من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان
(سفر خير الدين باشا إلى إسطنبول)
الحلقة: الرابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
عزم السلطان سليمان القانوني بعد أن استولى على بلغراد، السفر بسىء ر جنوده إلى إسبانيا للاستيلاء عليها، وبدا للسلطان سليمان ؛ أنه لابد له من رجل يعتمد عليه في دخول تلك البلاد على أن يكون عالماً بأحوالها، فوقع اختياره على خير الدين لما يعرفه عنه من شجاعة وإقدام، وكثرة هجومه على تلك النواحي، وما فتحه من بلاد العرب في الشمال الإفريقي، وكيف أقر الحكم العثماني فيها، فوجّه إليه خطاباً يطلبه فيه إلى حضرته، ويأمره باستنابة بعض من يأمنه في الجزائر، وإن لم يجد من يصلح لذلك يبعث إليه السلطان نىء باً، وبعث ذلك الخطاب مع رجل يدعى سنان جاوشي، فوصل الجزائر، وأوصل خطاب السلطان إلى خير الدين، الذي قبَّله ووضعه فوق رأسه، ولما قرأه وعلم ما فيه نصب ديواناً عظيماً، وأحضر كافة العلماء والمشايخ وأعيان البلاد، وقرأ عليهم خطاب السلطان، الذي وجهه إليهم، وأعلمهم أنه لا يمكنه التخلف عن أمره، وعندما سمع أندريا دوريا زعيم الأسطول النصراني في البحر المتوسط بما عزم السلطان عليه من فتح إسبانيا، واستقدام خير الدين من الجزائر لذلك، أراد أن يشغل خير الدين عن سفره إلى حضرة السلطان، وأشاع بين الأسرى المسيحيين في الجزائر، عن عزم الحكومة الإسبانية الهجوم على الجزائر وتخليصهم من الأسر، ففرح الأسرى الإسبان لذلك الخبر، وتمردوا على خير الدين الذي رأى أن من المصلحة العامة إعدام أولئك الأسرى ليأمن غىء لتهم، ثم قام بتقوية الاستحكامات في الجزائر، وزاد من عدد القلاع مظهراً أتم الطاعة للسلطان.
عزم خير الدين على السفر إلى إسطنبول (940هـ 1533م)، وعيّن مكانه حسن اغا الطوشي، وكان رجلاً عاقلاً وصالحاً، صاحب علم واسع.
أبحر خير الدين شرقاً في البحر المتوسط، وبرفقته أربع وأربعون سفينة، وهزم في طريقه فرقة من أسطول ال هابسبرج بالقرب من المورة، واستمر خير الدين في رحلته، ووصل إلى مدينة بيروزان، وفرح أهالي المدينة لمقدمه، وكانوا خىء فين من هجوم أندريا دوريا، الذي ابتعد عندما سمع بمقدم خير الدين، ثم واصل خير الدين سفره، ورست مراكبه في قلعة أوارين «أنا وارنيه»، فصادف هنالك أسطولاً للسلطان سليمان القانوني وفرحوا بذلك، ثم خرجوا جميعاً حتى وصلوا إلى قرون، ثم كتب خير الدين إلى السلطان يعلمه بوصوله ويستأذنه بالقدوم على حضرته، فوجه إليه السلطان خطاباً يستحثه بالقدوم عليه، وأقلع خير الدين من قرون ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى إسطنبول، ورسا بها، ورموا بالمدافع كما هي العادة في ذلك.
ومثل خير الدين بحضرة السلطان ووقف بين يديه، فأمر بأن يخلع عليه وعلى خواص أصحابه الجرايات الوافرة، وأنزلهم بقصر من قصوره، وفوض إليه النظر في دار الصناعة، ومنحه لقب قبودان باشا وزير بحرية ـ حتى تظل له السلطة الكاملة لمساندة النظام في الجزائر ـ لتحقيق هدف الدولة في استعادة الأندلس.
كان الصدر الأعظم في ذلك الوقت بمدينة حلب، فسمع بقدوم خير الدين على السلطان وقد كانت أنباء غزواته ونكايته بالمسيحيين تصل إليه، فاشتاق إلى لقاء خير الدين، فوجه خطاباً للسلطان يلتمس منه أن يوجه إليه خير الدين لمقابلته، فأرسل السلطان إلى خير الدين مخبراً عن رغبة الصدر الأعظم فأجابه خير الدين بالموافقة، وسافر خير الدين متوجهاً إلى حلب، واحتفل الصدر الأعظم بمقدم خير الدين في حلب وأنزله في بعض القصور المهيبة، وفي اليوم الثاني من وصول خير الدين وصل مبعوث من قبل السلطان ومعه خلعة وأمر بمقتضاه أن خير الدين من وزراء السلطان، ويلبس الخلعة. فنصب الديوان الأعظم وألبسوه خلعة الوزارة واحتفل به احتفالاً مهيباً، وأكرمه إكراماً عظيماً لما قدمه من خدمات للإسلام والمسلمين في حوض البحر المتوسط.
ثم رجع خير الدين إلى إسطنبول، وأكرمه السلطان سليمان غاية الإكرام، وشرع خير الدين في النظر في أمر دار الصناعة كما رسم له السلطان.
وبعد أن تم إعداد الأسطول العثماني الجديد خرج خير الدين بربروسة بأسطوله القوي من الدردنيل متجهاً نحو سواحل إيطاليا الجنوبية، فاستطاع أن يأسر الكثير منها، وأغار على مدنها وسواحلها، ثم اتجه نحو جزيرة صقلية، فاسترجع كورون وليبانتو، كان السلطان سليمان قد تشاور مع خير الدين بربروسة بأهمية تونس، وضرورة دخولها في إطار إستراتيجية الدولة العثمانية، لتحقيق هدفها نحو استرداد الأندلس، وتأتي أهمية تونس بالنسبة للدولة من حيث موقعها الجغرافي؛ إذ تقع في منتصف الساحل الشمالي لإفريقيا، وتوسطها بين الجزائر وطرابلس، ولقربها من إيطاليا التي تعتبر أحد جناحي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بينما يمثل الجناح الاخر إسبانيا، علاوة على ذلك مجاورتها لجزيرة مالطة، مقر فرسان القديس يوحنا حلفاء الإمبراطور شارل الخامس وأشد الطوىء ف المسيحية عداوة للمسلمين، ثم الإمكانات الهىء لة التي تتيحها موانىء تونس في التحكم في المواصلات البحرية في البحر المتوسط، وهكذا تضافرت تلك العوامل على إضفاء الأهمية العسكرية على تونس.
كانت المرحلة الثانية بالنسبة لخير الدين بعد هجومه على السواحل الجنوبية لإيطاليا وجزيرة صقلية هي تونس، وذلك لتنفيذ خطة الدولة، والتي تقتضي تطهير شمال إفريقيا من الإسبان كمقدمة لاستعادة الأندلس، إذ سبق وأن أشار خير الدين بربروسة على السلطان سليمان القانوني في خطابه للسلطان الذي بعثه قبيل استدعاء السلطان له في (940هـ 1533م)، إذ قال فيه: «... إن هدفي إذا قدر لي شرف الاشتراك هو طرد الإسبان في أقصر وقت من إفريقيا، ومن الممكن أن تسمع بعد ذلك أن المغاربة قد أغاروا على الإسبان من جديد ليستعيدوا مملكة قرطاجة وأن تونس قد أصبحت تحت سلطانك، إنني لا أبغي من وراء ذلك أن أحول بينك وبين توجيه قواتك ناحية المشرق كلا... لأن هذا لن يحتاج لكل ما تملك من قوات، ولاسيما أن حروبك في آسيا أو إفريقيا تعتمد أكثر ما تعتمد على قوات برية، أما هذا الجزء الثالث من العالم فإن كل ما أطلبه هو جزء من أسطولك، وسيكون ذلك كافياً، لأن هذا الجزء يجب أن يخضع لسلطانك أيضاً...».
وصل الأسطول العثماني تحت قيادة خير الدين إلى السواحل التونسية فعرج على مدينة عنابة، وتزود ببعض الإمدادات، ثم تقدم نحو بنزرت، ثم اتجه إلى حلق الواد، إذ تمكن منها بدون صعوبة، واستقبل خير الدين من قبل الخطباء والعلماء، وأكرموه وتوجهوا إلى تونس في نفس الوقت، وهرب السلطان الحفصي الحسن بن محمد إلى إسبانيا، ثم عين خيرُ الدين الرشيدَ أخا الحسن بن محمد على تونس، وأعلن ضم تونس للأملاك العثمانية، في وقت بدت فيه سيادة العثمانيين في حوض البحر المتوسط الغربي.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: