الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بعنوان:

كيف تم احتلال الجزائر؟

الحلقة:السابعة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020

 

كانت عوامل الانهيار في حكومة الدّاي حسين واضحة المعالم، وقدرته على الصمود ضعيفة، وبالتالي كان طبيعياً أن ينجح الفرنسيون في احتلال الجزائر، فقد انفرد الدّاي بالسلطة واعتمد على مجموعة صغيرة من الجند والأقرباء الذين كانوا في حاشيته وفي خدمته، وحدث تهميش في عهده لأبناء الجزائر فقد كانوا يعيشون في عزلة كبيرة، ومبعدين عن إدارة الحكم في البلاد، كما أن سقوط حكومة الدّاي بسهولة وسرعة فائقة ؛ كان بسبب عدم وجود جيش قوي وقيادة حكيمة وواعية له، على ما كان عليه الحال في عهد خير الدين بربروس ومَنْ بعده، كما أن الدّاي كان مهتماً بجمع الأموال والثروات، ولم يستعد لمثل هذا اليوم العصيب، وكان يعتقد بأن الجزائر محصنة وأن جيشه التقليدي الذي لا يتجاوز ستة الاف جندي تركي قادر على مواجهة الفرنسيين في حالة هجومهم على موانىئ الجزائر.

كانت فرنسا قد أعدت العدة، وقررت غزو الجزائر منذ (يناير 1830م) وألفت ثلاث لجان للإعداد للحملة التي قررت أن يكون الإنزال في سيدي فرج، وفي (7 شباط «فبراير») أصدر الملك شارل العاشر مرسوماً ملكياً يعلن التعبئة العامة، وأعلن في خطاب العرش: أن الحملة انتقام للشرف الفرنسي، وأنها حملة مسيحية على بلاد المسلمين المتوحشين وأنها خدمة للعالم المسيحي.

وصل عدد جنود الحملة (37000) جندي، وعدد الخيول (45000)، و(91) مدفعاً و(600) سفينة منها (103) حربية، كانت السفن شراعية باستثناء عدد لا يتجاوز أصابع اليدين كانت بخارية، وقد نظمت هذه القوات في ثلاث فرق مشاة، وكتيبتين من الفرسان، وبطاريات من مدفعية الميدان والحصار، كما نظم الأسطول في ثلاثة أساطيل: أسطول سفن الإنزال، وثالث يتألف من سفن النقل التي تحمل من الذخيرة ما يكفي الجيش لمدة ثلاثة أشهر.

أ ـ تحرك الأساطيل الفرنسية:

غادرت أساطيل الحملة طولون يوم (25 أيار «مايو» 1830م)، وبعد أيام وصلت أمام مدينة الجزائر، وأمام نشاط الرياح قرر أميرال الأسطول عدم الرسو، والعودة نحو الشمال، وفي ذهنه الإفراط في تذكر النكبات التي أصابت الأساطيل الأوروبية أمام هذه المدينة ـ وبخاصة أسطول شارل كوينثو الإسباني ـ مثلما ذكر المارشال ماكماهون في مذكراته، وسخط قائد الحملة الجنرال بورمون وكاد أن يأمر الأميرال بعدم الانسحاب، لكنه خشي إحداث شقاق بين القوات البرية والبحرية. وفي أثناء مناورة أسطول الحملة هذه، وفي وسط المسافة بين الساحل الجزائري وجزر البليار شوهدت بارجتان حربيتان تركيتان تتجهان نحو سفينة القيادة الفرنسية، واقتربتا منها، وتوقفتا، وصعد ضابط تركي واجتمع بالجنرال بورمون، حيث عرض عليه رسالة من الخلافة العثمانية تطلب فيها التوقف عن غزو الجزائر مقابل التزامها بسحب الدّاي حسين، وتقديم التعويضات اللازمة لفرنسا، ورفض بورمون هذا العرض التركي، وكانت الخلافة العثمانية في وضع ضعف واقعة تحت رحمة السيطرة الأوروبية بسبب الصراع بينها وبين محمد علي والي مصر.

وبعد رسو الأسطول في جزر البليار بأيام، توجه مرة ثانية إلى الجنوب ووصل الأسطول الفرنسي أمام مدينة الجزائر يوم (13 «يونيو» حزيران) وبعد أن قام بمناورة استعراضية توجه إلى سيدي فرج، وفي الساعة الثانية صباحاً من يوم (14) هبطت الفرقة الأولى مشاة وعلى رأسها الجنرال بيرتوزان، وقبل نزول الفرقة قام الأسطول بتوجيه أول طلقات مدفعيته إلى مئذنة مسجد سيدي فرج فدمرتها، وفسر ذلك بأن هذه رسالة موجهة إلى الجزائر والعالم بأن الغزو هو غزو صليب للهلال، وجرى الإنزال دون مقاومة كبيرة، وقامت هذه القوات بإقامة معسكراتها وتحصينها، ثم تقدمت نحو الجزائر، وما كادت هذه القوات تستقر على الأرض حتى هوت عليها قذائف مدفعية السواحل القليلة التي كانت منصوبة في سيدي فرج، فبعثرت قذائفها أشلاء مجموعة من جنود العدو ونثرت أجسادها في الفضاء، واستمر قصف المدفعية الجزائرية نصف ساعة دفع قوات الاحتلال إلى التقهقر، وبعدها تمكنت القوات الغـازية من إخماد هذه البطارية التي قاوم مدفعيوها الشجعان إلى أن استشهدوا، وفي (18 حزيران «يونيو») هاجمت قوات الاحتلال الجيش الجزائري الذي كان يرابط في خط دفاع أول بستاويلي، وكانت القوات الجزائرية بقيادة نسيب الدّاي إبراهيم اغا يساعده باي قسنطينة أحمد باي وكان تعداده ستة الاف جندي متواضعي التسليح والتدريب، وبالرغم من ذلك فقد شن الجيش على قوات الاحتلال هجوماً عاماً يوم (19 حزيران «يونيو»)، ودارت معركة شديدة أسفرت عن انهزام الجيش الجزائري ؛ الذي كان يعتمد على خفة الحركة والكر والفر، ويستعمل بنادق عتيقة ويعتمد أساساً على استعمال السيوف، في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يعتمدون على جيش منظم ونيران كثيفة وتسليح حديث، وطوابير ثابتة تتقدم متلاحمة تصد هجمات الفرسان الجزائريين، وتشتت شملهم في خطة محكمة، وانسحب الاغا إبراهيم من ستاويلي، وقام بعمل عراقيل لقوات العدو، وانسحب تاركاً في أرض المعركة (2700) خيمة منها خيمته، و(60) جملاً نحرها الفرنسيون وأكلوها لحماً.

ويقول حمدان خوجة في كتابه المراة: دخل إبراهيم اغا الحرب بلا جيش مدرب منظم، ودون ذخائر، ودون مواد غذائية، ودون شعير للخيل، ودون أي كفاءة للقيام بالحرب، لقد أعطى كل جندي طلقتين اثنتين فقط.

ويقول الجنرال بيرتوزان: «إن الرماة الجزائريين يحسنون أفضل منا في الرماية، وكان رأي أحمد باي تجنب حرب المواجهة أمام الجيش الفرنسي القوي والمسلح، وتشكيل المقاتلين الجزائريين في مجموعات وتوزيعها على طول الطريق بين سيدي فرج والجزائر، لكن الاغا إبراهيم البعيد عن الكفاءة لم يستمع إليه. وكان أكبر خطأ ارتكبه الدّاي عزل الاغا يحيى الكفء من قيادة الجيش وتعيين إبراهيم لا لشيء إلا لأنه صهره».

بعد هزيمة ستاويلي هرب إبراهيم من الميدان واختفى في منزل ريفي، وأرسل له الدّاي حمدان خوجة فأقنعه بالعودة لقيادة الجيش، فعاد لكنه هرب مرة أخرى عندما وصل العدو لسيدي خالف.

وفي يوم (22) تقدمت قوات العدو نحو سيدي خالف، وتصورت أنها لا تلاقي مقاومة، لكنها فوجئت بقوة يقودها القائد الشجاع مصطفى بو مزراق والي تيطري، تمكنت من إلحاق خسائر مهمة بالعدو قبل أن تنسحب نحو العاصمة.

وأمام هذه المقاومة التي تعتمد على الشجاعة ؛ قرر الجنرال بورمون قائد الحملة انتظار تعزيزات وصلت يوم (25) من الشهر، ثم أمر بالتقدم نحو مدينة الجزائر يوم (29 حزيران «يونيو») قاصداً قلعة السلطان، وفقاً للخريطة التي سبق أن أعدها الجاسوس العقيد بوتان في عهد نابليون، لكن قواته ضلت طريقها، فقد شاهدت بحيرة من الماء تصورت أنها البحر، فأمر بورمون سائر القطاعات التوقف والتوجه نحو الماء، فاندفعت الفرقة الثانية، وفجأة وجدت نفسها تغوص في وهاد صعبة، كلفت قائد الفرقة الجنرال لوفيردو جهداً وساعات، من أجل السيطرة على الموقف، والخروج من وهاد ووديان وغابات بوزريعة، وإخراج قواته من الفوضى العارمة التي وقعت فيها نتيجة لكونها تاهت عن الطريق وانحرفت شمالاً، ولم يستغلها الجزائريون الذين كانوا فاقدي القيادة العسكرية والكفاءة، ومثلما يقول المارشال ماكماهون في مذكراته: ولو أتيح للجنود الأتراك الذين يعسكرون على طريق الميناء الحقيقي أن يهاجموا الفرقة الثانية أثناء ضلالها لكبدوها خسائر فادحة.

وانتظرت قوات الاحتلال التحاق قطع الأسطول من سيدي فرج، وقامت قطعه الحربية بقصف مرابطي مدفعية المدينة، وتمكنت من فتح ثغرات فيها، وعندها أمر بورمون بالتقدم يوم (3 تموز «يوليو»)، ووصلت القوات الغازية خط الدفاع الأول المتمثل في برج مولاي حسن، وحضر الفرنسيون الخنادق، وراحوا يهاجمون البرج الذي كان يقوده قائد فاشل أيضاً هو الخزناجي، وقاوم الجزائريون مقاومة شرسة، لكن النيران تسربت إلى مخزن البارود الصغير بالبرج، فأحدثت انفجاراً مهولاً دمر جزءاً من القلعة ؛ استغله الفرنسيون فاحتلوها بعد أن تكبدوا خسائر كبيرة، تم كل ذلك في ساعات، وصاروا يهددون المدينة من هذه القلعة وتحصيناتها المشرفة على القصبة، بعد أن نصبوا عليها مدافعهم، ووجهوا فوهاتها إلى المدينة، ومن البحر كان الأسطول الفرنسي يصوب مدافعه إلى المدينة، واقتنع باي تيطري مصطفى بو مزراق أن لا أمل في المقاومة، فانسحب إلى ولايته.

ب ـ سقوط مدينة الجزائر واستسلام الدّاي:

لما تأكد نزول الجيش الفرنسي سيدي فرج يوم (14 جوان 1830م)، وبدأ يستعد لكي يزحف على الجزائر العاصمة من الغرب، وشعر حاكم الجزائر الدّاي حسين بالخوف على نفسه وعلى سلطته، وقرر الدّاي حسين باشا أن يجتمع برؤساء الهيئات المهنية الموجودة في المدينة وأعيان البلاد وشيوخ القبائل والعلماء ورجال القانون، واستعرض معهم الوضع الخطير الذي كانت عليه المدينة، وطلب منهم إعطاءه رأيهم حتى يمكن التوصل إلى وسيلة تحقيق السلامة، وتقضي على الشرور. وقال لهم حسب شاهد عيان: أصدقائي لا تتحرجوا وقولوا رأيكم بصراحة، ففي مثل هذه الظروف يجب أن نتداول أنجع الوسائل، ولست إلا واحداً منكم، فماذا ترون؟ هل من الممكن أن نقاوم الفرنسيين مدة أطول؟ أم هل يجب أن نسلم المدينة بمعاهدة تسمى «استسلام». وبما أن كلام الدّاي غامض ولا أحد يعرف ماذا يريد من أعيان المدينة، فقد أجابوه بأسلوب مماثل، حيث كان ردهم كالاتي: سنحارب إلى أن نستشهد عن اخرنا، ومع ذلك فإذا فضل سمّوكم وسائل أخرى فإنه حر في أن يعمل ما يراه صالحاً، وسيجدنا عند إرادته. وفي الحقيقة أن إشارة الدّاي إلى قبول الاستسلام للفرنسيين وتسليم المدينة حسب نصوص معاهدة يوقعها معهم تدل دلالة واضحة على قناعته بأنه غير قادر على المقاومة، وأن انهيار حكومته هي مسألة وقت فقط. والمؤرخون الذين عايشوا الدّاي وتعرفوا على ما يجري في الأوساط المحيطة به أكدوا بأن الصراع الذي كان يدور بين معاونيه منذ مدة مهد الطريق للاحتلال الفرنسي بسرعة فائقة.

وعندما أحس الدّاي حسين أن المدينة صارت في حكم الساقطة، قرر الاتصال بالفرنسيين فأرسل أحد أمناء سره لمفاوضتهم، بعد أن حاول توسيط القنصل البريطاني الذي رفضه الفرنسيون، وأبلغوا الدّاي تسليم المدينة بلا قيد ولا شرط، وصل شخصان كرسولين وقابلا الجنرال بورمون وعرضا عليه تعويضات سخية تقدم له مع الاعتذار، مقابل عودة الجيش الفرنسي، ويروي الفرنسيون أنه عندما رفض طلبهما صاح أحدهما قائلاً: إذا كان يسرك يا جنرال أن ترى رأس الدّاي بين يديك فإنني سأذهب الان للعودة به إليك في طبق. لكن الجنرال اكتفى بإعادة شروطه على الرسولين والمتمثلة في الاستسلام بلا شرط، وأرسل الجنرال بورمون إلى الدّاي نص المعاهدة الاتية:

ـ تسلم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح الساعة العاشرة.

ـ يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل أمواله الشخصية.

ـ يكون الباشا حراً في أن يتوجه هو وأسرته وثروته الخاصة إلى المكان الذي يختاره، وإذا فضل البقاء في الجزائر فله ذلك هو وأسرته، تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي، الذي سيعين له حرساً لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته.

ـ يتعهد القائد العام أن يقدم لكل الجنود الإنكشارية نفس المعاملة ونفس الحماية.

ـ سيظل العمل بالدين الإسلامي حراً، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقاتهم ودياناتهم وأملاكهم

وتجارتهم وصناعتهم لن يلحقها أي ضرر، وستكون نساؤهم محل احترام، ويلتزم القائد العام على ذلك بشرفه، وسيتم تبادل وثائق هذا الاتفاق قبل الساعة العاشرة من هذا الصباح، وسيدخل الجيش الفرنسي حالاً بعد ذلك إلى القصبة وكل القلاع حول المدينة والميناء. الكونت دي بورمون. ختم حسين باشا دّاي الجزائر.

قدم بورمون المعاهدة في إطار أمر ينفذ من طرف الدّاي بدون مناقشة بنوده.

وقع الدّاي في أثناء الليل المعاهدة التي هي عبارة عن شروط استسلام وسلمت المدينة فعلاً صباح (5 تموز «يوليو» 1830م).

وفي يوم (6 جويلية 1830م) دخل الجنود الفرنسيون مدينة الجزائر من الباب الجديد بأعلى المدينة، وأنزلت أعلام دولة الدّاي من جميع القلاع والأبراج، وارتفعت في مكانها رايات الاحتلال الفرنسي وأقيمت صلاة للمسيحيين، وخطب فيها كبير قساوسة الحملة، فقال مخاطباً قائد الحملة الفرنسية: لقد فتحت باباً للمسيحية على شاطئ إفريقيا.

ودخل الجنرال بورمون المدينة، وسكن أحد قصورها، وبعد أيام أمر بورمون الجنرال بيرتوزان بإحصاء محتويات خزينة الدولة الجزائرية، التي سلم الدّاي مفاتيحها لبورمون مع وثيقة الاستسلام، ويروي المارشال ماكماهون الذي رافق الجنرال إلى الخزنة كضابط صغير: كانت الخزينة عبارة عن حجرة تبلغ مساحتها ستة أمتار في خمسة، في أقصاها سياج من خشب البلوط يبلغ ارتفاعه مترين، كدست بينه وبين جدار الغرفة نقود فضية من كل نوع، وعلى اليمين صندوق كبير فيه نقود من الذهب لاسيما النوع الإسباني، وعلى الأرض ثلاثة أقراص صغار أو أربعة من الذهب. وقدر هذا الكنز بما يعادل ثمانين مليون فرنك، وهو مبلغ يفوق تكاليف الحملة التي قدرت بـ (43) مليون فرنك، ويبدو أن الخزينة كانت تحتوي على مبالغ أكثر نهبها الضباط بعد أن أحرقوا سجلات الخزينة، بحيث إن المبلغ الذي سجل نهائياً كان لا يعدو (48) مليون فرنك.

ومن الغريب أن الدّاي لم يتصرف بحكمة فيقوم بتهريب أموال الخزينة نحو قسنطينة حيث ستكون هي عون الباي أحمد الذي قرر المقاومة.

وطلب حسين باشا من بورمون إعطاءه ماله الخاص المتنقل في ثلاثين ألف قطعة ذهبية. وقد أثنى القائد الفرنسي على مشاعر الدّاي الإنسانية لحقن الدماء بإبرامه هذه المعاهدة السلمية لتسليم مدينة الجزائر.

وفي يوم (10 جويلية 1830م) رحل الدّاي عن مدينة الجزائر، وتوجه إلى نابولي بإيطاليا ثم التحق بفرنسا، وأخيراً توجه إلى الإسكندرية بصحبة حريمه وأتباعه، وحمل معه خزينته الخصوصية وكان بها نحو تسعة ملايين فرنك وكميات من المجوهرات، والتقى بمحمد علي باشا حاكم مصر ولم يحسن الترحيب به.

وأقام في مصر حتى وافته المنية في الإسكندرية سنة (1834م).

وبعزل الدّاي من طرف الجيش الفرنسي وجبره على الاستسلام، انتهى العهد التركي في الجزائر الذي دام (326) سنة، واستقبل سكان مدينة الجزائر هذا الاستسلام بحزن، وحمل الكثيرون منهم أمتعتهم وغادروها نحو قسنطينة رافضين الإقامة تحت حكم النصارى.

وأما أحمد باي فبعد سقوط قلعة مولاي حسن وتيقَّنه من مصير الدّايوية انسحب مع فرسانه إلى وادي القلعة، ثم إلى عين الرباط، موقع مستشفى مصطفى باشا الان، ثم تقدم شرقاً نحو قسنطينة، وانضم إليه (1600) شخص هربوا من الجيش، وفي الطريق اتصل به بورمون وعرض عليه أن يبقى كما هو إذا قبل دفع إتاوة لفرنسا، فلم يجب على عرضه وواصل سيره الذي استغرق (22) يوماً إلى أن وصل إلى الحامة ضاحية قسنطينة، ووجد بها أنباء مفادها أن بعض خصومه الأتراك قاموا بحركة وبايعوا باياً مكانه اسمه حمود شاكر، لكن أنصار الحاج أحمد عندما علموا بوصوله قادوا حركة تحت قيادة خليفته ابن عيسى وبعض العلماء، فقام الانقلابيون بقتل مرشحهم وإعلانهم الولاء للحاج أحمد.

ج ـ الأخطاء التي وقع فيها الدّاي حسين حاكم الجزائر:

ارتكب الدّاي حسين أخطاء فادحة كلفته فقدان نفوذه وسلطته في الجزائر، ومن أهم هذه الأخطاء:

1 ـ إعدامه لقائد الجيش:

كانت الغلطة التي ارتكبها الدّاي وكلفته فقدان نفوذه وسلطته في الجزائر ؛ هي إقدامه على إعدام قائد جيشه البارع الاغا يحيى، الذي شغل هذا المنصب مدة (12) سنة في عهد الدّاي حسين، فقد كان هذا القائد من أكفأ القادة العسكريين في عهد الديات، وهو الذي دعم سلطة أحمد باي في شرق البلاد، ويحظى بمحبة الجنود العرب والقبائل، ولكن الخزناجي وزير مالية الدّاي غار من القائد يحيى، وخشي أن يكون داياً في يوم من الأيام، وقام بتقديم تقارير كاذبة إلى الدّاي اتهم فيها الاغا يحيى بأنه ينوي القيام بانقلاب ضد الدّاي، وأنه وعد بعض الأشخاص بإسناد مناصب وزارية إليهم في حالة نجاح خطته الانقلابية، فاغتاظ الدّاي، وأمر بنفي قائد الجيش، واستبداله بصهره إبراهيم الذي لا يفهم شيئاً في فن الحرب أو قيادة الجيش، وخوفاً من اكتشاف خيوط المؤامرة وعودة الاغا يحيى إلى قيادة الجيش أو إلى الحكم ؛ قام المتامرون بتوجيه تهمة أخرى إلى الاغا يحيى، وأخبروا الدّاي بأنه يتصل برؤساء العرب والقبائل الذين يزورونه ليلاً في منفاه بالبليدة. كما أكد الخزناجي وجماعته في تقاريرهم المزيفة للدّاي؛ بأن الاغا يحيى يعقد الاجتماعات في بيته، ويعد خطة لمهاجمة الجزائر والاستيلاء على السلطة وتعيين نفسه رئيساً للحكومة، وأقنع الدّاي بأن القائد يحيى خائن، فأمر بإعدامه سنة (1827م)، وابتداء من ذلك اليوم وإلى يوم (5 جويلية 1830م) بقي الجيش بدون قائد حقيقي لأن صهر الدّاي إبراهيم الذي أسند إليه هذا المنصب لم يكن يفقه شيئاً في فن الحرب.

ولهذا فإن تعيين الاغا إبراهيم على رأس الجيش قد مهد الطريق للاحتلال الفرنسي، فالقائد الجديد لم يتخذ أية إجراءات محددة لمواجهة الغزاة الفرنسيين، وإنما قام بتصوير خطة تقضي بإعطاء أوامر للقبائل العربية الذين سيكونون بجانبه ؛ لكي يطوق الجنود الفرنسيين ويقضي عليهم، ونسي هذا القائد أن مجيء القبائل العربية يتطلب وقتاً طويلاً، وأن الخيالة العرب يسكنون في أماكن بعيدة عن العاصمة ومن الصعب الاتصال بهم بسرعة.

ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا بأن المجموعة القليلة من القبائل العربية التي وصلت إلى الجزائر العاصمة لم تكن لديهم المؤونة والذخيرة، ولم يكن في إمكانهم شراء ذلك على نفقاتهم الخاصة، ولذلك كانوا يعودون من حيث أتوا، ويتركون اغا إبراهيم وحده، وبإيجاز فإن الدّاي الذي كان على علم مسبق بخطة الفرنسيين القاضية بالدخول من ميناء سيدي فرج، لم يأمر قائده جيشه بحفر الخنادق أو نصب المدافع هناك والتصدي للأعداء بمجرد أن تطأ أقدامهم أرض الجزائر.

وفي اليوم الذي نزل فيه الجيش الفرنسي من بوارجه الحربية لم يكن بسيدي فرج سوى (12) مدفعاً و(300) فارس تحت تصرف صهره إبراهيم، وعندما وقعت معركة ستاويلي وانهزم فيها إبراهيم اغا وجماعته غادر المعسكر وترك جيشه، واختفى في دار ريفية مع ثلاثة أو أربعة من جنوده، وفي هذه الأثناء قرر الدّاي أن يطلب من المفتي «شيخ الإسلام» أن يتولى تجنيد الناس ، وأن يقوم بجمع الشعب للدفاع عن البلاد ، ولكن لسوء الحظ كان الأوان قد فات، كما أن شيخ الإسلام رجل عادل وفاضل ولكنه بعيد عن أن يكون محارباً، وفي هذه اللحظة الحرجة لم يكن من الممكن أن يقود جيشاً ويصد عدواً، ونتيجة لكل هذا فلم يبق إلا تسليم مدينة الجزائر للفرنسيين.

2 ـ ثقة الدّاي حسين في وزير المالية:

والخطأ الثاني الذي وقع فيه الدّاي، ونتج عنه تسهيل عملية احتلال الجزائر، يكمن في ثقته العمياء واعتماده على وزير المالية «الخزناجي»، وإرساله للدفاع عن قلعة مولاي حسن «حصن الإمبراطور». وكان ما يصبوا إليه الخزناجي هو أن ينجح في الحصول على تأييد الميليشيا «الإنكشارية» ويتمكن من عزل الدّاي ويستولي على الحكم، ويبدو أن وزير مالية الدّاي كان يهدف إلى التفاوض مع الفرنسيين، وإبرام معاهدة حسب شروط فرنسا، مقابل الاعترف بالخزناجي كبديل للدّاي.

وكان الكاتب الخاص للدّاي مصطفى قادري ينتمي إلى جماعة الخزناجي، وعندما أرسله الدّاي حسين لمفاوضة الجنرال بورمون والتفاهم معه بشأن معاهدة الاستسلام، كان مصطفى قادري يتفاوض باسم الخزناجي وليس باسم الدّاي، وقد وعد بورمون بأنه سيحمل له رأس الدّاي حسين، وأنه مستعد للتفاهم مع فرنسا على ما تشاء، ولكن الجنرال الفرنسي أجاب مصطفى قادري بأنه لم يأت لمساعدة المتامرين ولكنه جاء لكي يحارب. ونستخلص من هذه الحقائق أن جماعة الدّاي المحيطة به كانت تتامر عليه في الخفاء وتتواطأ مع أعدائه، ولذلك كان من الصعب عليه أن ينجح في محاربة فرنسا وصد هجوماتها على الجزائر.

3 ـ عدم وجود انضباط من بعض رجال الأمن:

والخطأ الثالث الذي ارتكبه الدّاي يتمثل في عدم وجود انضباط في صفوف رجال الأمن، والسماح لبعض العناصر أن تتصل بالعدو، وتنقل معلومات تضليلية من مخابراته، وتنشرها في الأوساط الشعبية في الجزائر.

وعلى سبيل المثال نلاحظ أنه بمجرد إنزال الجنود الفرنسيين بسيدي فرج قام جزائري يدعى أحمد بن شعنان بالاتصال بالمعسكر الفرنسي للتعرف على ما إذا كان الفرنسيون قد جاؤوا مستعمرين أو محررين من النفوذ التركي، وانتهز الفرنسيون هذه الفرصة لكي يقنعوه بأنهم جاؤوا كمحررين من المستعمرين الأتراك، وزودوه في نفس الوقت بنسخ من البيان الفرنسي الذي حملوه معهم من فرنسا، وهو مطبوع باللغة العربية، وأوضحوا فيه أن الفرنسيين جاؤوا إلى الجزائر للانتقام لشرفهم من الباشا أو الدّاي، وأن الفرنسيين سيعاملون الجزائريين كما عاملوا إخوانهم المصريين من قبل. وبطبيعة الحال إن نقل هذه المعلومات المضللة إلى الأوساط الشعبية في الجزائر يعتبر خدمة للعدو الفرنسي، وتثبيطاً لعزائم كل الجزائريين ؛ الذين كانوا يرغبون في مواصلة النضال والدفاع عن البلاد.

4 ـ عدم وجود خطة مدروسة لمواجهة الفرنسيين:

والخطأ الرابع الذي ارتكبه الدّاي وجماعته أنهم لم يضعوا خطة مدروسة لمواجهة الفرنسيين، ولم توجد القيادة التي تستعين باراء الخبراء ويتفق أعضاؤها على خطة دقيقة، فقد ادعى الدّاي أنه يعرف مكان نزول الفرنسيين بسيدي فرج ؛ لأن جواسيسه في فرنسا ومالطة وجبل طارق قد زودوه بكل التفاصيل عن خطة فرنسا، لكن المجلس الذي عقد لتحديد خطة معينة للدفاع عن البلاد وشارك فيه الاغا إبراهيم قائد الجيش وصهر الدّاي، ومصطفى باي التيطري وخوجة الخيل وخليفة باي العرب وحمدان بن عثمان خوجة ؛ لم يتمكن من وضع استراتيجية دقيقة لمواجهة الجيش الفرنسي، واستناداً إلى ما قاله أحد أعضاء هذا المجلس وهو حمدان بن عثمان خوجة، فإن الاجتماع الذي عقد بمكان قرب سيدي فرج تمخض عن بروز اراء متضاربة، فقائد الجيش الاغا إبراهيم الذي افتتح الاجتماع كان يرى أنه يجب بناء حصون على شاطئ البحر وتزويدها بمدافع قوية حتى تمنع الفرنسيين من النزول. أما حمدان بن عثمان خوجة فقال للاغا إبراهيم بأنه إذا وضعنا كل أملنا في إقامة التراسين والحصون فإنكم لن تنتصروا ؛ لأن نيران المراكب الفرنسية ستقضي على هذه المنجزات المقامة بسرعة وتكون أعمالكم قد ذهبت سدى، ثم إنكم لن تتمكنوا من تسليح الحصون دون تعرية مدينة الجزائر التي ينبغي أن تهتموا كل الاهتمام بالدفاع عنها، ومن جهته لاحظ باي قسنطينة بأنه من الصعب على الجزائريين أن يتمركزوا في موقع واحد ويتغلبوا على الجيش الفرنسي، وحسب رأيه أنه ليس من الحكمة أن تجمع القوات الجزائرية في نقطة واحدة، ومن الأفضل أن توزع بحيث ينقل جزء منها إلى غرب سيدي فرج، ومعنى ذلك فإذا قرر الفرنسيون ملاحقة الجزائريين فإنهم يبتعدون عن هدفهم الذي هو مدينة الجزائر، وسيكون ذلك لصالح الجزائر، لأن الجيش الجزائري سيبدؤهم بالهجوم، وإذا قصد الفرنسيون مدينة الجزائر فإن الجيش الجزائري سيهاجم من الخلف وينتصر عليهم.

كما اقترح باي قسنطينة أن يتولى كل قائد الإشراف على وحدة من وحدات الجيش، ويكون مقر القيادة هو مدينة الدار البيضاء، وكانت إجابة الاغا إبراهيم على ملاحظات باي قسنطينة جافة وقاسية، حيث قال له: إنكم لا تعرفون التكتيك الأوروبي، إنه يتعارض كل المعارضة مع تكتيك العرب.

وهكذا باءت كل مجهودات الجزائريين لوضع خطة دقيقة لمجابهة العدو الفرنسي، بالإضافة إلى أن الاغا إبراهيم جاء ليحارب فرنسا دون جيش منظم، ودون ذخيرة، ودون مؤونة، ودون شعير للخيل، ودون المقدرة الضرورية على مواجهة الحرب.

وأما بالنسبة للجانب الفرنسي، فإن الأوروبيين قد جاؤوا وفي حوزتهم الخطة التي رسمها الضابط الفرنسي لاحتلال الجزائر «بوتان» يوم (24 ماي 1808م).

كما أن رئيس مجلس وزراء فرنسا «بولينياك» قام بإعداد خطة وعرضها على مجلس الوزراء قبل أن يرسل الجيش الفرنسي من مدينة طولون إلى الجزائر يوم (25 ماي 1830م) وتتمثل خطة «بولينياك» فيما ينبغي أن تكون عليه الجزائر بعد الانتصار عليها، واقترح على مجلس الوزراء حرية الاختيار بين البدائل التالية:

ـ إبقاء الدّاي في حكم الجزائر على أن تشرف فرنسا عليه من الناحية العسكرية، فيحدد له عدد الجيش والأسطول الذي يستطيع الدّاي الاحتفاظ به.

ـ أو إعادة الجزائر إلى الدولة العثمانية ؛ لإنشاء حكومة منظمة فيها تضمن احترام الجزائريين للملاحة في البحر الأبيض المتوسط.

ـ أو أن تتقاسم فرنسا الجزائر مع الدول الأوروبية وخاصة إنجلترا.

ـ أو أن تحتل فرنسا الجزائر بصورة دائمة وأن تستغلها اقتصادياً.

وطبعاً فإن الحل المقترح في النقطة الرابعة هو الذي وقع عليه الاختيار بعد الانتصار الفرنسي على الدّاي والقضاء على حكومته.

د ـ الحرب النفسية والإعلامية الفرنسية:

عشية مغادرة الأسطول الفرنسي لميناء طولون لشن الحرب على الجزائر، قامت الحكومة الفرنسية بطبع منشور باللغة العربية ؛ لكي يتم توزيعه على الجزائريين وأبناء الأتراك قبل دخول الأراضي الجزائرية، وتوضيح وجهة النظر الفرنسية بالنسبة لهذا الغزو الأوروبي لأرض إسلامية.

وقد جاء هذا البيان بمثابة خطة لخلق البلبلة في صفوف الجزائريين، وإعطائهم انطباعاً بأن الفرنسيين جاؤوا لتخليص الجزائريين من السيطرة التركية، وبذلك يتضامنون مع فرنسا ولا يتصدون لها، وتظهر هذه الحقائق من خلال البيان الذي جاء فيه:

إننا نحن أصدقاؤكم الفرنسيون نتوجه الان نحو مدينة الجزائر، إننا ذاهبون لكي نطرد الأتراك من هناك.

إن الأتراك هم أعداؤكم وطغاتكم الذين يتجبرون عليكم ويضطهدونكم، والذين يسرقون أملاككم وإنتاج أراضيكم، والذين يهددون حياتكم باستمرار.

إننا لن نأخذ المدينة منهم لكي نكون سادة عليها، إننا نقسم على ذلك بدمائنا. وإذا انضممتم إلينا، وإذا برهنتم أنكم جديرون بحمايتنا فسيكون الحكم في أيديكم، كما كان في السابق، وستكونون سادة مستقلين في وطنكم.

إن الفرنسيين سيعاملونكم كما عاملوا المصريين إخوانكم الأعزاء ؛ الذين لم يفتؤوا يفكرون فينا ويتأسفون على فراقنا طوال الثلاثين سنة الماضية، منذ أخرجونا من بلادهم، والذين مازالوا يرسلون أبناءهم إلى فرنسا ليتعلموا القراءة والكتابة وكل فن وحرفة مفيدة، ونحن نعدكم باحترام نقودكم وبضائعكم ودينكم المقدس، لأن ملك فرنسا المعظم حامي وطننا المحبوب يحمي كل دين، فإذا كنتم لا تثقون في كلمتنا وفي قوة سلاحنا فابتعدوا عن طريقنا، ولا تنضموا إلى الأتراك الذين هم أعداؤنا وأعداؤكم، فابقوا هادئين.

إن الفرنسيين ليسوا بحاجة إلى مساعدةٍ لضرب وطرد الأتراك.

إن الفرنسيين لكم، وسيظلون أصدقاءكم المخلصين، فتعالوا إلينا، وسنكون مسرورين بكم، وسيكون ذلك فرصة لكم، وإذا أحضرتم إلينا الأطعمة والأغذية والأبقار والأغنام فسندفع ثمن ذلك بسعر السوق، وإذا كنتم خائفين من سلاحنا ؛ فأشيروا علينا بالمكان الذي يقابلكم فيه جنودنا المخلصون دون سلاح، مزودين بالنقود في مقابل التموين الذي تأتون به، وهكذا يحل السلام بينكم وبيننا لمصلحتكم ومصلحتنا.

وكان لهذا البيان وبيانات أخرى وزعت في الجزائر الأثر الكبير في نفوس وجهاء مدينة الجزائر الذين كانوا يقولون: لا ينبغي لنا أن نعرض العاهل ولا سكان المدينة إلى أخطار محققة باستعمالنا وسائل الشدة والعنف.

وقد تحطمت معنويات التجار والمحاربين في الجزائر بمجرد استيلاء بورمون على حصن الإمبراطور وتأهبه لكي يزحف على العاصمة بجيوشه الكبيرة.

كان رجال التجارة والرأسماليون يميلون إلى الاستسلام؛ لأن الجزائر ضائعة لا محالة، ولو دخل الفرنسيون بالقوة على أثر هجوم، فإنهم سينهبون المدينة ويقتلون جميع السكان والنساء والأطفال العزل، وكان تبريرهم لقبول فكرة تسليم المدينة إلى الفرنسيين وفقا لمعاهدة «استسلام» هو أن أمة شريفة مثل فرنسا لا تنكث بعهودها، وأننا سنتمتع بحريتنا ونعامل بكل عدل وبقطع النظر عن كون زيد أو عمرو هو الذي يحكمنا ؛ فإن المهم هو أن نحكم كما ينبغي وفقاً لمبادئ الحكومة الفرنسية، وأن لا تمس ديانتنا. ومن جهة أخرى فإن عماد الحضارة هي حقوق الإنسان ولذلك فإننا لا نخشى شيئاً من أمة متحضرة. وهذا هو التفكير الذي أدى في نهاية الأمر إلى عدم مقاومة الجيش الفرنسي.

وهؤلاء المساكين يبدو أنهم لم تكن لهم علاقة بالذاكرة التاريخية، وماذا فعلت فرنسا لما دخلت مصر، وكيف التجأ القائد الفرنسي كليبر إلى العنف، فدك القاهرة في عام (1800م) بالمدافع من كل جانب، وشدد الضرب على حي بولاق، واندلعت ألسنة النيران في كل مكان منه، والتهمت الحرائق عدداً كبيراً من الوكالات والخانات، فلم يجد سكان بولاق مفراً من التسليم، وتلاهم سكان الأحياء الأخرى، وتولى مشايخ الأزهر الوساطة وأخذوا من كليبر العفو الشامل والأمان، ولكنه ما لبث أن غدر بالمسلمين بعد أن خمدت الثورة، وكان اقتصاصه منهم رهيباً شديداً، فأعدم بعضهم، وفرض غرامات فادحة على كثير من العلماء والأعيان، كما فرض المغارم على أهل القاهرة جميعاً، ولم يستثنِ منهم الطبقات الشعبية الكادحة.

وعهد كليبر إلى المعلم «يعقوب» أن يفعل بالمسلمين ما يشاء. ومما يذكر ان بطريك الأقباط لم يقر يعقوب على تصرفاته، وكثيراً ما بذل له النصح بالعدول عن خطته، ولكن يعقوب كان يغلظ له القول، وكان يدخل الكنيسة راكباً جواده ورافعاً سلاحه، ولم يزدد إلا إمعاناً في تأييد الفرنسيين.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022