من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2):
(أهم صفات وأخلاق ابن باديس)
الحلقة: 100
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
اتصف ابن باديس في سيرته العطرة بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق والإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع والاستقامة.. الخ ونحاول في هذا المبحث أن نركز على بعض الصفات التي تميزت بها شخصيته الإصلاحية العظيمة:
1 ـ حيوية عالية:
كان الشيخ عبد الحميد بن باديس ضعيف الجسم نحيله ، ليس من أصحاب الطول الفارع ولا القصير المشين، ولو أنه إلى القصر أقرب، شبّه الدكتور مازن حامد مطبقاني بصورة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي عرف عنه صغر حجمه ودقة ساقيه، حتى إذا استهزأ أو ضحك بعضهم من دقة ساقيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تضحكون لرجل عند الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد.
كان ابن باديس مجموعة من الإرادات العقلية والنفسية والروحية والقوة والعظمة والعمل. وما ذلك إلا لتفوق حيويته الروحية على حيويته المادية، فجانب الحيوية الروحية في ابن باديس متوفر وغزير. وقد ظهرت هذه الحيوية في حياته ومواقفه فهو:
ـ حيٌّ في إيمانه بربه وبمبادئه السامية.
ـ حي في خلقه العالي الملازم لشخصه ملازمة الشمس لنورها.
ـ حي في علمه الصحيح المبني على البحث الدقيق المؤسس على الطهارة النفسية واليقين القلبي.
ـ حي في قلبه المطمئن الثابت الذي لا تهزه العواصف ولا تنال منه الخطوب.
ـ حي في دينه الذي يخلص له ويعتز به أينما حل وحيثما ارتحل.
ـ حي في لسانه الفصيح الذي أوقفه على بناء الحق وهدم الباطل، وتأييد الهدى ومحو الظلام.
ـ حي في قلمه البليغ الذي التزم أن لا يخطّ إلا ما يمليه الضمير النزيه وتقتضيه مصلحة «الدين، واللغة، والوطن».
ـ حي في عمله المتزن المثمر الذي لم يعرقل تدفقه أي سدّ ولم تقف في وجهه أي محاولة.
فأي شيء يمنع الشمس أن تطلع أو يصدّ النور أن يسطع؟ ولنقتصر على إيراد مثالين اثنين يتجلى لنا فيهما طغيان هذا الجانب الحيوي الروحي على هذا «الرجل العظيم».
المثال الأول: هجره للسعادة الزوجية التي هي أجمل حلم للإنسان، وعدم احتفاله بالعاطفة الأبوية المحدودة التي هي من أعرف الغرائز في شخص الكائن الحي.
فقد رُزأئ في ولده الوحيد ولم يتخلف عن درسه يوم وفاته، ولما عُوتب في ذلك أجاب: أي مبرر لي أمام الله والواجب إذا ما تخلفت عن الدروس وأضعت على الطلبة وقتاً من أوقاتهم الثمينة؟
وما هذا إلا ظاهرة لمبلغ ما يكمن في طبعه من الانقياد إلى غرضه السامي، والاستجابة لصوت الجانب الروحي المكين من جهة، ودرسٌ عملي في التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة من جهة ثانية، واية صادقة على أن «عبد الحميد» ما خلق ليكون أباً لفرد من الأسرة الباديسية، وإنما خلق ليكون أباً لأبناء الجزائر أجمعين من جهة أخرى.
والمثال الثاني: هو أنه لما بلغه أن تلميذه الأستاذ الميلي ألف كتاباً في التاريخ سماه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» بعث إليه برسالة تمنّى لو يغير المؤلف عنوان الكتاب فيسميه بدل التسمية الأولى «حياة الجزائر» فلتستمع إليه إذ يقول: أخي مبارك سلام ورحمة، حياك الله بتحية من علم وعمل وعلم: وقفت على الجزء الأول من كتابك «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» فقلت لو سميته «حياة الجزائر» لكان بذلك خليقاً إلى أن يقول: إذا كان من أحيا نفساً واحدة كأنما أحيا الناس جميعاً ؛ فكيف من أحيا أمة كاملة وأحيا ماضيها وحاضرها وحياتها عند أبنائها حياة مستقبلها.
فهكذا نرى ابن باديس ينشد الحياة في كل شيء حتى في أسماء الكتب.
كان ابن باديس أبيض البشرة جميل الطلعة، تحفه هيبة الإيمان يدركها من عرفه ومن لم يعرفه. يحكي أحد تلاميذ الشيخ أنه كان يسير في أحد شوارع قسنطينة فلقيه أحد كبار الموظفين الفرنسيين ورئيس تحرير جريدة «لاديباش كونستنتين» فارتبك واضطرب، وحتى يزيل اضطرابه أسرع فتقدم من ابن باديس قائلاً: أنت رجل عظيم، أعرفك بنفسي أنا لوسياني.
وهناك قول للشيخ الإبراهيمي يؤكد هذه الهيبة، فقد كان ابن باديس يذهب إلى وهران لزيارة الإبراهيمي في مدينته وبين تلاميذه، والإبراهيمي يرى انقياد الناس لابن باديس، فلا يتمالك نفسه حتى يقول «ما أقوى نفوذ هذا الرجل». ويضيف تلميذه الذي عاش في غرفة ملاصقة لغرفة ابن باديس خمس سنوات وهو الشيخ محمد الصالح رمضان: إن للشيخ عبد الحميد بن باديس قوة روحية خارقة سببها الجانب الروحي في حياته.
2 ـ ثباته على المبدأ:
يقول أحمد توفيق المدني:.. جاءنا عبد الحميد يوماً إلى النادي، وكنا جماعة ننتظر رجوعه من الولاية العامة، فقال: اليوم أدركت السر في أن محمداً صلى الله عليه وسلم نشأ وعاش يتيماً. فلقد وقفت اليوم أمام والدي محمد المصطفى بن باديس، وهو يجلس إلى جانب ميرانت مدير الأمور الأهلية، موقفاً أرجو أن يحتسبه الله لي يوم القيامة. فلقد ابتدرني ميرانت بحديث حلو العبارة مرّ المذاق، وقال لي: يا شيخ، اتركْ عنك هذا العار، اخرجْ من هذه الحشومة، ودع هذه الجماعة المسكينة التي جمعها عدو فرنسا بالنادي فليس هؤلاء الرجال رجالك، وليست هذه الحثالة من الطلبة ممن يفتخر العالم بالانتساب لهم، أو أن يكون رئيساً عليهم، قال: واستمر على هذا المنوال ودمي يفور، وشعوري الجريح يتأجج كأنه نار، وحاولت أن أرد الصاع صاعين، وإذا بوالدي وهو كل شيء عندي بالنسبة للحياة الدنيا، يقف أمامي ويبكي ويقول: يا عبد الحميد يا ولدي، ربيتك صغيراً وعلمتك يافعاً وفتحت أمامك أبواب الحياة الهنيئة حتى غدوت عالماً تشد إليك الرحال، فلا تفضحني اليوم يا عبد الحميد في شيبتي، لا تشمت بي الأعداء، لا تتركني للمذلة والهوان، هذا حبيبنا مسيو ميرانت لا يريد لنا إلا الخير، وقد مهد لي سبل الوصول إلى المركز الذي أنا فيه، وإن الإعراض عنه هو إعراض عني أنا، والإساءة إليه هي إساءة لي، ورفضُ طلبه رفضٌ لطلبي، وقد أمر الله بطاعة الوالدين، فأنا امرك بالتخلي عن هذه الرئاسة وعن هذه الجمعية، قال: ثم انحنى أمامي وأنا أذوب، وأكبّ على رجلي يقبلها ويبكي، ويقول: لا تفضحني يا عبد الحميد.
قال: فانتصبت واقفاً، وأنا أرتعد تأثراً لا رفقاً، وتوجهت لوالدي وقلت: حاشا أن أعصي لك أمراً أو أن أخالف لك رأياً، وأنا ابنك المطيع إلا أن هذا الذي تدعوني إليه ليس في استطاعتي إطلاقاً، لأنني إن أطعتك فيه خالفت أمر الله، وأمر الله فوق أمر الوالد بنص القران، ولقد وقف محمد عليه الصلاة والسلام مثل هذا الموقف أمام أكابر قومه ووجوه عشيرته، فراودوه على أن يترك الدعوة لله وله ما يشاء مقابل ذلك من مال ومتاع، فأجابهم الجواب القاطع الصارم: والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته إلى أن ينصره الله أو أقضي دونه. هذه هي كلمتي الأخيرة يا والدي، ويا مسيو ميرانت، وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وخرجت لا ألوي على شيء.
قال له علاّمتنا العظيم البشير الإبراهيمي على الفور: طوبى لك يا عبد الحميد وحسن ماب، وقمنا إليه فهنأناه وذرفنا الدموع جميعاً، فلقد اعتبرنا انتصارنا في تلك المعركة مقدمة لانتصارات باهرة في معارك أخرى آتية.
3 ـ شجاعته وصرامته في الحق:
ومن صفاته البارزة رباطة الجأش والشجاعة، وليس أدل على الشجاعة من وقوفه في وجه الاستعمار منذ بدأ التدريس في الجامع الأخضر، وليست الشجاعة فيما يظن البعض النقد العنيف للمحتل أو إلقاء الخطب الرنانة، بل كانت شجاعته من النوع المثمر، حيث العمل الدؤوب المتواصل لنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة، وظهرت شجاعته في مواقفه من أتباع الطرق الصوفية وانحرافاتهم العقدية والفكرية، مع علمه بأن السلطات الفرنسية كانت تقف خلفهم تؤيدهم بالمال والمناصب.
وأما القصص والأحداث التي ظهرت فيها رباطة جأشه وشجاعته ؛ فمنها أن الشيخ عبد الحميد كان يركب سيارة عامة، وراه طبيب فرنسي يعرفه فأحب أن يركب الشيخ معه في سيارته الخاصة، وفي الطريق اصطدمت سيارة الطبيب الفرنسي بسيارة أخرى، فأصيب الطبيب بالرعب وصرخ صرخة ظن منها الشيخ أن روح الطبيب قد خرجت، ولم يبدُ على وجه ابن باديس أي تأثر، وعلل الشيخ ذلك بفراغ قلبه ـ الفرنسي ـ من الإيمان لأن الإيمان يحفظ على المؤمن ثباته واطمئنانه عندما تحل به الملمات.
وإذا ذكرنا شجاعته فلابد من ذكر موقفه حين كان في وفد المؤتمر الإسلامي الذي قابل رئيس الوزراء دلاديبه، فتحدث المسؤول الفرنسي إلى الوفد مهدداً بقوة فرنسا، واشتد النقاش مرة بين رجال الوفد وبين رئيس الحكومة إلى درجة أنه احتد وجابه الوفد بقوله: لا تنسوا أيها السادة أن فرنسا معها المدافع، فوجم القوم إلا ابن باديس الذي ما كاد يسمع ذلك القول بواسطة الترجمان حتى جابه رئيس الحكومة أن الجزائر معها الله، وانتقل الوجوم من الوفد إلى الرئيس.
وبالفعل كان فرنسا معها المدافع، والجزائر معها الله، واستمر اغترار فرنسا بالمدافع واستمر اعتزاز الجزائر بعون الله، وتغيرت الأحوال وتقلبت السياسة إلى أن نفخ الجزائريون الأبطال في صُور الثورة العارمة، يوم فاتح نوفمبر المجيد اقتحموا الميادين باسم الله وقابلتهم فرنسا الاستعمارية بالمدافع فما أغنى ذلك شيئاً، ونصر الله، بفضل الشهداء والتضحية، الذين قاموا باسمه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد : 7].
كان آخر موقف علني وقفه ابن باديس العظيم، والأزمة العالمية خانقة تهدد العالم بشر وبيل، هو ردّه ضمن مجلس جمعية العلماء على من قال: يجب علينا أن نوجه برقية تأييد لحكومة فرنسا، إننا بذلك نأمل غائلة أعمالها ضدنا إذا ما اشتعلت نار الحرب، ونضمن كذلك مراعاتها لحقوقنا إذا ما خرجت من الحرب منتصرة، أجابه ابن باديس على الفور ـ وأيده كل الأعضاء ـ قائلاً: كلا لن نرسل لحكومة فرنسا أي تأييد، إنها حطمتنا وأذلتنا ساعة رخائها، فلا يجب أن نمد لها يداً أي يد، ساعة عسرها، طالبنا مراراً وتكراراً، فكانت تصم اذانها وتتجنى، ونحن اليوم نصمّ اذاننا عنها ونتجنّى. وانسحب صاحب الاقتراح من الجمعية.
كان ابن باديس كثيراً ما يردد هذا البيت:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وكذلك عندما يتحدث إلى تلاميذه حديثاً فأحيانا يستخدم فيه اللحن والإشارة:
ولقد لحنت لكم كيما تفهموا واللحن تفهمه ذوو الألباب
4 ـ الحلم والتسامح:
وهو من أبرز صفات الأنبياء والرسل، وقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
كذلك سار علماء السلف والخلف على هذا الهدي في الحلم والتسامح، فكانوا خير من حمل إلينا هذه الأخلاق العالية والصفات السامية، عن عطاء بن يسار قال: ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم.
وللإمام ابن باديس رحمه الله سجل حافل، وتاريخ زاخر بهذه المعاني الإسلامية السامية، فقد توفرت في شخص الإمام صفات العالم الذي يخاطب عقول المسلمين وقلوبهم، صائغاً إليهم هذا الدين في أحسن صورة لذلك كان موضع سخط السلطات الاستعمارية وأعوانها.
يُروى أن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة التي ضاقت ذرعاً بمواقف ابن باديس، أوعزت ـ بتنسيق مع سلطات الاحتلال ـ إلى نفر من أتباعها باغتيال الشيخ عبد الحميد ظناً منها أن في إغتياله قضاء على دعوته، غير أن الغادر الذي هم بهذه الجريمة لم يفلح في تنفيذها ووقع في قبضة أعوان الشيخ، وكانوا قادرين على الفتك به إلا أن أخلاق الإمام العالية جعلته يعفّ ويعفو ويحلم ويسامح، وينهي أصحابه عن الفتك به متمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
5 ـ التواضع:
من صفاته ـ رحمه الله ـ تواضعه، فقد كان أليفاً مألوفاً، وقد برزت صفة التواضع في حياته العلمية فيقول أحد زملائه: إنه كان في زيارة لوهران، وعرضت قضية من القضايا فقال فيها بغير القول المشهور، ولما عاد إلى قسنطينة واستشار مَراجعه ؛ تبين له أنه لم يكن على صواب، فكتب في الشهاب: إنني كنت مع فلان وفلان وتكلمنا في قضية ما، والحق ما قاله فلان وهو القول المشهور، ويقول الشيخ حمزة بو كوشة ـ راوي هذه القصة ـ سألته لماذا كتبت في الجريدة وقد كان يكفيك لو بعثت رسالة إلى الشخص الذي اختلفت معه؟ فقال رحمه الله: أردت أن يكون لكم درساً في الرجوع إلى الحق. وأضاف: تركت لكم مثلاً أنه إذا كان الإنسان عالماً يجب عليه أن يعيش للعلم. ومثال آخر على تواضعه أن أحد معاصريه قال: لم أستطع طوال عمري أن أسبقه بالسلام.
وابن باديس في هذه الوقفات الصادقة وهذا الوضوح في المنهج ؛ ينطلق من قناعته العميقة بأهمية القدوة الحسنة في حياة الدعاة وهو ما يجعل الناس يشعرون بصدق الداعي، ومن ثمة يتقبلون دعوة الله ويكونون من جنودها وأنصارها.
6 ـ الزهد:
كان ابن باديس عفيفاً زاهداً في الدنيا، تجلى هذا في مواقف كثيرة منها أنه كان يعمل رئيساً لجمعية التربية والتعليم في قسنطينة، ولكنه لم يكن يتقاضى أي مبلغ من صندوق الطلبة على عمله، بل كان يكتفي بما يحصل عليه من اشتراكات الجريدة.
أما زهده فقد تمثل في انتقاله من بيت والده إلى غرفة بجوار مسجد قموش، وكان طعامه قليلاً لا يزيد على الكسرة واللبن وفنجان أو فنجانين من القهوة يومياً، حيث لم يكن يكثر من شرب الشاي أو القهوة. وكان رحمه الله أذا دعي إلى طعام اشترط الاقتصار على صنف واحد من الطعام، وكان يسأل عن الكسكسي «الطعام أو النعمة» فإن وجد لم يأكل غيره. وجميل ما وصفه به باحث فرنسي بأنه: كان لديه فقر مبتغى مستلهم من القرآن الكريم الذي يحذّر الذين يكنزون الأموال.
ويُروى أنه خرج من مقصورته بجامع سيدي قموش بقسنطينة ذات يوم، فطلب من أحد أصدقائه أن يبحث له عمن يشتري له نصف لتر من اللبن، وأعطاه انية فراها ذلك الصديق فرصة لإكرام الشيخ، فيذهب بنفسه إلى الشوّاء واشترى له صحناً من اللحم الممتاز، وعاد إلى الشيخ وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ولما قدمها إليه استشاط غضباً وقال له في لهجة شديدة صارمة: ألا تعلم أنني ابن مصطفى بن باديس. وأن أنواعاً مختلفة من الطعام اللذيذ تُعدّ كل يوم في بيته، لو أردت التمتع بالطعام ولكن ضميري لا يسمح بذلك وطلبتي يسبغون الخبز بالزيت وقد يأكله بعضهم بالماء.
ويمكن أن نستنتج من هذا الموقف:
ـ أن الشيخ ابن باديس كان عالماً ربانياً، وعازفاً عن الدنيا وملذاتها متواضعاً لله تواضع العلماء العارفين.
ـ أن المهمة التي انتصب إليها وهي تربية الجيل وتعليمه قد غلبت على نفسه وهيمنت على قلبه، فتفرغ لها تفرغاً زهّده في الملذات التي يطلبها الناس، والمتع التي يفرط في السعي وراءها الكبار والصغار.
7 ـ الجدية وحسن استغلال الوقت:
تميز ابن باديس بالجدية وحسن استغلاله للوقت، فهو منظم في عمله، دقيق في توزيع وقته على المهام العديدة التي يقوم بها، فقد كان مدركاً لقيمة الوقت، وضرورة استغلاله والاستفادة من لحظاته وتظهر نظرته هذه واضحة في سياق تفسيره لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا *} [الإسراء : 78].
فيقول: في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا لنربط أمورنا بالأوقات ونجعل لكل عمل وقته وبذلك ينضبط للإنسان أمر حياته، وتطّرد أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير منها، أما إذا ترك أعماله مهملة غير مرتبطة بوقت فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره ويشوش باله ولايأتي إلابالعمل القليل، ويحرم لذة العمل، وإذا حُرم لذة العمل أصابه الكسل والضجر، فقلّ سعيه وما كان يأتي به من عمل على قلته وتشوّشه بعيد عن أي إتقان.
وليس عجيباً أن يهتم مصلح مثل ابن باديس بالوقت هذا الاهتمام الكبير ؛ وهو الذي يقول عند تعليقه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.
عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد، فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها، فالرشيد هو من أحسن استعمال ذلك الكنز الثمين، فعمّر وقته بالأعمال، والسفيه من أساء التصرف فيه فأخلى وقته من العمل.
بهذه النظرة الصائبة للوقت، نجح ابن باديس في استغلاله أحسن استغلال، فكان يلقي من الدروس في اليوم الواحد ما يعجز عنه غيره، يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة نهاره يُعلّم طلبته الدين وعلوم العربية ولا يقطع دروسه إلا لصلاة الظهر ولتناول الغداء، ثم يستمر إلى ما بعد صلاة العشاء. وكان رحمه الله مع أخذه بكل ما يستطيع من الأسباب في تأدية رسالته، يلتجأئ إلى الله بثقة لا توهب إلا لأولي العزم من الرجال، ففي إحدى ساعات الشدة والعُسرة قال لأحد طلبته: يا بُنيّ إن جميع الأبواب يمكن أن تُغلق أمامنا ولكن باباً واحداً لن يُغلق أبداً وهو باب السماء.
فمن أهم صفات ابن باديس رحمه الله أنه يهتم بوقته، وقد علّمنا الإسلام المحافظة على الوقت حين جعلَ يوم المسلم منظماً، فالصلاة لها أوقات محدودة يجب أن تؤدى في وقتها عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا *} [النساء : 103].
وإن المسلم يُسأل يوم القيامة عن عمره وعن شبابه كما حدّث بذلك الصادق المصدوق في قوله: لا تزال قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن ثلاث.. وكان أحدها عن عمره فيما أفناه.
لقد تميز ابن باديس في حياته كلها بإحترام الوقت والنظام، فكان رحمه الله رجل علم ونظام يحافظ على أوقاته، فكان برنامجه اليومي مما يصعب على الكثير أن يقوم به، وسيأتي تفصيله بإذن الله تعالى وبالإضافة إلى اشتغاله بالتعليم فقد ساهم مساهمة كبيرة في إنشاء المدارس والمؤسسات الخيرية وجمعيات التجار وجمعيات الكشافة والجمعيات الرياضية والفنية وكثير غيرها مما سيرد ذكره في حينه إن شاء الله.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: