السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(ظروف تولي يزيد بن عبد الملك الخلافة)

الحلقة: 196

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1442 ه/ أبريل 2021

هو يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو خالد القرشي الأموي، أمير المؤمنين، وأمُّـه عاتكة بنت يزيد بن معاوية. ولد بدمشق سنة 71 هـ، وقيل: 72 هـ، وقيل: 66 هـ، والأرجح 72 هـ، وكان رجلاً طويلاً جسيماً أبيض مدور الوجه لم يتكهَّل.
أولاً: حياته قبل الخلافة:
كان قبل الخلافة محبوباً في قريش، بجميل مأخذه بنفسه وهديه وتواضعه وقصده، وكان الناس لا يشكُّون إذا صار إليه الأمر أن يسير بسيرة عمر لما ظهر منه، وقد تلقى تربيته على علماء من أهل الدين والفضل، فكان منهم الضحاك بن مزاحم وعامر بن شراحبيل، وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، ومحمد بن مسلم الزهري،
وهؤلاء العلماء اختارهم عبد الملك لتربية أولاده، وقد تأدَّب يزيد على يد إسماعيل بن أبي المهاجر والزهري.
وكان يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، ويغشى مجالسهم، ويحضر حلقاتهم، ويتأدَّب بآدابهم ويصغي لكلامهم ويقبل توجيهاتهم ويأخذ العلم عنهم، وشيوخه الذين تلقى عنهم العلم: مكحول، والزهري في الشام، والمقبري وابن أبي العتاب من علماء المدينة، وعلى ما يبدو أنه بلغ درجة رفيعة من العلم وبخاصة حفظ الحديث وروايته جعلت بعضهم يعده من المحدثين، وعن ابن جابر قال: أقبل يزيد بن عبد الملك إلى مجلس مكحول، فهممنا أن نُوسّع له، فقال: دعوه يتعلم التواضع، وقد كان رأي عمر بن عبد العزيز فيه حسناً.
ثانياً: توليه الخلافة:
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومئة، بعهد من أخيه سليمان أن يكون الخليفة
بعد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، يوم الجمعة من رجب. وسار في بداية حكمه بسيرة عمر بن عبد العزيز، إلا أنه لم يستطع المواصلة، وقال عنه الذهبي: وكان لا يصلح للإمامة، مصروف الهمّة إلى اللهو والغواني. وقال عنه ابن كثير: فما كان به بأس.
يقول الدكتور عبد الله الشريف:.. لكن الواضح أن قدراته السياسية وكفاءته الإدارية، لم تكن تؤهله لملء مكانة وقيادة الدولة باقتدار، أو تحقيق العظيم من المنجزات والفريد من السياسات التي تلفت إليه الأنظار، فكان يزيد حاكماً عادياً، ليس سياسياً مقتدراً كمعاوية، أو إدارياً ناجحاً كعبد الملك، أو مصلحاً كعمر، كما لم يكن
سيئاً كابنه الوليد بن يزيد، ويمكن القول: إن توليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز جعل المفارقة بينه وبين عمر واضحة وكبيرة وأدت إلى عتامة صورته لدى جمهرة المسلمين.
وكان بإمكان يزيد أن يسير على نهج تجربة عمر بن عبد العزيز ويعطي للعلماء دورهم القيادي المُناط بهم كما كانوا في عهد عمر، إلا أن العلماء تراجعوا إلى حد كبير، وحرمت الأمة من تجربة ناجحة تنفست الصعداء، وأطلت من خلالها على عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. ولعل هذا التراجع الذي حدث لمشاركة العلماء في عهد يزيد يرجع إلى عدة عوامل؛ أهمها:
1 ـ شخصية يزيد بن عبد الملك؛ حيث لم يكن بمكانة عمر وحماسته وحرصه على أن يسوس الناس بمنهج الله بلا محاباة ومساومة، كما لم يكن على منهج عمر في نظرته للخلافة على أنها تكليف لا تشريف، وأنها عمل لإسعاد غيره على حساب نفسه وأهله، ويدل على ذلك أن يزيد لم يطق أن يسير على نهج عمر أكثر من أربعين يوماً، ثم عدل عنه إلى نهج الملوك.
2 ـ العامل الثاني وهو مترتب على الأول ومرتبط به؛ إذ لما رأى العلماء عزم يزيد ترك العمل بسيرة عمر، ولم يجدوا عنده ما وجدوه عند عمر تركوه وانصرفوا إلى مسؤولياتهم العلمية، فحين قال قائل لرجاء بن حيوة لما اعتزل يزيد: إنك تأتي السلطان فتركتهم؟! قال: إن أولئك الذين تريد قد ذهبوا.
وأما ما ورد من أن يزيد تخلى عن السير على نهج عمر لأنه شهد له أربعون شيخاً بأن ليس على الملوك حساب ولا عذاب، فهذا ادعاء أوهى من أن يرد عليه، فهو يتضمن في طياته الرد على مختلقه، فمن هم الشيوخ الذين شهدوا بذلك الزور؟! ثم إنه يتعلق بأمر من ضروريات الإيمان وبديهياته؛ فأي مسلم مهما بلغ به الجهل مبلغه يعلم أنه يسأل عن أعماله ويجازى عليها. والحديث الصحيح: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، مشهور عند عامة المسلمين، فضلاً عن خاصتهم في هذه العصور المتأخرة، فكيف بعصر صدر الإسلام؟! ولكن حقيقة الأمر فيما ذكره ابن كثير قال: فلما ولي يزيد عزم أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسَّنوا له الظلم.

1 ـ تشويه صورته بالجواري في كتب التاريخ:

صورت كتب التاريخ يزيد بن عبد الملك بصورة الخليفة اللاهي عن مصالح دولته، لاهثاً خلف جاريتيه؛ ولما ماتت إحداهما رفض أن يدفنها وظل مقيماً بجوارها حتى جيَّفت، ولما دفنوها عاد ينبشها من جديد! وفي أسانيد هذه الروايات غير واحد من المجهولين.
وقصة يزيد مع جاريتيه في الأصل بسيطة كما يبدو، فهما جاريتان جميلتان ظريفتان مغنيتان شراهما يزيـد بعـد استخلافه، فملكتا عليـه قلبه، خصوصاً حبابة التي كلف بحبها واشتد طربه لغنائها، فحظيت عنده، فلما ماتت، حزن لموتها وجزع عليها، ولم يطل العمر بـه بعدهـا؛ حيث مات بعدها بأيام معدودة بالطاعون أو كـان مرض السل، وقد أغمض كثيراً من المؤرخين القول بموته مطعوناً أو مسلولاً، وجعلوه كمـداً وأسفاً على فقد حبابة، مع أنه من غير المستبعد موته بسبب الطاعون أو السل، بل هو الأولى، فكثيراً ما انتشر وبـاء الطاعـون وغيـره من الأوبئـة فـي حواضر الشـام كدمشق، فكان ذلك من الأسباب التي دعت الخلفاء الأمويين إلى بناء قصور لهم في بوادي الشام وأريافه.
إن قصة يزيد مع جاريتيه جاءت في المرويات التي تناولتها مهولة مشوهة، اعتراها كثير من المبالغة والاضطراب والتناقض والزيادة، بل والاختلاف، فمنها ما يُشير إلى تلك القصة باتزان، ومنها ما شابها بما لا يقبل ولا يعقل، ومنها ما ظهرت في الإساءة والطعن بتحريف أو زيادة، أو اختلاف، فجاءت تلك المرويات تحمل العجب والمنكر، وذلك إما لهوى في نفس راويها، أو لغرض يقصده ناقلها، أو نقلها مسندة، فحمل المسؤولية من رواها.

2 ـ انتصار يزيد بن عبد الملك لفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:

في ربيع الأول عام أربع ومئة، عزل يزيد بن عبد الملك عن إمرة الحرمين عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس، وكان
سببه أنه خطب فاطمة بنت الحسين فامتنعت من قبول ذلك، فألح عليها وتوعدها، فأرسلت إلى يزيد تشكوه إليه، فبعث إلى عبد الواحد بن عبد الله النضري نائب الطائف فولاه المدينة، وأن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صوته أمير المؤمنين وهو متكئ على فراشه بدمشق، وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن ركب إلى دمشق، واستجار بمسلمة بن عبد الملك، فدخل على أخيه فقال: إن لي حاجة، فقال: كل حاجة تقولها فهي لك إلا أن تكون ابن الضحاك، فقال: هو والله حاجتي، فقال: والله لا أقبلها ولا أعفو عنه، فرده إلى المدينة، فتسلمه عبد الواحد فضربه وأخذ ماله حتى تركه جبة صوف، فسأل بالمدينة، وكان قد باشر ولاية المدينة ثلاث سنين وأشهراً، وكان الزهري قد أشار على الضحاك برأي سديد، وهو أن يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمر، فلم يقبل ولم يفعل، فأبغضه الناس وذمه الشعراء، ثم كان هذا آخر أمره.

3 ـ بين يزيد وهشام ابني عبد الملك:

كتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته، وتمنَّيتَ وفاته ورُمت الخلافة. وكتب في آخره:

تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإن أمُتْ
وقد علموا لو ينفعُ العلمُ عندهم
مَنِيَّتُه تجري لوقتٍ وحتفُه
فقل للذي يبغي خلافَ الذي مضى


فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ
متى متّ ما الباغي عليَّ بمُخلدِ
يصادفُه يوماً على غير موعدِ
تهيَّأ لأُخرى مثلها فكأن قدِ


فكتب إليه هشام: جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خَيْرَ في العيش بعدك.
وجاء في رواية: أما بعد فإن أمير المؤمنين متى فرغ سمعه لقول أهل الشنان وأعداء النعم، يوشك أن يقدح ذلك في فساد ذات البين، وتقطع الأرحام، وأمير المؤمنين لفضله، وما جعله الله أهلاً له أولى أن يتغمد ذنوب أهل الذنوب، فأما أنا فمعاذ الله أن أستثقل حياتك، أو أستبطئ وفاتك، فكتب إليه يزيد: نُحن مغتفرون ما كان منك، ومكذبون ما بلغنا عنك، فاحفظ وصية عبد الملك إيانا، وقوله لنا في ترك التباغي والتخاذل، وما أمر به وحض عليه من صلاح ذات البين واجتماع الأهواء، فهو خير لك، وأملك بك، وإني لأكتب إليك، وأنا أعلم أنك كما قال القائل:

وإنِّي على أشياء منك تَريبُني
تقطع في الدنيا إذا ما قطعتني
وإن أنت لم تنصفْ أخاك وجدتَه


ديماً لذو صفحٍ على ذاك مُجْمِلُ
تقطع في الدنيا إذا ما قطعتني
على طرفِ الهجرانِ إن كان يعقلُ


فلما بلغ الكتاب هشاماً ارتحل إليه، فلم يزل في جواره مخافة أهل البغي والسعاية، حتى مات يزيد.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022