من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(إصلاحات عمر بن عبد العزيز في التعزيرات وأحكام السجناء)
الحلقة: 185
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1442 ه/ مارس 2021
أولا: في التعزيرات:
1 ـ في الحد الأقصى للضرب تعزيراً:
العقوبة بالجلد تنقسم إلى قسمين: حد وتعزير، فالحد قد نص الشارع الحكيم عليه، فمقداره محدد، لا مجال لأحد أن يزيد عليه أو ينقص منه، وأما الجلد تعزيراً فهو عقوبة لإتيان أمر لا حد فيه، أو أي جناية لا حد فيها فهو متروك للحاكم ليحدد مقداره حسب ما يرى، إلا أن عمر بن عبد العزيز جعل لذلك حداً أقصى لا تجوز الزيادة عليه على قولين:
الأول: لا تجوز الزيادة على ثلاثين جلدة، فعن محمد بن قيس: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بمصر: لا تبلغ العقوبة أكثر من ثلاثين سوطاً إلا في حد من حدود الله.
وفي القول الثاني: لا يبلغ بالجلد تعزيراً أقل الحدود؛ فعلى هذه الرواية لا يزاد للحر عن تسع وثلاثين جلدة، ولا
يزاد للعبد على تسع عشرة جلدة، لأن العشرين للعبد والأربعين للحر هي أقل الحدود. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن عاقبوا الناس على قدر ذنوبهم، وإن بلغ ذلك سوطاً واحداً، وإياكم أن تبلغوا بأحد حداً من حدود الله.
2 ـ النهي عن أخذ الناس بالمظنة وضربهم على التهمة:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى عدم جواز الأخذ بالظن أو الضرب على التهمة، فهو يقرر بهذا مبدأ العدالة وترجيح التحقيق العادل على التحقيق الحازم، وذلك خوفاً من أن يظلم بريء، فقد فضل عمر بن عبد العزيز أن يلقوا الله بخيانتهم على أن يلقى الله بدمائهم.
عن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال: حدثني أبي عن جدي، قال: لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد، وأسأله أخذ الناس بالمظنة وأضربهم على التهمة، أو أخذهم بالبينة وما جرت عليه عادة الناس، فكتب إليَّ أن اخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقاً ونقباً.
وكتب عدي بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز:.... أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قبلي أناساً من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل، مالاً عظيماً لست أرجو استخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ أن يأذن لي في ذلك أفعل. قال: فأجابه: أما بعد؛ فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقرَّ به، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم، وخل سبيله، وايم الله، لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم أحب إليَّ من أن ألقى الله بدمائهم.
وهكذا يقرر عمر بن عبد العزيز الأخذ بالتحقيق العادل لا بالتحقيق الحازم. وقد قال بعدم الأخذ بالمظنة والضرب على التهمة كل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعطاء.
3 ـ النهي عن المثلة:
حلق الرأس جعله الله نسكاً وسنة ـ في الحج والعمرة ـ كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حلق اللحية، ولكن بعض الناس خالفوا ذلك كله وجعلوا حلق الرأس واللحية عقوبة، وهذا عمر بن عبد العزيز ينهى عن هذا العمل ويسميه المثلة. فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: إياك والمثلة: جز الرأس واللحية. ومذهب الأئمة الأربعة: أن لا يجوز التعزير بحلق اللحية، وعند مالك وأبي حنيفة: ولا يحلق الرأس.
ثانيا: في أحكام السجناء:
1 ـ تعجيل النظر في أمر المتهمين:
أمر عمر بن عبد العزيز بتعجيل النظر في أمور المتهمين، فمن كان عليه أدب فيؤدب ويطلق سراحه، ومن لم يثبت عليه قضية يخلى سبيله، ويرى أن إقامة الحدود سبب لقلة السجناء؛ لأنـه يكون زاجراً لأهل الفسق والزعارة، فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز:.... فلو أمرت بإقامة الحدود لقلَّ أهل الحبس، ولخاف أهل الفسق والزعارة، ولتناهوا عما هم عليه، إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمورهم، إنما هو حبس وليس نظر، فمر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل الأيام، فمن كان عليه أُدِّبَ وأطلق، ومن لم تكن له قضية خلي عنه.
2 ـ في الاهتمام بأمور المسجونين:
قام عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالإصلاح على كل طريق، وحقق العدل على كل صعيد، فقد اهتم بأمر المسجونين اهتماماً شديداً، وأصدر تعليماته بتعهدهم بكل ما يحتاجونه من طعام وأدم وكسوة وغير ذلك، وعن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز:... وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم...فمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم، وصير ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة، وولِّ ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر، يقعد ويدعو باسم رجل رجل، ويدفع ذلك إليه في يده... وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء، وفي الصيف قميص وإزار، وتزاد المرأة مقنعة... ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة؛ يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن.
وكتب إلى أمراء الأجناد: وانظروا من في السجون ممن قام عليه الحق... ولا تعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال....وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي، فإن من ارتشى صنع ما أمر به.
3 ـ سجن خاص بالنساء:
يمضي عمر بن عبد العزيز قدماً في تنظيم السجون والاهتمام بأمر المسجونين وتعاهدهم، فيأمر بأن يجعل للنساء حبس خاص بعيداً عن الاختلاط بالرجال، مما يؤكد على اختيار أهل الدين والأمانة، ليتولوا أمور السجناء.
فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: وانظروا من في السجون ممن قام عليه الحق فلا تحبسه حتى تقيم عليه، ومن أشكل أمره اكتب إلي فيه، واستوثق من أهل الزعارات؛ فإن الحبس لهم نكال، ولا تعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قوماً في دين فلا تجمع بينهم وبين أهل الزعارات في بيت واحد ولا حبس واحد، واجعل للنساء حبساً على حدة، وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي؛ فإن من ارتشى صنع ما أمر به.
ومما سبق نلاحظ اهتمام عمر بن عبد العزيز بالسجناء، وحرصه على إقامة العدل فيهم، وإصلاح ما أفسده من قبله في التعامل معهم.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com