الفتوح في بلاد الغال زمن خلافة يزيد بن عبد الملك
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 201
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1442 ه/ إبريل 2021
بلاد الغال: تعني عند العرب الأرض الواقعة بين جبال البرتات (البرينيه)، وبين جبال الألب والأوقيانوس، ونهر ألبا ومملكة الروم، وهذا المفهوم ينطبق على فرنسا أيام شارلمان، وأممها تتحدث بعدة لغات.
شهد عصر الخليفة يزيد بن عبد الملك حملة من أهم الحملات التي قام بها المسلمون لفتح بلاد الغال عن طريق الأندلس. وهي الغزوة التي قادها السمح بن مالك الخولاني (101 ـ 102 هـ) إلى تلك الأصقاع.
أ ـ حملة السمح بن مالك الخولاني على بلاد الغال:
بدأ السمح حملته في بداية عهد يزيد بن عبد الملك، ومهد لغزو ما وراء البرتات بتوجيه البعوث والسرايا إلى بلاد الغال، خلال انشغاله بالتنظيمات التي قام بها بالأندلس، وكان السمح رجلاً قوي الإيمان جم النشاط من خيار أهل زمانه ثقة وعدالة، توفرت فيه الحكمة والخبرة والعقل فاجتمع عليه الناس ورضوا به، وكانت ولايته تجديداً للغزو واستئنافاً للفتح ما وراء البرتات، واتخذ من مدينة برشلونة قاعدة لتجمع الجيش الإسلامي المتوجه لفتح بلاد الغال، وزحف السمح في جيش كبير من برشلونة مخترقاً جبال البرتات من الشرق ناحية روسيون، وعبر باربينيان حتى أشرف على سبتمانية من بلاد الغال، وظل يتقدم حتى وصل إلى مدينة أربونة، وأصبحت قاعدة مسلحة للمسلمين، واستمر في زحفه واستولى على قرقشونة، وما صادفه من مدن وحصون ذلك الإقليم، واستطاع السمح اجتياح جنوب بلاد الغال، والتغلب على كل القوى التي قاومته وتصدت لزحفه، حتى أتم فتح جميع نواحي سبتمانية، وما إن فرغ من فتح إقليم سبتمانيـة وتنظيم أموره حتى اتجـه بجيشه غربـاً نحو مجرى نهر الجارون قاصداً إقليم إكتيانية أكوتين وبالذات عاصمتها مدينة طولوشة، واتجاهه هذا يعني أن غزوه موجه إلى مملكة الفرنج، فقصد طولوشـة، وفي طريقه إليها فتح مدينة طرسكونة، ثم استمر في زحفه حتى نزل طولوشة، فضرب السمح عليهـا الحصار، وجدَّ في قتال أهلها، مستخدماً المنجنيق وسائر آلات الحصار، حتى أوشك أهلها على التسليم، لكن الأمير أودو هب لإنقاذ المدينة، ففك المسلمون عنها الحصار والتفتوا لقتال أودو وجيشه.
ب ـ معـركـة طولوشـة:
روعت فتوحات السمح بن مالك في سبتمانية الأمير أودو دوق إكيتانية، فهب لإنقاذ عاصمته، وسار بجيشه حتى اقترب من طولوشة والمسلمون محاصرون لها، فلما علموا بمقدمه اضطروا لفك الحصار عن المدينة والتفتوا إليه، وكان جيشه من الكثرة، وقيل: إن عدده عشرة أضعاف الجيش الإسلامي، فالتقى الجيشان بالقرب من طولوشة، وقد أعد السمح جنده معنوياً وبث فيهم روح الجهاد الصادق، وقرأ عليهم بعض آيات النصر، ونشب القتال في معركة عنيفة غير متكافئة، صدق فيها المسلمون القتال وبلغت من الهول ما لا يتصوره العقل، حتى خيل عند تلاقي الجمعين، أن الجبال تلاطمت، وظل القتال سجالاً بين الفريقين، وقد أبدى المسلمون فيه ضروباً من الشجاعة وهم يقتدون بقائدهم، الذي كان يشدهم بقوله وفعله، ويجدونه في كل مكان يحمل على الأعداء فلا يقف في وجهه شيء، غير أن القائد المسلم أصيب برمح في رقبته خر على أثره صريعاً، ومات شهيداً، فلما رأى المسلمون ما أصاب أميرهم، فت في أعضادهم وأثر في نفوسهم، فاختل نظام الجيش، وحينها ولوا عليهم أحد كبار الجند وهو عبد الرحمن الغافقي، الذي نجح في قيادة الجيش، وتمكن من الانسحاب ببقية الجيش في مهارة حرمت الفرنج من تعقب المسلمين، وإصابتهم في حالة التقهقر حتى وصل أربونة، وكان حدوث هذه المعركة واستشهاد السمح بن مالك الخولاني في 9 ذي الحجة سنة 102 هـ. وتعتبر قيادة عبد الرحمن الغافقي لهذا الجيش الولاية الأولى، ولكن رغم قصرها لم تدم أكثر من ستة أشهر، إلا أن رجوع الغافقي بالجيش سيكسبه تجربة يعود منها بعدها إلى فتح تلك المناطق على نطاق أوسع.
جـ فتوحات عنبسة بن سحيم الكلبي في بلاد الغال:
استمر عبد الرحمن الغافقي أميراً للأندلس، بتقديم أهل الأندلس له مُنذ استشهاد أميرهم السمح بن مالك الخولاني تاسع ذي الحجة سنة 102 هـ، حتى قدوم عنبسة بن سحيم الكلبي أميراً للأندلس من قبل بشر بن صفوان عامل الخليفة يزيد بن عبد الملك على إفريقية والمغرب، وذلك في صفر سنة 103 هـ، وكان عنبسة من طراز السمح بن مالك رجلاً تقياً، وإدارياً بارعاً، وعسكرياً فذاً، وكان حريصاً على الإسلام وأميناً على دولته، فكان خير خلف لخير سلف، لقد شغل الأمير الجديد صدر ولايته بضبط الأمور في الأندلس، وإخماد الفتن فيها، ومن ذلك توجهه إلى المنطقة الشمالية في الأندلس للقضاء على حركة بلاي، وإخماد التمرد الذي قام به أخيلا بن غطيشة في مدينة طركونة، حتى استقام له أمرها، ثم أعد نفسه للجهاد، وباشر الفتح فيما وراء البرتات بنفسه، وكان بداية ذلك سنة 105 هـ، وهو ما أخذ به أكثر المؤرخين، وبذلك يكون الإعداد والتجهيز لهذه الحملة قد تم في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وقد يكون خروجها قد تمَّ أواخر زمنه أيضاً. أما ما تم على يد عنبسة من فتوحات في بلاد الغال؛ فإن ذلك قد حدث في خلافة هشام بن عبد الملك.
وفاة يزيد بن عبد الملك:
قيل بأن يزيد مرض بالسل ومات يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من سنة 105 هـ بالسّواد سواد الأردن، وكانت خلافته أربع سنين وشهراً على المشهور، وقيل: أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل: خمساً ـ وقيل: ستَّاً، وقيل: ثمانياً، وقيل: تسعاً ـ وثلاثين. وقيل: إنه بلغ الأربعين. فالله أعلم، وقيل: إنه مات بالجولان، وقيل: بحوران. وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وقيل: صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك وهو الخليفة من بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دُفن بين باب الجابية وباب الصَّغير بدمشق، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام ومن بعده لولده، فبايع الناس من بعده هشاماً. وكان نقش خاتم يزيد: قني السيئات يا عزيز.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com