الأحد

1447-06-02

|

2025-11-23

من أسباب هلاك الحضارة الإنسانية الأولى .. نسيان الآخرة وارتكاب الذنوب والمعاصي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

اشتغل قوم نوح بأمور الدنيا وأصابهم الغرور بها، ونسوا الآخرة، وفرحوا بالأموال والأولاد والمتاع الزائل، وغاب عنهم الاستعداد ليوم الرحيل، وتطاولوا على اهل الإيمان، ووقعوا في سنة الاستدراج الرباني، فكثرت أموالهم وأولادهم وأبطرتهم هذه النعم الكثيرة وتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 44، 45].

والتعبير القرآني:﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، يصور الأرزاق والخيرات والمتاع، والسلطان، متدفقاً كالسيول، بلا حواجز ولا قيود، وهي مقبلة عليهم بلا حواجز ولا كَدّ ولا حتى محاولة، إنه مشهد عجيب، يرسم حالة في حركة، على طريقة التصوير القرآني العجيب.

- ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾، وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها ـــ بلا شكر ولا ذكر ـــ وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة، كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل (1).

- ﴿ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾: فكان أخذهم على غرة، وهم في سهوة وسكرة فإذا هم حائرون منقطعوا الرجاء في النجاة، عاجزون في التفكير في أي اتجاه وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم.

- ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾؛ دابر القوم: هو آخر واحد منهم، يدبرهم أي: يجيء على أدبارهم، فإذا قُطع هذا فأولئك أولى، و"الذين ظلموا " تعني: الذين أشركوا، والشرك من أنواع الظلم، وهو أعظمهم.

- ﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: تعقيب على استئصال الظالمين بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين، وهل يحمد الله على نعمةٍ أجلّ من نعمة تطهير الأرض من الظالمين، أو على رحمة أجل من رحمته بعباده بهذا التطهير؟

لقد أخذ الله تعالى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه السنة، ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها، ذلك السر المغيب من القدر الظاهر في سننه، وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف (2).

ومن أسباب العقاب الإلهي لقوم نوح وقوعهم في المعاصي وارتكابهم الذنوب والخطايا، والذنوب والخطايا تعم جميع أسباب هلاك الأمم السابقة، لأن كل مخالفة لأمر الله، ذنب يعاقب الله عليه، وإذا تجمعت الخطايا والذنوب على أمة فإن هذه الأمة تعاقب ويحل بها الهلاك (3). قال تعالى في سورة نوح عن دعائه: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا * مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ [نوح:24،25].

- ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾: ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد طويلاً وعانى كثيراً وانتهى بعد كل وسيلة إلى الاقتناع بأن لا خير في القلوب الظالمة الباغية العاتية، وعلم أنها لا تستحق الهدى وتستأهل النجاة.

وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح عليه السلام يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة، فأمر الآخرة كأمر الدنيا، ماضٍ بالقياس إلى علم الله، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه.

- ﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾: فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً، والتعقيب بالفاء مقصود هنا، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم، والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود؛ لأنه في موازين الله لا يحسب شيئاً، فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم في النار (4).

إنَّ الذنوب سبب للانتقام وزوال النعم (5)، فهي تعزل الأمم عن مصدر القوة الحقيقية، وتستعدي عليهم قوى الإيمان ومعها قوة الله (6)، وهذه سنة الله أن يأخذ الأمم بالذنوب (7)،كما قال تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 11]. وإنَّ من أسباب سقوط وهلاك الحضارة الإنسانية الأولى ظهور المعاصي وارتكاب الخطايا والانغماس في الذنوب. قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [الأنعام 6].

 

المصادر والمراجع:

1. السيد قطب، ظلال القرآن، 2/1090.

2. السيد قطب، ظلال القرآن، 2/1091.

3. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، 2/337.

4. السيد قطب، ظلال القرآن، 6/3716.

5. محمد رشيد رضا، تفسير المنار (تفسير القرآن الكريم)، 7/308 - 309.

6. شريف الشيخ صالح أحمد الخطيب، السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، 2/338.

7. الخطيب، المرجع السابق، 2/338.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022