الجمعة

1446-11-18

|

2025-5-16

(دور أحمد توفيق المدني في الثورة الجزائرية)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 262

بقلم: د.علي محمد الصلابي

شعبان 1443 ه/ مارس 2022م

قال: العلماء أصبحوا منذ غرة نوفمبر 1954م إلى يوم النصر العظيم سنة 1962م جزءاً لا يتجزأ من الثورة، من الكفاح المسلح، من كل مسعى قامت به الثورة العملاقة من أجل تحقيق رغائب الشعب المزمجر كالأسد الهصور، وقال: وضعت البصائر منذ اليوم الأول، وباتفاق العلماء في صميم المعركة، وتوليت بتفويض من المجلس الإداري التصرف بالبصائر وتحرير افتتاحياتها ولم يكن يسيراً، فقد كان عليّ أولاً أن أتولى النضال عن حق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، وفضح الأساليب الاستعمارية القذرة التي كان الاستعمار الخبيث يرتكبها، من أجل إذلال شعب حر أبيّ، ومقاومة حركة ثورية متأججة الأوار، والمدّ في حكم استعمار حكم عليه الله والشعب بالموت الذريع.(1)

أ ـ علمه بالثورة قبل 1 نوفمبر 1954م:

قال: جاء يوم افتتاح مدرسة باتنة خلال شهر أكتوبر من سنة 1954م، فوقفت أقول للشعب العظيم الذي أمّ المدينة من مختلف جهات البلاد، مشيراً بيدي إلى جبال أوراس الشامخة التي كانت تشرف علينا، وتحيط بنا، كأنني أتنبأ بما سيقع قريباً: من هذه الجبال الشامخة ارتفع صوت الشعب المزمجر طيلة الاف السنين، فكان صوتاً كهزيم الرعد الصاعق يمحق الظالمين، ويحطم جبروت المحتلين، ومن هذه الجبال الأبية الصامدة الرافعة رأسها للسماء سيرتفع من جديد ـ عما قريب ـ صوت الشعب القاهر الغلاب، يملي إرادته على الدنيا ويقوّض أركان الظلم والطغيان (2)إلى أن قال: ... علمت بعد أيام من أحد موقدي نار الثورة أنها ستقع يوم غرة نوفمبر 1954م، وأقسمت له يميناً صادقاً أنني لا أبوح باسمه لأحد ولا أتكلم عن ذلك الموعد لأحد، إلا أنني أردت أن تكون جمعية العلماء مستعدة لتكون أول من يستجيب لذلك النداء، وأول من يدفع رجاله وشبابه في ميدان التضحية والاستشهاد، ذلك الميدان الذي كنت أبشر به وكنت أصوره بألوان ناصعة أثناء دروسي العامة بمركز جمعية العلماء، عن تاريخ الجزائر وتاريخ الإسلام، وأقف الموقف الطويل في تحليل معارك الحرية والاستقلال.

فدعوت رجال الجمعية لعقد الاجتماع الإداري بمدينة قسنطينة يوم غرة نوفمبر من سنة 1954م، فأصبحنا بها ونحن نقرأ أنباء حوادث الانتفاض الأولى. وقررنا بإجماع أننا مع الثورة وبعثنا لكل رجالنا وشبابنا قرارنا هذا، وجاءت الساعة التي حددها الله، فإلى الميدان الشريف إلى الشهادة أو إلى النصر، وكان الزحف المقدس وكان النصر العظيم.(3)

ب ـ الذين عينوا للثورة يومها وساعتها:

أثنى الأستاذ أحمد توفيق المدني على حزب انتصار الحريات الديمقراطية وقال: إن هذا الحزب كان عظيماً حقاً، وإنه جاهد في سبيل الاستقلال جهاداً مريراً قاسياً، وإن ضحاياه الذين يفوق عددهم الحصر قد فتحوا أمام الشعب كله سبيل التضحية والفداء، وكانوا معالم الطريق الذي قادنا نحو الثورة المطهرة ونحوالحرية الغالية ونحو الاستقلال العزيز.(4)

وقال: كانت الهيمنة السياسية لحزب الانتصار، إذ أن كلمة الاستقلال الرهيبة التي كان ينادي بها عالياً، والتي كان يسعى جاهداً لنشرها وإقرارها ؛ قد جمعت حوله كل متعطش للحرية، وكل ناقم على الاستعمار وكل راغب في الثورة والانتفاض.(5)

ونقد زعيمه «مصالي الحاج»: إن قيادته كانت بسيطة دون مستوى المسؤوليات ودون مستوى الأحداث، وإن هذا الرجل الذي قاوم وضحى وسجن ونكب وأبعد وجابه الموت جهاراً لا يصلح لقيادة ... وأنه لا يمكن أصلاً أن يحافظ على مكانته، إذا ما تسربت للحزب طائفة مثقفة ونخبة صالحة تعرف كيف تتصرف وتعرف كيف تدير دفة السياسة.(6)

ثم قال: إن فكرة الحزب عالية رفيعة مقدسة وإن دعوته صالحة مستقيمة، لكن هذه الثمرة لا تؤتي أكلها إلا إذا غيرت قيادتها ووضعت على رأسها طائفة مستنيرة صالحة.

لكنني لا أنسى ولا يجب أن أنسى، وأكون مجرماً إذا نسيت، أن هذه الزعامة .. قد ابتكرت نظاماً غريباً، وشكلت هيئة من أعجب ما ألف في عالم المقاومة من هيئات: هو «المنظمة السرية» أو ما يدعونه « O.S » كانت هذه الهيئة لا تهتم بالسياسة إنما تهتم بالثورة وتهيأئ السلاح وتجند الرجال الصالحين القادرين وتستعد وتعد الشعب لليوم العظيم، كان على رأس هذه المنظمة السرية رجال من أمثال: أحمد بن بلة، ومحمد بوضياف، وحسين ايت أحمد، ورابح بيطاط، وعبد الحفيظ بوالصوف، رجال امنوا بالوطن وحدة، وبالاستقلال مبدأ، وبالثورة سبيلاً، وبطريق الدم والضحايا مبلّغاً للأهداف موصلاً للحرية.(7)

إن الذين فجروا الثورة في 1 نوفمبر 1954م هم مجموعة صغيرة من مناضلي الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية. فهذه حقيقة تاريخية واحتضنها الشعب العظيم، وكان لعلماء الجزائر وخصوصاً جمعية العلماء الأثر الفكري والعقيدي والإسلامي في تفجير طاقات الشعب الكامنة وأشواقه للحرية والاستقلال والسيادة، ففي علم الأسباب وبعد توفيق الله ما كانت الثورة تندلع لولا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه ثم أولئك الأبطال من مجموعة المنظمة السرية الذين غلب عليهم الحس الثوري والنضالي، واستعدادهم للتضحيات والشهادة في سبيل قيمهم ومبادئهم، وما كان لهؤلاء الطلائع النادرة في تاريخ الشعوب أن ينجحوا لولا استعداد الشعب بكل ألوانه وأطيافه وعلى رأسهم العلماء للشروع في ملحمة شعبية عظيمة، تقدم الغالي والرخيص وأعز ما لديها في سبيل حريتها واستقلالها.(8

ج ـ الرئيس جمال عبد الناصر ومعرفته بأول نوفمبر:

تحدث السيد أحمد توفيق المدني عن جماعة المنظمة السرية التي قابلت جمال عبد الناصر ثم قال: .. كشفوا كل ذلك للرئيس جمال عبد الناصر، وقد صرح لي بنفسه من بعد في حديث شخصي معه خلال شهر أكتوبر من سنة 1956م: أنه درس بغاية الاهتمام ما قاله له الوفد.. وأنه طلب من الوفد مهلة تفكير ثلاثة أيام، قال: وكنت أخذت فكرة سيئة عن الحركة الجزائرية، واستهجنت الطريقة التي زعم مصالي أنه يقود بها الشعب للاستقلال.

لقد كان تفكيراً عقيماً وطريقة سخيفة، لكنني بعد اطلاعي على منهاج الوفد، وتأملي العميق في طريقة عمله وتهيئة مراحله؛ ارتحت له واطمأنت نفسي لنتائجه، وعلمت أنها عملية ناجحة لا محالة. وعاد إليّ الوفد فصارحته برأيي وتداولنا طويلاً وحددنا إمكانياتنا، ووعدتهم أنني أكون معهم إلى النهاية، وأمدهم حالاً بما يمكن من سلاح خفيف، وأن أسعى شخصياً لدى الدول العربية وخاصة السعودية، لكي تمد الحركة بالمال، وهكذا أمرت الأخ فتحي والأخ عزت سليمان، بأن يكونا مع الوفد دوماً ممثلين لي شخصياً، وكنت أكتم الأمر على عدد من الوزراء الذين حولي، خوفاً من تسرّب السرّ وإسراع فرنسا إلى ضرب الحركة قبل بروزها. ثم إن السعودية قررت الاستجابة بدفع مائة ألف جنيه «100 مليون فرنك»، فأمرنا بأن ترسلها إلى إسبانيا حيث محمد بوضياف، وأعطيت الأمر للملحقين العسكريين المصريين ـ أينما كانوا ـ أن يكونوا في خدمة الحركة الجزائرية، واستمرت الأعمال إلى يومنا هذا كما قصه عليك الأخ فتحي، وبعثنا بالأسلحة مما عندنا ومما اشتريناه من الخارج إلى رجال الثورة.(9)

د ـ مراسلة الإبراهيمي وإعلامه بالثورة وأهدافها:

قال الأستاذ أحمد توفيق المدني عن الاجتماع للمجلس الإداري لجمعية العلماء الذي انعقد في غرة نوفمبر 1954م على الساعة العاشرة صباحاً: .. وبعد مذكرات طويلة ومفاهمات خاصة وعامة رأينا أننا من الثورة ومع الثورة، ولا يمكن إطلاقاً أن لا نكون مع الثورة مع الحذر التام.. وانتهى الاجتماع ورجعنا إلى المقر ليقوم كل منا بواجبه، وكان أول ما عملته هو أنني راسلت الرئيس محمد البشير الإبراهيمي أعلمه بالثورة وأهدافها، ومما قلت له: وهكذا أيها الشيخ الجليل، استجابت الأمة لدعوة الجهاد التي نشرناها مدى عشرين عاماً، وأعلنتها ثورة عارمة على الغاصبين، وأسندت قيادتها لجبهة تحرير وطني لا لحزب ولا لفرد، إنما هي قيادة جماعية على قاعدة سعد زغلول رحمه الله: في ميدان التضحية متسع للجميع.

أما وقد انضممنا نحن للثورة بقضيتنا، وسارت مواكب من شبابنا وشيوخنا تتصدر المعركة أو تتوسطها، فنرجوك أستاذي الجليل أن تفجر من ينبوع فكرك الصافي مورداً عذباً يشفي غلة الأمة الصادئة، وأن تنشر باسمك وبصفتك رئيساً للعلماء المسلمين الجزائريين منشوراً عاماً يبارك الثورة ويمجدها، ويدعو الأمة للمشاركة فيها روحاً وبدناً ومالاً، فالساعة حاسمة والمسؤولية جسيمة، ومن تأخر عن كفاح اليوم فلن يتقدم بعدها للكفاح إطلاقاً ويقيناً، ننتظر استجابة الرئيس للنداء.(10)

مراجع الحلقة الثانية والستون بعد المائتين:

)) أحمد توفيق المدني، مذكرات حياة و كفاح (3/93).

(2) حياة كفاح (2/567).

(3) المصدر نفسه (2/569).

(4) المصدر نفسه (3/32).

(5) المصدر نفسه (3/31).

(6) المصدر نفسه (3/32).

(7) المصدر نفسه (3/33).

(8 المصدر نفسه (3/24).

(9) المصدر نفسه (3/36).

(10) حياة وكفاح (3/43).

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022