الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من كتاب كفاح الشعب الجزائري بعنوان
(موقف الدولة العثمانية من احتلال فرنسا للجزائر)
الحلقة: الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
كان الاحتلال الفرنسي للجزائر في عهد السلطان محمود الثاني الذي تولى قيادة الدولة من عام (1808م) إلى عام (1839م).
كانت الدولة العثمانية في وضع لا تحسد عليه، ودعمت الدول الأوروبية محمد علي باشا لإضعاف الدولة العثمانية، ولقد ساهم محمد علي في بيان الضعف الذي وصلت إليه الدولة العثمانية، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تترقب الظروف السياسية لتقسيم أراضيها، وبينما كانت جيوش محمد علي تمكن للنصارى في بلاد الشام وتضعف شوكة المسلمين، كانت جيوش فرنسا في عام (1830م) تغتصب الجزائر بعدما ضعفت الخلافة العثمانية، وكانت الدول الأوروبية مؤيدة لهذا الاغتصاب السافر، فقد حان توزيع تركة الرجل المريض، وحل المسألة الشرقية بالطريقة الأوروبية.
وفي أعقاب هزيمة الجيوش العثمانية أمام جيوش محمد علي في الشام والأناضول، اضطرت الدولة العثمانية للاستنجاد بروسيا بعد أن لمست أن محمد علي يحظى بتأييد بريطانيا وفرنسا، وعقدت معاهدة «نكيار السكلة سي» سنة (1833م) أعقاب هدنة كوتاهية. وكانت المعاهدة بمثابة تحالف دفاعي بين روسيا والعثمانيين، مما أدى إلى مسارعة كل من بريطانيا وفرنسا بالتصدي لمحمد علي خشية المزيد من التدخل الروسي، وفرضت عليه اتفاقية لندن سنة (1840م). وقد ترتب على هذه الأحداث إجهاض محاولة الإصلاح التي حاول السلطان محمود الثاني أن يقوم بها في الدولة العثمانية، واضطرت الدولة العثمانية لقبول وصاية الدول الأوروبية في مقابل حمايتها من أطماع محمد علي.
وهكذا كانت سياسة محمد علي خطوة مدروسة من قبل أعداء الإسلام لتهيئة المنطقة بأكملها لمرحلة استعمارية، مازالت اثارها تعاني منها الأمة حتى اليوم، لقد استطاعت السياسة النصرانية الأوروبية أن تحقق أهدافها الاتية بواسطة عميلها محمد علي:
ـ تحطيم الدولة السعودية الأولى، التي كادت أن تكون سداً منيعاً أمام الأطماع البريطانية في الخليج العربي خصوصاً والمشرق عموماً.
ـ فتح الأبواب على مصراعيها لإقامة مؤسسات معادية للدين الإسلامي والمسلمين، متمثلة في محافل ماسونية وإرساليات تبشيرية وأديرة وكنائس ومدارس ؛ ساهمت في بذر بذور التيارات القومية المعادية للإسلام، وبث الأفكار المعادية لمصالح الأمة الإسلامية.
ـ إتاحة الفرصة لشركات تجارية أوروبية لتتحكم في الاقتصاد.
ـ منح امتيازات واسعة للأوروبيين، ومنع أهالي مصر والشام من تلك الامتيازات.
ـ خنق التيار الإسلامي الأصيل والتضييق على العلماء والفقهاء، ولم يسمح للمسلمين أن يتكتلوا من أجل أهدافهم النبيلة.
ـ أصبح محمد علي نموذجاً تحتذي به الدول الأوروبية في صنع عملائها في داخل ديار المسلمين، كمصطفى كمال وغيره.
وبعد أن حققت الدول الأوروبية أهدافها بواسطة عميلها محمد علي، حان الوقت لإضعاف قوات محمد علي وتحجيمها فقد تحققت أهدافهم، ووصلوا إلى مقاصدهم ؛ فلابد من إضعاف قوات محمد علي. ودخل الإنجليز في صراع سافر مع قوات محمد علي، واستطاعوا بمساندة أهل الشام هزيمة قوات محمد علي، والاستحواذ على الثغور الشامية، وقتل في هذه المعارك ثلاث أرباع قوات محمد علي من شعب مصر وبلاد الشام، وأجبر محمد علي تحت ضغوط الإنجليز على توقيع معاهدة:
ـ يتنازل فيها عن حكم بلاد الشام، وأن يظل حكم مصر وراثياً له ولأبنائه.
ـ أن يحدد الجيش المصري بثمانية عشر ألفاً.
ـ أن لا تصنع مصر سفناً للأسطول.
ـ أن لا يعين والي مصر في الجيش ضابطاً أعلى من رتبة ملازم، وأن يدفع للدولة العثمانية ثمانين ألف كيس سنوياً.
وشرعت فرنسا وبريطانيا تثير الفتن الطائفية بين الأقليات غير المسلمة في لبنان، والهدف هو إنهاك قوة الدولة العثمانية التي أرسلت قوات لإنهاء الفتنة، وكذلك إيجاد المبرر للتدخل الفرنسي والبريطاني في لبنان تمهيداً لتمزيقه واحتلاله.
واحتلت روسيا الأفلاق والبغدان، وتمّ اتفاق عثماني روسي «بلطة ليمان» قرب إسطنبول عام (1265هـ/عام 1848م) وفيه: يبقى في الإقليمين جيش عثماني روسي حتى يستقر الوضع. وما دخل الروس في ذلك؟
وبهذا المكر أصبح للنصارى وجود عسكري في ديار الإسلام {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ *} [إبراهيم :46].
واشتد صراع الدول الأوروبية على تقسيم ولايات الدولة العثمانية، تركة الرجل المريض، وكانت الدول الأكثر اهتماماً بمصير الدولة العثمانية ومصير أملاكها هي:
ـ بريطانيا التي أرادت تأمين طرق مواصلاتها إلى الشرق الأقصى والهند خصوصاً، سواء عن طريق السويس والبحر الأحمر أو عن طريق الخليج العربي ونهري دجلة والفرات.
ـ روسيا القيصرية التي أرادت أن تجد لها منفذاً من البحر الأسود إلى المياه الدافئة بالبحر المتوسط، وكذلك أرادت أن يكون لها النفوذ الأكبر في شبه جزيرة البلقان لتؤسس بها دولة سلافية كبرى.
ـ فرنسا التي أخذت على عاتقها منذ زمن مبكر حماية مصالح رعايا النصارى الكاثوليك في بلاد الشام بصفة عامة والمارونيين على الأخص في لبنان، والتي أرادت رعاية مصالحها في هذه المنطقة، ثم استعلاء نفوذها في أملاك الدول الأخرى في الساحل الشمالي الإفريقي، وبالتحديد في تونس والجزائر.
ـ وفيما عدا الدول الثلاث الرئيسية التي ذكرناها ؛ فإن دولاً أخرى مثل النمسا وبروسيا اهتمت بمصير الدولة العثمانية التي بات من المتوقع هلاكها وزوالها، فسميت بذلك برجل أوروبا المريض.
لقد تضافرت عدة عوامل ساهمت في إبراز المسألة الشرقية إلى عالم الوجود منها:
ـ أن الطريق الذي تستطيع روسيا بواسطته الوصول إلى المياه الدافئة، هو الطريق الذي يصل البحر الأسود ببحر مرمرة، ثم بحر إيجة، وأخيراً بالبحر المتوسط، أي: بالمرور من مضيقي البسفور والدردنيل، وهما في حوزة الإمبراطورية العثمانية.
ـ إن الدول العظمى التي يكون لها قواعد قوية في البحر الأسود، ويتسنى لها السيطرة على المضايق، تصبح ذات مركز ممتاز تتمكن بفضله من بسط سلطانها على بلاد الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وعلى طريق المواصلات والتجارة من البحر المتوسط إلى الهند والشرق الأقصى.
ـ إن الدولة التي يمتد نفوذها إلى البلقان، تفرض سيطرتها على الشعوب البلقانية بعد تقلص سلطان العثمانيين على هذه المنطقة، وتصبح كذلك ذات مركز ممتاز يمكنها من الاستيلاء على القسطنطينية نفسها، ويهدد باختلال التوازن الدولي في أوروبا.
وفي خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر، كانت سياسة الدول ـ باستثناء روسيا وفرنسا ـ تدور حول المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية لأسباب ناشئة من وجود العوامل التي ذكرناها.
كانت بريطانيا في مقدمة الدول المتمسكة بمبدأ المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية وقتئذ.
وعندما بات ممكناً ملء الفراغ الذي ينجم من تقلص النفوذ العثماني عن البلقان، تخلت بريطانيا وسائر الدول عن مبدأ المحافظة على الدولة العثمانية، وسعت الدول الأوروبية بالفعل لتصفية القسم الأكبر من هذه المسألة باستقلال دول البلقان، وكان من بين الدول البلقانية المستقلة حتى نهاية القرن التاسع عشر اليونان، ورومانيا، وبلغاريا، والصرب.
تولى الحكم في الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان محمود الثاني ابنه عبد المجيد الأول وكان ضعيف البنية شديد الذكاء واقعياً ورحيماً.
وكان السلطان عبد المجيد خاضعاً لتأثير وزيره رشيد باشا ؛ الذي وجد في الغرب مُثله، وفي الماسونية فلسفته، ورشيد باشا هو الذي أعد الجيل التالي له من الوزراء ورجال الدولة، وبمساعدته أسهم هؤلاء في دفع عجلة التغريب التي بدأها هو.
وكانت حركة الإصلاح والتجديد العثماني تدور حول نقاط ثلاثة هامة:
ـ الاقتباس من الغرب فيما يتعلق بتنظيم الجيش وتسليحه، وفي نظم الحكم والإدارة.
ـ والاتجاه بالمجتمع العثماني نحو التشكيل العلماني.
ـ والاتجاه نحو مركزية السلطة في إسطنبول والولايات، وتكللت خُطا كلخانة وهمايون بدستور مدحت باشا عام (1876م).
ولأول مرة في تاريخ الإسلام ودوله يجري العمل بدستور مأخوذ من الدستور الفرنسي والبلجيكي والسويسري، وهي دساتير وضعية علمانية.
ووضعت حركة التنظيمات الدولة العثمانية رسمياً على طريق نهايتها كدولة إسلامية، فعُملت القوانين ووُضعت مؤسسات تعمل بقوانين وضعية، والابتعاد عن التشريع الإسلامي في مجالات التجارة والسياسة والاقتصاد، وقد سحب من الدولة العثمانية شرعيتها في أنظار المسلمين، وأصبحت في حالة من الضعف والهوان، منعتها من الدفاع عن ممتلكاتها والتصدي للمشاريع الغازية.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022