الأحد

1447-06-02

|

2025-11-23

من أسباب هلاك الحضارة الإنسانية الأولى .. سنة الهلاك والخسران

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

إنَّ الله سبحانه وتعالى قضى بجعل الحساب والجزاء يوم القيامة، لكن جرت سنته بالفصل بين أهل الحق وأهل الباطل في الدنيا لحكمة ربانية عليا، وذلك بإهلاك الظالمين وإنجاء المؤمنين في الصراع الدائر بين الرسل عليهم السلام وأعدائهم، وفي هذا الصراع دارت الدائرة وفق سنة الله على أهل الشقاوة، فمنهم من أغرقه الله بالطوفان، ومنهم من أرسل عليه الريح العقيم، ومنهم من أخمدته الصيحة، ومنهم من أخذته الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ومنهم من مسخوا فغدوا قردة وخنازير على أن الهلاك الذي حل بأولئك الظالمين إنما هو خزي لهم في الدنيا ونصرة للمؤمنين وعبرة لمن يجيء بعدهم من الأمم ليتعظوا بمصائر الغابرين، ويبتعدوا عن سبل الشيطان التي كانت سبباً في إهلاك القرون الخالية المحادّة لله ورسوله.

وقد ورد لفظ "الهلاك" في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة حسب موقعه في السياق كالموت مطلقاً والفساد، وافتقاد الشيء والعذاب (1)، والمعنى الأخير هو الأكثر استعمالاً في القرآن الكريم وله صلة بموضوعنا.

أما الهلاك في الاصطلاح القرآني فهو: ما ينزله الله تعالى بأعدائه من العذاب المستأصل المبيد، وقد ورد هذا بكثرة في حديث الكتاب العزيز عن مصير الأمم الغابرة التي انحرفت عن جادة الصراط المستقيم وجحدت أوامر الله عز وجل وآذت رسله.

ومن أصناف الهلاك الذي حل بقوم نوح الغرق، فكان عقاباً وهلاكاً عليهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 14]، والطوفان من كل شيء: ما كان كثيراً مطيفاً بالجماعة، (2) لكنه صار متعارفاً عليه في الماء المغرق المتناهي في الكثرة سواءً كان مطراً أو سيلاً (3)، وقوم نوح هم أول الأمم الهالكة التي وردت قصتها في القرآن الكريم لقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 17]، ويُفهم من هذه الآية الكريمة أن الهلاك بدأ بقوم نوح، ثم استمر إلى الفترة ما قبل البعثة النبوية، حيث كان هلاك أصحاب الفيل، وكان قوم نوح سكان الأرض في تلك الحقبة الزمنية البعيدة في أغوار التاريخ قبل انتشار الناس لقرب العهد من آدم أبي البشر عليه السلام (4).

وقد تحققت أيضاً سنة الخسران في قوم نوح، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الزمر: 63]، فمن سنة الله أن الكافرين لا يفلحون، وأنهم خاسرون، وهي سنة نافذة لا تتخلف، كما أن الفلاح للمؤمنين طرد من الناموس الكبير (5)، فكل ما كان يرى على قوم نوح من نعمة ومتاع وقوة وسلطان عند الملأ، لم يكن ذلك فلاحاً في ميزان القيم الحقيقية، وإنما كان استدراجاً، انتهى بالويل والخسران والطوفان العظيم.

لقد خسر قوم نوح الإدراك والبصيرة فضاعوا في صحاري الشبهات وبحار الشهوات ووديان الضلال، ومضت فيهم سنة الخسران ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

لقد كان من أسباب هلاك قوم نوح ومضيّ سنة الله فيهم، غفلتهم عن أسباب الهلاك، فلم ينتبهوا إلى خطورتها، بل مارسوها على مستوى الأفراد والمجتمع. وإنَّ القرآن الكريم في قصة نوح عليه السلام وجه الأنظار إلى الاعتبار بأحوالهم، وهي مليئة بالدروس والعبر والفوائد والسنن وقوانين الله في حركة الشعوب وزوال الحضارات.

هذه بعض الأسباب التي وصلنا إليها من خلال البحث والدراسات في معرفة عوامل هلاك الحضارة الإنسانية الأولى، واللافت للنظر أن مقومات حضارة جديدة برزت من خلال محنة نوح ساهمت في انطلاقها بعد هبوط السفينة على الجودي، وقد بدأت: باسم الله، والحمد لله على النجاة من القوم الظالمين، والدعاء لله بأن ينزلهم منزلاً مباركاً والله خير المنزلين، وكانت بذور تلك الحضارة متوفرة في سفينة نوح عليه السلام من الإنسان والحيوان والطيور والنباتات، مع القيم الروحية والمبادئ الأخلاقية، والتطورات الفكرية عن الله والحياة والكون والوجود والجنة والنار والقضاء والقدر وغيرها من خلال وحي الله عز وجل لنوح عليه السلام.

 

المصادر والمراجع:

1. الحسين بن محمد الدامغاني، إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط4 1983م، ص 477.

2. الطاهر أحمد الزاوي، مختار القاموس، ص 393.

3. ابن منظور، لسان العرب، 2/627.

4. محمد أمحزون، السنن الاجتماعية في القرآن الكريم وعملها في الأمم والدول، 3/579.

5. السيد قطب، في ظلال القرآن، 4/2483.

6. علي محمد الصلابي، نوح والطوفان العظيم، دار ابن كثير.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022