من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بعنوان:
(أسباب التدهور السياسي والاقتصادي في الجزائر)
الحلقة:الخامسة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
لقد كان حوض البحر الأبيض المتوسط من أكثر المناطق في العالم حيوية ونشاطاً ؛ من حيث التجارة والقيام بهجومات عسكرية على المدن الساحلية واحتلالها، وفرض الرسوم المالية عليها لكي يعيش سكانها في سلام، وقد ازدهرت تجارة الرقيق والاستيلاء على البواخر التي تحمل البضائع، والقرصنة خلال الحروب الصليبية، وانتشرت القرصنة بصفة خاصة في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط منذ اليوم الذي سقطت فيه غرناطة سنة (1492م) بيد المسيحيين الإسبان، الذين كانوا يلاحقون المسلمين الفارين من بطشهم حتى مدن المغرب العربي الساحلية التي لجؤوا إليها، وكان هذا دافعاً قوياً للجزائر لكي تحمي المسلمين، وتصد غارات المسيحيين البحرية عليها وتحمي تجارة المسلمين، وفي الحقيقة أن الجزائريين لم يكن هدفهم القيام بالقرصنة، وإنما الجهاد والدفاع عن وطنهم وعن بلدٍ هم أسياده، كما أن العمليات الحربية كانت موجهة ضد أساطيل الدول التي تعتدي عليهم، وتستولي على بواخرهم، ولم تكن الغاية من الهجومات على السفن الأجنبية هي الحصول على الغنائم فقط.
وباختصار فإن قوة الدولة الجزائرية في العهد التركي كانت مستمدة من وجود جيش بحري بلغت قوته في عهد الرايس حميدو ما يقرب (500) قطعة بحرية يعمل على متنها ما بين (30.000) و(40.000) بحار، وبفضل هذا الأسطول البحري تمكنت الجزائر من:
أ ـ مساعدة مهاجري الأندلس وحمايتهم من اعتداءات القراصنة المسيحيين.
ب ـ التصدي للغارات البحرية التي كان يشنها الأوروبيون على مدن المغرب العربي وسفن المسلمين التجارية.
ج ـ القيام بعمليات تحريرية لطرد الغزاة الإسبان من مدن المغرب العربي التي تمكنوا من النزول بها مثل جيجل عنابة بجاية وهران تونس مراكش.
د ـ الاشتراك مع القوات البحرية العثمانية لصد غزوات التحالفات الأوروبية الصليبية ضد الجيوش الإسلامية.
ه ـ حماية التجارة الوطنية، وإغناء الخزينة بعائدات مالية جاءت من الغنائم الحربية.
وفي الحقيقة إن مشكلة الرياس أو الجيش البحري الجزائري تنبع من ارتباط القيادة بتركيا حيث إن التعاون بينهما في البداية، وخاصة عندما كانت تركيا في أوج عظمتها وعزتها، قد عزز مكانة الجيش البحري في الجزائر الذي كان يحصل على غنائم، ويفرض رسوماً مالية على الدول التي تمر بواخرها عبر السواحل الجزائرية، لكن ضعف تركيا أثر سلبياً على حكام الجزائر، حيث كان من الصعب عليهم مواجهة الدول الأوروبية التي تحالفت فيما بينها ضد الجزائر، والنقطة الثانية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار هي أن فرنسا قد ساهمت إلى حد كبير في إضعاف الجزائر.
ففي عام (1577م) تمكن الفرنسيون من تعيين قنصل لهم في مدينة الجزائر، ثم استطاعوا في السنة التالية أن يحصلوا على إذن بالبحث عن المرجان في سواحل الشرق الجزائري، وتعهدوا بدفع ضرائب ولكن بشرط أن لا يقيموا أية تحصينات على الشواطئ. وبطبيعة الحال لم يحترم الفرنسيون هذه التعهدات وقاموا بتحصين المركز التجاري الذي أقاموه بالقرب من مدينة عنابة، وأطلقوا عليه اسم باستيون، وذلك بالرغم من معارضة السلطان العثماني.
وفي سنة (1604م) أظهر الأتراك استياءهم من إقدام فرنسا على شراء القمح من الأهالي وبيعه إلى أوروبا، في حين أن القحط قد عم بلاد الجزائر، والسكان يعانون من مجاعة، ولذلك قاموا بتهديم المركز التجاري الفرنسي مرتين عام (1604) وعام (1637م)، لكن الباي اضطر إلى بناء الباستيون مرة ثالثة سنة (1640م) وذلك لتهدئة سكان المنطقة الذين قاموا بالثورة على الباي ؛ لأنهم ينتفعون بالاتجار مع الفرنسيين.
وبعد نجاح الثورة الفرنسية في عام (1779م) وفرض الحصار عليها من طرف الدول الأوروبية المناهضة لفرنسا، قامت الجزائر بتأمين الغذاء الضروري من القمح إلى الدولة الفرنسية، وعندما طالب التاجران الإيطاليان سنة (1797م) بكري وبوشناق «وهما من أصل يهودي ويقيمان في الجزائر» بثمن القموح المصدرة إلى فرنسا، أجابت الدولة الفرنسية بأنها ترفض دفع الأموال لليهوديين ؛ لأن عليهما ديون للفرنسيين ؛ الذين التجؤوا إلى المحاكم الفرنسية للمطالبة بأموالهم، وهكذا تطور النزاع بين الجزائر وفرنسا ؛ لأن الداي حسين لا يستطيع الحصول على الأموال التي توجد في ذمة بكري وبوشناق مادامت فرنسا ترفض دفع ديونها إلى التاجرين اليهوديين.
وفي عام (1824م) أرسل الداي ثلاث رسائل إلى الحكومة الفرنسية بشأن الأموال الموجودة في فرنسا، ولكنها لم تقدم له أي جواب، وفي تلك الفترة علم حسين باشا بأن فرنسا قد قامت بتسليح مركز الباستيون، وذلك بالرغم من وعد الشرف الذي قطعه قنصل فرنسا دوفال بعدم تحصين المراكز التجارية الفرنسية، فزاد هذا الخبر من غضب الباشا وانتهز فرصة قدوم القنصل الفرنسي دوفال للتهنئة بعيد الفطر يوم (29 أبريل 1827م) فاستفسر منه عن سبب عدم رد الحكومة على رسائله، وهنا أجابه القنصل دوفال: «أن ملك فرنسا وشعبها لا يحررون لك ورقة ولا يرسلون رداً حتى على رسائلك المرسلة»، وآنذاك نهض الداي من مكانه محتداً وضرب القنصل بالمروحة التي كانت بيده مرة أو ثلاثة، وكانت نتيجة هذه اللطمة هي إعلان الحرب على الداي يوم (16جوان1827م) ومحاصرة مدينة الجزائر بحراً إلى أن تم الاستيلاء عليها (5 جويلية 1830م).
والنقطة الثالثة التي ينبغي أن نشير إليها بالنسبة لتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في الجزائر في مطلع القرن التاسع عشر ؛ هي أن التحالف بين الدول الأوروبية ضد الجزائر وإجبارها على عدم مهاجمة السفن الحربية والتجارية للدول الأوروبية ؛ التي تمر بالبحر الأبيض المتوسط، قد أثر سلباً في الوضع المالي والسياسي للجزائر، فبالرغم من التبريرات التي قدمها الداي حسين إلى الدول الكبرى التي قررت في مؤتمر فيينا ومؤتمر إكس لاشابيل سنة (1818م)، أن تعتبر أن كل نيل أو مساس بتجارة إحدى الدول الأوروبية ينتج عنه رد فعل سريع من طرف الدول الأوروبية المتحالفة ؛ فإن بريطانيا لم تقتنع بتبريرات الداي وقامت بمحاصرة ميناء الجزائر والهجوم على البواخر الراسية فيه وذلك يوم (12 جويلية 1824م)، وقد حاول الداي حسين أن يقنع الدول الكبرى بأن الجزائر لا تستطيع أن تتخلى عن حقها في التعرف على البواخر الأجنبية ؛ لأن هذه الوسيلة الوحيدة للتعرف على البواخر العدوة من الصديقة، لكن بريطانيا وروسيا والنمسا وهولندا، كانت مصممة على تجريد حكومة الجزائر من الدخل المالي الأساسي لخزينتها، وبذلك يصعب عليها دفع مرتبات جنودها والمحافظة على ولائهم لها، وهذا ما حصل بالضبط حيث إن قلة المدخول من الغنائم والجمارك جعل خزينة الداي شبه فارغة، وهو غير قادر على دفع مرتبات جنوده.
والنقطة الرابعة التي تجدر بنا أن نركز عليها ؛ الإلمام بأسباب تدهور الأوضاع في الجزائر في بداية القرن التاسع عشر ؛ وهي أن سوء تصرفات الداي مع قناصل الدول الأوروبية في الجزائر وتلهفه على المال، ومعاناة خزينة الدولة من غلاء المواد المجهزة المستوردة، وبخس أثمان المواد الأولية المصدرة، وبالإضافة إلى صعوبة تنمية الموارد الداخلية للبلاد ؛ قد نتج عنها انهيار الأسطول البحري وانتشار المجاعة والأمراض في البلاد، وتعدد الانتفاضات الشعبية والاغتيالات. ولهذه الأسباب تمكن الجيش الفرنسي من محاصرة الجزائر واحتلال سيدي فرج يوم (14 جوان)، والاستيلاء على العاصمة يوم (5 جويلية 1830م).
ونستخلص مما تقدم أن ضالة الموارد الخارجية للدولة الجزائرية مثل:
أ ـ الرسوم الجمركية على الواردات.
ب ـ الغنائم التي كان يحصل عليها الرياس من الغزو.
ج ـ الفدية التي كانت تدفع لتحرير الأسرى والعبيد.
د ـ الهدايا التي كانت تقدم للداي عند تعيين القناصل بالجزائر.
ه ـ الجزية المفروضة على الدول الأوروبية مقابل عدم التعرض لسفنها. هذه الضالة في المواد الخارجية ؛ هي التي جعلت حكومة الداي تعيش في ضائقة مالية حادة.
ونتيجة لاضمحلال المدخول المالي للدولة أبدى الداي وحكومته اهتماماً خاصاً بالشؤون الداخلية للبلاد، وصمم على تعويض المداخيل الاتية من الغنائم والجمارك والهدايا بمداخيل محلية يتحمل أعباءها سكان الجزائر، وكانت تلك المداخيل تتمثل في:
أ ـ الزكاة التي تفرض على الماشية والحبوب والأموال.
ب ـ الحكر وهو الإيجار الذي يدفعه الفلاحون مقابل استثمارهم للأراضي التي تملكها الدولة.
ج ـ الخراج وهي الضريبة التي يدفعها الأجانب من مسيحيين ويهود.
د ـ العشور وهي الضرائب على المحصول.
ه ـ اللازمة وهي ضريبة استثنائية، تدفع كمساهمة من المواطنين في نفقات الجيش والدفاع عن الوطن.
وكانت النتيجة الحتمية لزيادة الضرائب هي تزايد السخط الشعبي على حكم الداي، وتهرب السكان من دفع الضرائب جملة واحدة، وقيام ثورات شعبية في عدة نواحي من البلاد، وهذا ما يفسر الانهيار السريع للنظام التركي في الجزائر.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي