(جمال عبد الناصر قبل اندلاع الثورة الجزائرية)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 328
بقلم: د.علي محمد الصلابي
صفر 1443 ه/ سبتمبر 2022م
كانت القاهرة مستقر النخبة الثورية الجزائرية، ومصدر إلهام لكل الشعوب العربية التي تسعى للاستقلال والحرية، وإن كانت مرحلة الملك فاروق بالنسبة للجزائريين تميزت بوضع لبنات قوية في صرح بناء مغرب عربي موحد، انطلاقاً من مساهمتهم في مكتب المغرب العربي إلى لجنة تحرير المغرب العربي ؛ فإن مصر الثورة أكملت مشوار النضال وقدمت كل ما في وسعها لنصرة كل القضايا العربية ومنها قضية الجزائر، التي كانت تصل إلى كل العرب من المحيط إلى الخليج عن طريق إذاعة صوت العرب من القاهرة.
كما أن هذه المرحلة هي الأخرى تميزت بالتنسيق الكبير بين جماعة المنظمة الخاصة « OS » والرئيس المصري جمال عبد الناصر، وهذا ما يعكس روح الثقة التي كان الجزائريون الثوريون يضعونها في إخوانهم المصريين انذاك. فقد أوفدت المنظمة الخاصة مجموعة من مناضليها إلى مصر قوامه أحمد بن بلة ومحمد خيضر ومحمد يزيد وحسين الأحول، وقابلت بواسطة فتحي الديب من إدارة المخابرات العسكرية السيد الرئيس جمال عبد الناصر، فأطلعته على منهاجها الثوري وعزمها على إيقاد نار الثورة ـ بعد أن اجتمعت أولاً وقبل سفر الوفد بقرية «زدين» ـ وقررت أنه قد جاءت ساعة القدر وأن الحرب التحريرية قد ان اوانها.
ثم اجتمع «التسعة» مرة أخرى في أوروبا واتخذوا القرار النهائي وأعلنوا تأسيس «اللجنة الثورية للاتحاد والعمل»، وحرروا نداءها وعينوا للثورة يومها وساعتها، وكشفوا كل ذلك للرئيس جمال عبد الناصر. وقد صرح بذلك للسيد أحمد توفيق المدني في حديث شخصي معه خلال شهر أكتوبر من سنة 1956م: أنه درس بغاية الاهتمام ما قاله له الوفد، وأنه طلب من الوفد مهلة تفكير ثلاثة أيام.
قال: وكنت أخذت فكرة سيئة عن الحركة الجزائرية، واستهجنت الطريقة التي زعم مصالي أنه يقود بها الشعب للاستقلال، لقد كان تفكيراً عقيماً وطريقة سخيفة، لكنني بعد اطلاعي على منهاج الوفد، وتأملي العميق في طريقة عمله وتهيئة مراحله ارتحت له، واطمأنت نفسي لنتائجه، وعلمت أنها عملية ناجحة لا محالة، وعاد إليّ الوفد فصارحته برأيي وتداولنا طويلاً، وحددنا إمكانياتنا ووعدتهم أنني أكون معهم إلى النهاية وأمدّهم حالاً بما يمكن من سلاح خفيف، وأن أسعى شخصياً لدى الدول العربية وخاصة السعودية، لكي تمد الحركة بالمال.
وهكذا أمرت الأخ فتحي والأخ عزت سليمان بأن يكونا مع الوفد دوماً ممثلين لي شخصياً، وكنت أكتم الأمر على عدد من الوزراء الذين حولي، خوفاً من تسرب السر، وإسراع فرنسا إلى ضرب الحركة قبل بروزها.
ثم إن السعودية قررت الاستجابة بدفع مائة ألف جنيه 100 مليون فرنك، فأمرنا بأن ترسلها إلى إسبانيا حيث محمد بوضياف، وأعطيت الأمر للملحقين العسكريين المصريين ـ أينما كانوا ـ أن يكونوا في خدمة الحركة الجزائرية. واستمرت الأعمال إلى يومنا هذا كما قصه عليك الأخ فتحي، وبعثنا بالأسلحة مما عندنا ومما اشتريناه من الخارج إلى رجال الثورة.
هذا ما قاله لي عبد الناصر، بصفة تكاد تكون حرفية.(1)
وكان من الضروري على مفجري ثورة نوفمبر توزيع البيان خارج الحدود الجزائرية، وليس هناك ما هو أضمن لهم في نجاح العملية غير أرض مصر. وفعلاً فإنها كانت أقرب لهم من غيرها من الدول الأخرى وذلك لجانبين اثنين:
ـ كون الشعب المصري الشقيق تعامل منذ البداية مع القضية الجزائرية وتعاطف معها.
ـ ظهور تيار قومي عربي بزعامة جمال عبد الناصر دعم من قوة الجزائريين وحماسهم في تفجير الثورة وإحساس أشقائهم العرب بها.(2)
لم يكن يخفى على السلطات الاستعمارية الفرنسية الخطر الذي تشكله الدولة المصرية حكومة وشعباً في موقفها من القضية الجزائرية وثورة التحرير، خاصة بعد اندلاعها في أول نوفمبر عام 1954م وارتباطها العضوي بالأمة العربية وعلى رأسها مصر انذاك التي تعرضت لانتقادات الفرنسيين، منها تصريح أحد النواب الذي صب جام غضبه على مصر، واعتبرها مصدر الخطر كله بقوله: إن الشر جاء من إذاعة القاهرة.(3)
ومع ذلك بقيت مصر على موقفها في تدعيم القضايا العربية، خاصة وأنها كانت تؤمن بفكرة توحيد العمل المسلح بين أقطار المغرب العربي الثلاثة، وهو الأمر الذي جعل بعض قادة الثورة ومن بينهم المجاهد أحمد بن بلة يتحفظون على ذلك، حيث أقنع هذا الأخير السلطات المصرية بصعوبة العمل الجماعي بين أقطار المغرب العربي الثلاثة، وسبب ذلك هو أن هناك فئة تؤمن بالعمل المسلح كوسيلة لتحقيق الاستقلال وفئة رافضة لهذا الطرح.
وانتهى الأمر باتفاق الطرفين الجزائري والمصري على ضرورة تفجير الثورة، بعد أن تعهدت القيادة المصرية بتقديم العون المادي والمعنوي للجزائريين. وإذا كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة قد أعطوا الضوء الأخضر لدعم الثورة انطلاقاً من قناعاتهم كعرب ؛ فإن هناك تياراً داخل مجلس قيادة الثورة المصرية كان رافضاً لدعم ومساندة الجزائريين، على اعتبار أن الثورة داخل مصر مازالت فتية وتحتاج إلى نضال طويل تتطلبه أوضاع البلاد الداخلية، وأن أولوية الأولويات هي إصلاح هذه الأوضاع قبل فتح جبهات خارجية بإمكانها إضعاف مصر داخلياً وقد تعود عليها بالسلب.
ومعنى ذلك أن التيار المعارض لدعم الثورة الجزائرية كان يرى أن الثورة الجزائرية في حد ذاتها مجرد مغامرة خاسرة لا أكثر ولا أقل.
لكن التيار الناصري داخل مجلس قيادة الثورة المصرية، استطاع إقناع التيار الرافض لدعم الثورة الجزائرية بعدة معطيات موضوعية تضمنت ما يلي:
ـ اعتبار الثورة الجزائرية ليست قضية الشعب الجزائري وحده بل هي قضية مصر وكل العرب.
ـ الجزائر كجبهة ثورية تشكل خط دفاع أمامي بالنسبة للثورة المصرية.
ـ الثورة الجزائرية، سند قوي لمصر والأمة العربية في نضالها للاستعمار بكل أشكاله.
ـ إن استقلال مصر دون باقي الدول العربية التي مازالت تحت نير الاستعمار لا يضمن للثورة المصرية الاستقرار لا الداخلي ولا الخارجي لتحقيق أهدافها البعيدة والقريبة المدى على حد سواء.
ـ رفع القيادة المصرية لشعار الوحدة العربية، فهذا الشعار لا يمكن تحقيقه دون استقلال باقي الدول العربية، ومنها بالدرجة الأولى الجزائر، وبالتالي لابد من مساندة الشعب الجزائري والوقوف إلى جانب قضيته العادلة من خلال دعم ثورته.
هذه المعطيات الموضوعية والواقعية في ان واحد ؛ جعلت مصر الثورة تتبنى دعم الثورة الجزائرية سياسياً وعسكرياً، ورجحت كفة عبد الناصر الذي كلف السيد فتحي الذيب وعزت سليمان بأن يكونا مع الوفد ـ الجزائري ـ ممثلين لي شخصياً وكنت أكتم الأمر على عدد من الوزراء الذين حولي خوفاً من تسرب السر
وإسراع فرنسا إلى ضرب الحركة قبل بروزها.(4)
لم يقتصر دعم مصر للقضية الجزائرية على جانب معين، بل كذلك الجانب السياسي، على اعتبار أن الثورة الجزائرية قضية عربية ولا بد من دعمها، خاصة وأن فرنسا تشن على العرب في جزء من المغرب العربي معركة مزدوجة عسكرياً وسياسياً، عسكرياً لأنها تواصل بحملاتها إبادة المدنيين بالجملة في كل منطقة من مناطق الجزائر، وسياسياً لأنها تجعل من الوسطاء المؤيدين لفرنسا سفراء لها ينطقون باسمها ويدافعون عن مصالحها، بعد أن أصبحت فرنسا عاجزة عن أن تدافع عن نفسها بنفسها.(5)
ومن هذا المنطلق رأت مصر ضرورة تقديم الدعم السياسي للثورة الجزائرية، فكانت البداية مع الجانب الإعلامي وذلك من صوت العرب بالقاهرة، هذه الإذاعة التي كان لها شرف بث أول بيان للثورة الجزائرية هو بيان أول نوفمبر 1954م وذلك على أمواج الأثير، هذا إلى جانب البيانات الأخرى التي كانت تصدر عن جبهة جيش التحرير الوطني.(6)
ومن المؤسسات المصرية كذلك التي لعبت دوراً بارزاً في الدعاية للقضية الجزائرية «جماعة الكفاح من أجل تحرير الشعوب الإسلامية»، التي كان يرأسها الشيخ الأزهري «دراز»، والشبان المسلمون التي كان رائدها المصلح والداعية أحمد الشرياصي، وكذلك مؤتمر الخريجين العرب الذي كان يرأسه الدكتور فؤاد جلال، والذي ساعد الأستاذ أحمد توفيق المدني في تأليف كتابه عن الجزائر.
لقد سمحت حكومة عبد الناصر لكل الشخصيات الوطنية من استعمال أراضيها للنشاط السياسي قصد دعم القضية، حيث تم تكليف الأستاذ توفيق المدني بتجهيز نشرة إخبارية يومية عن حوادث الثورة وتوزيعها على كل الجرائد والصحف ووكالات الأنباء .(7)
مراجع الحلقة الثامنة والعشرون بعد الثلاثمائة:
(1) أحمد توفيق المدني حياة كفاح (3/36).
(2) مريم صغير مواقف الدول العربية من القضية الجزائرية ص 188.
(3) مواقف الدول العربية، ص 189.
(4) المصدر نفسه ص 191.
(5) المصدر نفسه ص 192.
(6) المصدر نفسه ص 192.
(7) المصدر نفسه ص 192.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: