من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان:
(التنظيم السياسي للجزائر في العهد العثماني)
الحلقة: الثانية والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
إنه لمن الإنصاف أن نقول بأن وحدة التراب الجزائري وبروز قيادة سياسية متمركزة في الجزائر العاصمة قد تدعمت بشكل ملحوظ في العهد التركي، ففي عهد الأتراك قامت القيادة السياسية بتحرير جميع المناطق التي كانت تحتلها قوات الدول المسيحية، وتعيين المسؤولين المحليين في جميع المقاطعات الإدارية التي تشتمل عليها الدولة الجزائرية، وباختصار فإن التنظيم السياسي للدولة الجزائرية في الفترة الأخيرة من العهد العثماني «عهد الدايات» كان كالتالي:
أولاً ـ الداي: هو رئيس الدولة «الحاكم الأعلى» وهو القائد العام للجيش في البلاد، وبصفته المسؤول الأول عن سياسة الجزائر، فقد كان يمارس كل صلاحيات رئيس السلطة السياسية المتمثلة في تطبيق القوانين المدنية والعسكرية، توقيع المعاهدات، استقبال السفراء المعتمدين لدى الجزائر، اختيار وزرائه وحكام المقاطعات أو الولايات، والإشراف بنفسه على مراقبة إيرادات الدولة وخزينتها.
وفي العادة يتم انتخاب الداي من طرف أعضاء الديوان العالي الذي يتكون من رؤساء الوحدات العسكرية وبعض كبار المسؤولين في الدولة، وقد كان عدد أعضاء الديوان العالي يتراوح بين (80 و 300) عضواً، وحين يختلف أعضاء الديوان العالي يرفعون العلم الأحمر، وإذا اتفقوا على انتخاب داي جديد فإنهم يرفعون العلم الأخضر.
وقد جرت العادة أن يتفرغ الداي للحكم بمجرد انتخابه وتنصيبه في عمله في قصر الجنينة، ولا يسمح له بالخروج من القصر إلا مرة واحدة في الأسبوع، حيث يذهب إلى بيته لقضاء أمسية وليلة واحدة مع عائلته وأولاده ثم يعود إلى القصر لاستئناف عمله، وجرت العادة أن يخصص كل صباح لاستقبال المواطنين والنظر في الشكاوي والمظالم التي تعرض عليه لكي يفصل فيها بالعدل والإنصاف، ثم يتفرغ في كل مساء لتسيير شؤون الدولة والاجتماع بوزرائه واستقبال رؤساء البعثات الأجنبية المعتمدين في الجزائر.
ويلاحظ هنا أن الداي كان يتقاضى راتبه على أساس رتبته العسكرية في الجيش بصفته اغا، ولهذا تقرر أن يحصل على أموال إضافية، ومساعدات تتمثل في هدايا ثمينة، يتلقاها من البايات الثلاثة لتغطية نفقاته ورواتب حراسه، كما كان يحصل الداي على هدايا ثمينة من كبار موظفي الدولة عند تنصيبهم في وظائفهم، ومن القناصل الأجانب الذين يعينون في الجزائر، ونسبة محدودة من غنائم الغزوات البحرية، وأكثر من ذلك فإن الداي كان يتولى بنفسه الإشراف على تسيير مؤسسات تجارية، وذلك بقصد جلب أموال لخزينة الدولة،
وفي حالة وفاته أو عزله فإن هذه الأموال التي يحصل عليها الداي تحول إلى خزينة الدولة.
ثانياً ـ الديوان «مجلس الوزراء»: كان ديوان الداي هو الساعد الأيمن لرئيس الدولة ؛ لأنه يضم الشخصيات المقربة إليه، والتي يعتمد عليها في تنفيذ سياسة الحكومة التي يقودها الداي، والديوان في الحقيقة هو بمثابة مجلس الوزراء في يومنا هذا، وقد اشتهر باجتماعاته اليومية لدراسة المسائل العادية المسجلة في جدول أعمال الديوان، أما اجتماع يوم السبت فكان يخصص لدراسة المسائل ذات الأهمية، وحسب بعض الدراسات فإن هذا الديوان يتكون من (35) شخصية مدنية وعسكرية تشرف على تسيير شؤون الدولة في المسائل المالية والعدالة والأمن. وبالإضافة إلى القاضي والمفتي وغيرهما من الشخصيات المرموقة؛ التي كانت تعمل في إطار الديوان ؛ فإن الداي كان يستعين بالعناصر القوية التي كانت تساعده في أداء مهامه. وتتمثل هذه العناصر في:
أ ـ الخنزناجي: وهو بمثابة وزير المالية، حيث كان مسؤولاً عن خزينة الدولة، ولا يمكن أن تفتح إلا بحضوره؛ لأنه هو الوحيد الذي يحتفظ بمفاتيح الخزينة العامة.
ب ـ الآغا: وهو قائد الجيش البري «بما في ذلك فرق الإنكشارية، ووحدات الخيالة العرب والمتطوعون».
ج ـ خوجة الخيل: هو المشرف على أملاك الدولة، حيث يعتبر المسؤول الأول عن جمع الضرائب وصيانة أملاك الدولة، وإعادة استثمارها، والاتصال بالقبائل عند تعاملها مع الحكومة.
د ـ بيت المالجي: هو المسؤول عن جميع المسائل المتعلقة بالوراثة، وتحديد نصيب خزينة الدولة من الوراثة، أو من الأملاك التي تصادر، سواء بسبب عزل الموظفين أو وفاة أصحاب الثروة أو غيابهم عن الجزائر، وفي حالة غياب صاحب الثروة، فإن المسؤول يتولى تسيير العقارات والأموال الموروثة، وعند وفاة المسؤول عن بيت المالجي فإن جميع أمواله والثروات المتوفرة لديه تذهب إلى خزينة الدولة.
ه ـ وكيل الخرج: وهو المكلف بالشؤون الخارجية مع الدول الأجنبية، وعن كل ما له علاقة بالبواخر والتسليح والذخيرة والتحصينات ومواجهة الخصوم في عرض البحر الأبيض المتوسط.
و ـ الباش كاتب: هو الأمين العام للحكومة، حيث يتولى تسجيل وصياغة جميع القرارات التي يتخذها الديوان في اجتماعاته اليومية تحت إشراف الداي، وفي جميع القرارات التي يتخذها الديوان، كان الباش كاتب يبدأ بكتابة العبارة التقليدية التالية «نحن باشا ديوان جند الجزائر المنيع».
وبالإضافة إلى كبار هؤلاء المسؤولين في الدولة الذين يعتمد عليهم الداي في تنفيذ سياسته بالبلاد، كان هناك موظفون سامون يقومون بأعمال محددة تدل على حسن التنظيم السياسي الموجود في الدولة الجزائرية، ومن جملة الوظائف المحددة لهؤلاء المسؤولين نخص بالذكر:
ـ الكاتب الأول: المسؤول عن المراسلات الخارجية والداخلية للداي، والمشرف على ثلاث سجلات خاصة بأموال الدولة، ورواتب الجنود، ورواتب رجال الجمارك، وكل سجل يمسكه كاتب خاص.
ـ الكاتب الثاني: الذي يتمثل دوره في متابعة ومراقبة السجل الخاص بالجنود، وهذا السجل عبارة عن نسخة ثانية من السجل الموجود لدى الكاتب الأول.
ـ الكاتب الثالث: ويتمثل دوره في متابعة ومراقبة كل المعلومات الموجودة بسجل أموال الدولة، وذلك انطلاقاً من النسخة الثانية التي يسلمها له الكاتب الأول.
ـ الكاتب الرابع: ويتمثل دوره في ضبط السجل الثاني من إيرادات الدولة من الجمارك الذي يسلمه له الكاتب الأول.
ـ رئيس التشريفات أو البروتوكول: وهو بمثابة مدير البلاط وينحصر دوره في تسهيل عمليات الاتصال بين الداي والشخصيات التي يستقبلها، وفي العادة يتميز رئيس التشريفات بمعرفة اللغات الأجنبية بالإضافة إلى العربية والتركية.
ـ الكاخيا: وهو المكلف بحراسة خزينة الدولة، والاحتفاظ بمفاتيحها.
ـ الخزنادار: وهو الشخص المسؤول عن خزن المال والاحتفاظ به إلى أن يتلقى الأمر بإنفاقه.
ـ الحكيم باشي: والذي هو رئيس أطباء قصر الداي.
ـ الشاوش: وهو الحاجب أو البواب الذي يتولى مراقبة الدخول والخروج إلى قصر الداي.
ثالثاً ـ الباي: هو بمثابة الوالي في يومنا هذا، ويقوم بأعماله في الإقليم الذي يشرف عليه نيابة عن الداي الذي هو رئيس الدولة ورمز للسيادة الوطنية.
ومثلما ذكرنا سابقاً فإن الجزائر كانت مقسمة إلى ثلاث مقاطعات أو ولايات هي: بايليك الشرق وبايليك الغرب وبايليك التيطري، بالإضافة إلى الجزائر العاصمة ونواحيها التي كانت تسمى دار السلطان.
والنقطة التي ينبغي التأكيد عليها هنا ؛ هي أن الباي كان يعتبر من كبار موظفي الدولة، والداي هو الذي يختاره من بين الشخصيات المرموقة في المجتمع الجزائري ؛ التي تلتزم بدفع رسوم مرتفعة وتقديم هدايا قيمة وفي مستوى هذا المنصب، لكنه في واقع الأمر كان الباي يتصرف بحرية تامة في تسيير ولايته، والداي لا يراقبه، وكل ما هو مطلوب من الباي هو إظهار الولاء للداي، وإرسال الضرائب السنوية مع نائب الباي «الخليفة» إلى الداي في وقتها المحدد بدون تأخير، وعندما تنتهي فترة تعيينه في المنصب والتي تدوم (3) سنوات ؛ يتعين على الباي أن يحضر إلى الجزائر العاصمة، ويحضر معه جميع أنواع الهدايا التي تساعده على استمراره في عمله أو تعيينه في منصبه إذا كان ذلك لأول مرة، وفي العادة تكون هذه الزيارة بمثابة فرصة سانحة للداي لكي يحاسب الباي ويقرر الزج به في السجن إذا كان قد أخطأ وتجاوز صلاحية ممارسته لوظيفته، ويستخلص من بعض الدراسات أن الداي كان يعتمد على البايات في جمع المال الضروري لتغطية نفقاته ودفع رواتب حراسه. ففي سنة (1681م) كان الداي يتقاضى مرتباً يقدر بحوالي مئة وستة قروش في السنة، وهو أعلى مرتب يمكن تقاضيه من طرف ضابط قديم في الجيش، بينما كان البايات الثلاثة يدفعون للداي ثلاثة الاف قرش كل سنة.
وبالنسبة لكبار الموظفين في كل ولاية فقد كان الباي يستعين بموظفين سامين في إدارته وهم:
أ ـ الخليفة: الذي يعتبر نائباً للباي، وهو الذي يحمل الضرائب السنوية إلى الداي ويمثله في بعض المناسبات.
ب ـ قائد الدار: وهو مسؤول عن حراسة المدينة، والعناية بها ودفع رواتب الجنود.
ج ـ آغا الدائرة: وهو قائد الفرسان من العرب التابعين للدولة.
د ـ الباشكاتب: الذي يعتبر مسؤولاً عن كتابة رسائل الباي ومسك دفاتره المالية.
هـ الباش سيار: الذي يقوم بمهمة نقل الرسائل بين الباي والداي.
و ـ الباش سايس: الذي يتولى العناية بخيول البايليك وتربيتها.
رابعاً ـ الأوطان: هي الوحدات الإدارية الموجودة بكل بايليك أو ولاية، ويرأس كل وطن مسؤول يحمل اسم قائد، يتسلم عند تعيينه ختماً وبرنوس أحمر، وذلك دلالة على تفويضه السلطة، واعتماده كمسؤول مدني وعسكري في الوحدة الإدارية التي توضع تحت تصرفه، والقائد في العادة هو الممثل الرسمي في منطقته، حيث يتكفل بجمع الضرائب والمحافظة على الأمن العام والاتصال بالسلطات العليا عند الضرورة، ويتفرع عن كل وطن مجموعة من الدواوير، يرأس كل واحد شخص يحمل اسم شيخ، الذي يكون في أغلب الأحيان من أبناء القرية أو الدوار الذي يحكمه.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن القائد كان يتم اختياره بناء على مواصفات معينة بحيث ينتمي إلى الأتراك أو إلى الكوروعلي، وهم الأشخاص الذين ولدوا من أباء أتراك وأمهات جزائريات، وهذا يعطينا فكرة عن تمسك حكام الجزائر بمبدأ عدم الاعتماد على أبناء البلد الأصليين وحرمانهم من المشاركة في الحكم.
وفي نفس الإطار يجدر بنا أن نشير إلى أن حكام الجزائر قد دأبوا على انتهاج سياسة قمعية ضد السكان الذين لا يتعاونون مع العثمانيين، فمنذ سنة (1563م) مارس حكام الجزائر سياسة تقسيم السكان إلى ثلاث مجموعات:
• المجموعة الأولى: وهي قبائل المخزن التي تتحالف مع الحكام، وتتعاون معهم في جمع الضرائب، والمحافظة على الأمن، ومقابل ذلك يعفى سكان تلك القبائل من دفع الضرائب.
• المجموعة الثانية: أطلقوا عليه اسم قبائل الدائرة، وهي القبائل التي تلتزم بتمويل الجيش بالرجال والمال عند الضرورة، ومقابل ذلك يدفع أفرادها ضرائب من حين لآخر، وبصفة غير منتظمة.
• المجموعة الثالثة: هي قبائل الرعية، وهي القبائل التي لا يتمتع أفرادها بأية امتيازات، ويدفعون الضرائب بانتظام، وتسلط عليهم العقوبات الصارمة إن هم قصروا في ذلك.
وبالنسبة لمدينة الجزائر أو دار السلطان، فإن حكام الجزائر قد قاموا بتقسيم سكان الجزائر العاصمة إلى مجموعات عرقية ومهنية، ويتعين على كل مجموعة أن تختار زعيماً لها يطلق عليه اسم شيخ، يكون همزة الوصل بين مجموعته وبين شيخ البلد «الذي هو بمثابة رئيس البلدية في يومنا هذا». وعليه فإن كل مجموعة عربية وقبائلية وأندلسية مهاجرة ويهودية، كان لها شيخ يمثلها ويتحكم فيها ويحرص على خلق التأييد والدعم للحكومة، أما بالنسبة لأصحاب المهن فقد كان لكل مهنة رئيس يدعى: الأمين، هو الممثل الشرعي لأصحاب مهنته في بلديته، ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن شيخ البلد كان يتم اختياره من بين وجهاء مدينة الجزائر، ويكون دوماً من أصل عربي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf