الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان
(فرنسا و مصادرة الأوقاف الإسلامية في الجزائر)
الحلقة:التاسعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
اهتم كلوزيل مدة حكمه بمشاريع الاستعمار والتنظيم الإداري للجزائر، في مجالات شتى الاقتصادية والعمرانية والتوسيعية، وقد اتضح من خلال المشاريع الأولى أن فرنسا جاءت للبقاء والاستعمار وليس لتأديب الدّاي حسين كما كان شائعاً، فكان من بين اهتمامات هذا العسكري إحصاء الملكيات المختلفة، ولهذا أصدر يوم (8 سبتمبر 1830م) قراراً استهدف حجز أملاك العثمانيين، ثم أوقاف مكة والمدينة وإلحاقها بمصلحة الدومين التي تم إنشاؤها في عهد دي بورمون، وقد حدد هذا القرار التعسفي مهلة ثلاثة أيام لعملية الاستظهار وإثبات الملكية، وأن السلطة ستعاقب كل من تحداها بدون انتظار.
وإذا لم يكن لهذا القرار صدى يذكر في العاصمة باريس، ولا ردود فعل من الملك لويس فليب، الذي كان مهتماً بالمشاكل الداخلية التي خلقتها ثورة جويلية، وبالمشاكل الخارجية، فإن هناك احتجاجات من سكان المدينة عبّر عنها المفتون والعلماء والوكلاء، وبينوا لهذا العسكري أن أملاك مكة والمدينة ليست ملكاً للعثمانيين، وإنما هي من أصول مختلفة، وأن الذين يشرفون عليها ـ أي الوكلاء ـ ليسوا عثمانيين بالضرورة وإنما هم من مدن الجزائر المختلفة.
وأمام هذا الاحتجاج تراجع كلوزيل عن القرار المتعلق بالاستيلاء على أوقاف مكة والمدينة، وقدّر بعض القادة العسكريين خطورة بقاء هذه الأوقاف بأيدي أصحابها ؛ فهي تغريهم وتساعدهم على القيام بالثورة ضد الاحتلال، وقد ثبت أن معظم الثورات التي كانت ضد الاحتلال في بداية المحتل وطيلة القرن التاسع عشر قد ساهمت الأوقاف الإسلامية فيها.
وبعد ثلاثة أشهر من إصدار القرار الأول أصدر كلوزيل قراراً آخر يوم (7 ديسمبر 1830م) مدفوعاً بنصائح السيدين فوجدو وفونلاند، استهدف به هذه المرة ضم كل الأملاك والأوقاف الدينية «وهي تشمل أوقاف مكة والمدينة والمساجد والزوايا» إلى مصلحة أملاك الدولة ـ الدومين ـ وطلب من المفتين والوكلاء أن يقدموا حساباتهم إلى هذه المصلحة الجديدة.
ويذكر هابار بأن هذا القرار كان ضربة للدين والثقافة الإسلامية لانعكاس آثاره على الحياة الاجتماعية للسكان، فالأوقاف كانت المصدر المالي للتعليم والترقية الاجتماعية.
كانت الأوقاف موجودة في الجزائر كما كانت في بقية البلاد الإسلامية، وهي حبس مال أو أراضٍ ونحو ذلك تصرف منفعته على الفقراء وخدمة الدين والعلم، ولعبت دوراً معتبراً في العهد العثماني وخاصة في مجال التعليم ونشر الثقافة وهي نوعان: «الأوقاف الخاصة أو العائلية والأوقاف العامة»، وهي التي تهمنا ويحبسها أهل الخير لأغراض خيرية دينية، مثل التي تخصص للتعليم، والعناية بالحج، واستصلاح المساجد، ومساعدة الأيتام.
وكانت الأوقاف العامة كثيرة في مدينة الجزائر، وقد قدر عددها في الأيام الأولى من الاحتلال (600،2) ملكية، وعدد غير قليل في المدن الأخرى كقسنطينة ووهران، ويمكن ترتيب الأوقاف في مدينة الجزائر كما يلي:
ـ أوقاف مكة والمدينة.
ـ سبل الخيرات.
ـ الجامع الكبير.
ـ الزوايا.
ـ أوقاف الأندلس.
ـ الإنكشارية.
ـ المياه.
ـ الطرق.
وبمقتضى قرار (7 ديسمبر 1830م) أصبحت كل الأوقاف ملكاً للسلطة الاستعمارية أو تابعة لمصلحة الدومين، غير أنه أبقى على الوكلاء، الذين كلفوا بجمع دخلها وتسليمه إلى السيد جيرادان، الذي عين مديراً لإدارة أملاك الدولة الفرنسية في الجزائر، واختير لهذا المنصب ؛ لأنه كان يجيد اللغة العربية، ونظراً لأهمية هذا المنصب، وضع إلى جانبه موظفون مدنيون يساعدونه في الوظيفة.
ولم تتمكن السلطة الاستعمارية من تنفيذ هذا القانون الجائر كلياً في مدينة الجزائر، ولكنها استطاعت تنفيذه في وهران وعنابة.
ولم تجد السلطات الفرنسية صعوبات في مصادرة أوقاف العيون وتسليمها إلى مهندسين فرنسيين، ونفس الشيء لأوقاف الطرق ؛ سلمت إلى مصلحة الجسور بحجة ضعف وعجز الأمناء الذين لم تكن لهم القدرة الكافية للقيام بهذا.
وأما أملاك الجيش الإنكشارية فقد احتجزت ؛ لأنها أملاك عثمانية، وأن بقاءها بأيديهم يحرضهم على الثورة في نظر الفرنسيين، وأجبر وكيل أوقاف مكة والمدينة على دفع الدخل للخزينة المالية العامة، وتوقف إرسال جزء منه إلى شريف مكة حتى لا يشتغل في إشعال وتموين الثورات.
إن السلطة الفرنسية تصرفت في الأوقاف تصرفاً ينافي وعدها في احترام الديانة الإسلامية، فقد حولت الكثير إلى كنائس وإلى مراكز طبية وإدارية وثكنات عسكرية وحمامات، وسلمت بعض العقارات للمستفيدين الأوروبيين ترغيباً في البقاء، ومنها ما استؤجر لكبار التجار لتخزين بضائعهم، ومنها ما بيع وتعرض لهدم من أجل توسيع الطرقات وتكوين الساحات العامة، وكان جامع السيدة أول مسجد يتعرض لمعاول الهدم، بدعوى إقامة ساحة داخل المدينة ـ هي ساحة الشهداء اليوم ـ تستعمل للدفاع وقمع الاحتجاجات في حالة انتفاضة السكان.
ويذكر الوكيل المدني بيشون أن الجيش استولى فيما بين (1830م ـ 1832م) على خمس وخمسين ملكية تابعة لأوقاف مكة والمدينة، وعلى إحدى عشرة ملكية تابعة للمسجد الكبير.
ويعتبر قرار (7 ديسمبر 1830م) من البوادر الأولى للاستعمار والتدخل السافر في الشؤون الدينية للسكان، كما يعتبر من الخطوات الأولى لمحو التراث العربي الإسلامي في الجزائر، وهتك ما هو مقدس، وقيام السلطة بهذا العمل لقي معارضة شديدة، حتى من بعض الفرنسيين، وعلى هذا يمكن أن نقسم هذه المعارضة إلى نوعين:
النوع الأول: ويشمل طائفة من المسؤولين الفرنسيين الذين رأوا في القرار شيئاً ينافي مبادئ الدولة الفرنسية، وينقض عهد الأمان الذي أعطي للسكان، فالجنرال برتوزين كان قد فكر إبان حكمه في الجزائر (فيفري 1831م وديسمبر 1831م) في إرجاع أوقاف مكة والمدينة، لأن حجزها مخالف لمعاهدة جويلية (1830م)، وأما الوكيل المدني بيشون فقد اتخذ موقفاً معارضاً للقرار برسالة وجهها إلى رئيس مجلس الوزراء يوم (11/11/1831م) طالب فيها بفسخ القرار بسرعة ؛ حتى يسمح ذلك للسلطة بتمهيد طرق التوفيق مع القبائل القاطنة داخل البلاد، وموقف بيشون فتح الطريق أمام البعض في التعبير عن تذمرهم من القرار، ومن بين هؤلاء السيد الحاج محيي الدين آغا العرب الذي شكا لبيشون وناشده بإرجاع أوقاف مكة والمدينة وإعادة المساجد المختلفة إلى أصلها.
النوع الثاني من المعارضين للقرار: العلماء ورجال الدين والمفتون والقضاة، من أمثال محمد بن محمود بن العنابي المفتي الحنفي، ومصطفى ابن الكباببطي، وشخصيات أخرى من أعيان مدينة الجزائر أمثال حمدان بن عثمان خوجة، وأحمد بو ضربة وغيرهم. فبحكم المناصب التي كانوا يحتلونها عند الفرنسيين تمكن هؤلاء من التعبير عن تذمرهم بما حل بالأوقاف والمساجد عن طريق تقديم الشكايات والعرائض إلى السلطة الحاكمة. فالمفتي ابن العنابي هاله ما كان يجري في مدينة الجزائر، ويصفه حمدان خوجة قائلاً: بأنه رجل نزيهٌ وقاضٍ، ذنبه الوحيد أنه كان يكتب دائماً إلى الجنرال كلوزيل يلومه على تصرفاته التي كانت تبدو له مخالفة لوثيقة الاستسلام وللقوانين الفرنسية، ولحقوق الإنسان، فاعتبره كلوزيل عنصراً خطيراً على السلطة بحجة أنه يعمل على تحريض السكان على الثورة، فألقى عليه القبض وسجنه ثم نفاه بعد أن أوقع به الفخ.
والخلاصة هي: لقد نظر الفرنسيون إلى الأملاك الدينية بمنظار فرنسي استعماري همجي بربري. وقد بين حمدان خوجة هذا المعنى عندما قال: إنهم فعلوا ذلك للحصول على وسيلة يكسبون بها ثروة طائلة في أسرع وقت ممكن، ولو على حساب الإنسانية، وشرف الأمة، وثانياً لافتتان الأنفس وترغيب فرنسا في الاحتفاظ بالإيالة.
إن تدخل السلطات الفرنسية المحتلة للجزائر في شؤون الممتلكات الدينية اعتداء صريح وواضح وعمل ممنهج للقضاء على الديانة الإسلامية أو إضعافها ؛ التي وعدت باحترامها واحترام كل ما يرمز إليها، كما يعتبر قيامها بتحويل المساجد إلى كنائس للقيام بشعائرها الدينية نوعاً من التنصير المقنع الذي تتعدد مظاهره وأشكاله.
 
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022