قيادات الثورة وعبان، وتولى عدة مسؤوليات في مدينة قسنطينة، حيث أنشأ خلية لدعم وإسناد الثورة بمعهد ابن باديس، وأنجز بنجاح عدة مهام متعلقة بالتنسيق والاتصال والتموين والتجنيد، وذلك إلى غاية اكتشاف أمره في 10 مارس 1956م والتحاقه بالشمال القسنطيني، وعمل مساعداً لزيغود يوسف، وكان له دور هام في كسب بعض شيوخ الجمعية وطلبة معهد ابن باديس لصالح الثورة، وحضر مؤتمر الصومام وعين رائداً واقترح لقيادة الولاية الأولى ولكنه أبى، فكلف بمهمة رأب الصدع بين قيادات النمامشة، وكذا إعادة النظام إلى قاعدة تونس المضطربة، فواجه صعوبات جمة في أداء مهامه، خاصة مواجهة المعارضين لقرارات الصومام.(10)
لقد تسلم مزهودي مهمته منذ أفريل 1955م، حيث بدأ عبان ينشط بالعاصمة، وظل يؤدي مهمته السرية في ربط الاتصال بين قادة الثورة نحو عام كامل. وفي فيفري 1956م اكتشف أمره، حيث علم عبان عن طريق عيونه في الإدارة العامة الفرنسية، أن رأس مزهودي مطلوب في قسنطينة، وبعد مشاورات بين عبان والتبسي ومزهودي تقرر التحاق هذا الأخير بقيادة يوسف في أوائل مارس. وقد كانت الخلية الأم تضم في عضويتها كل من بوغابة مصطفى ومحمد الميلي، وقد أنشأت فروعاً تابعة لها في مدن الشرق الجزائري، وكانت تنسق عملها مع خلايا الفداء المشكلة بمدينة قسنطينة، ومنها الخلايا التي يتولاها كل من: مصطفى عواطي، وصالح بوذراع، ومسعود بوجريو، ولما التحق مزهودي بالجبل استخلف بوغابة في تولي مسؤولية خلية المعهد.
وخلال السنة التي نشّط فيها مزهودي الخلية، قدمت للثورة خدمات جليلة لم ينفض عنها الغبار، ولم يكن معروفاً منها سوى أن مرسولي عبان، عمارة رشيد وسعد دحلب، اتصلا بقيادة الشمال القسنطيني عن طريق خلية المعهد التي يديرها مزهودي، ولكن نشاط الخلية كان واسعاً وثرياً، وإن كان أهمه ربط الاتصال بين قيادة الثورة في العاصمة والمناطق الأولى والثانية والثالثة.(11)
إن خلية الدعم التي أنشأها مزهودي من معلمي المدارس الحرة، لعبت الدور الأساسي في ربط الاتصالات بين قيادة الثورة، وكان هدفها الأولي تقديم الدعم والمساندة للثورة، واتخذت من معهد ابن باديس مقراً رئيسياً وبه مكتب مسؤول الخلية مزهودي وأساتذة وطلاب المعهد، وأنشأت فروعاً لها في الشرق الجزائري الكبرى اعتماداً على سواعد معلمي المدارس الحرة وأعضاء جمعية العلماء ومحبيها. وبواسطة شبكة فروعها مكنت الخلية أساتذة المعهد وطلابه من لعب دور طلائعي هام في دعم الثورة، كما أنها قامت بأدوار هامة في دعم ومساندة الثورة في وقت مبكر من اندلاعها.
مراجع الحلقة الستون بعد المائتين
(1) المصدر نفسه ص 88.
(2) محمد بن ساعو، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ص 92.
(3) المصدر نفسه ص 92.
(4) عبد الله مقلاتي، اسهام شيوخ معهد عبد الحميد بن باديس وطلابه في الثورة التحريرية، ص 51.
(5) المصدر نفسه ص 52.
(6) المصدر نفسه ص 269.
(7) عبد الله مقلاتي، اسهام شيوخ معهد عبد الحميد بن باديس ص 53.
(8) المصدر نفسه ص 65.
(9) المصدر نفسه ص 74.
(10) المصدر نفسه ص 55.
(11) المصدر نفسه ص 55.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: