قـيـمـة العـدل
مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (5)
العدل قيمة مطلقة ربانية، غرس الله محبتها في نفوس أصحاب الفطر السوية، والعقول الراجحة الذكية؛ التي تنبذ الظلم والجور والتعنيف، وهو بهذا له معنى محدود غير قابل للتبديل أو التعديل، وله أيضاً قواعد وشروط محدودة، أي: العدل يمثل نموذجاً مطلقاً محدداً سلفاً، ومطلوب من الإنسان السعي حتى يقترب من هذا النموذج، من الرغم من أنه لن يبلغه بالكامل، ولكن القيم النسبية لها معنى نسبي، وهذا المعنى بشري، وهي قابلة للتغيير والتبديل والقيمة النسبية البشرية، هي مجرد معيار يحدد الحد الأدنى الممكن؛ لهذا سنجد معظم القيم النسبية تتحول إلى إجراءات وضمانات، أي: إنها معايير يلتزم بها النظام السياسي؛ مما يؤدي إلى تحقيق قدر معقول من القيمة.
وإذا أخذنا قيمة العدل في الدولة الحديثة المسلمة؛ فهي تعني تحقيق العدل بين الناس جميعاً في مختلف أوجه الحياة، وهي بهذا قيمة تهدف إلى تحقيق غاية، أي: تحقيق العدل بالفعل بين الناس، ولكن في المقابل سنجد أن قيمة العدل في المنظومة الغربية، وهي ليست القيمة الأولى في النظام السياسي الليبرالي، تأخذ معنى مختلفاً، فهي تتحول إلى عدالة الفرص، وعدالة الإجراءات، وعدالة المعايير، وعدالة اللوائح. أي: إن العدالة في المنظومة الغربية عدالة إجرائية، وهذه العدالة الإجرائية تمثل العمليات الممكنة للحفاظ على العدل بين الناس، ولكن هذا العدل قد يتحقق، وقد لا يتحقق، ولأن القيمة نسبية؛ لذا يكفي أن يتبع النظام السياسي الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة حتى وإن لم تتحقق، كما يكفي أن يلزم القانون كل الأطراف بالإجراءات العادلة، حتى وإن لم يتحقق العدل على أرض الواقع، ولأن العدل قيمة نسبية، ولها مفهوم بشري في المنظومة الغربية؛ لذا فإن تحقق العدل بصورة قريبة من الكمال غير وارد أصلاً، وغالباً ما يُعتبر تفكيراً غير عملي وغير واقعي، فالكمال في المفهوم البشري النسبي لا يوجد أصلاً، ولكن الكمال في المفهوم الإسلامي الرباني يوجد، وعلى الإنسان محاولة تحقيقه، وإن كان لم يبلغه بلوغاً نهائياً؛ لذا يمكننا القول بأن العدالة الإجرائية تختلف عن هدف تحقيق العدل بوصفه قيمة مطلقة في المنظومة الإسلامية. صحيح أن عدالة الإجراءات مطلوبة في كل الآنظمة، ولكنها قد تكون الهدف في بعض الآنظمة، وقد تكون وسيلة في أنظمة أخرى نقصد من هذا أن النظام الليبرالي يحاسب إذا اتخذ إجراء غير عادل، ولكنه لا يحاسب لأن العدل لم يتحقق على أرض الواقع، أما النظام الإسلامي فيحاسب إذا لم يتحقق على أرض الواقع، حتى وإن كان كل ما اتخذه النظام من إجراءات تم بصورة عادلة.
لهذا نتصور أهمية تعريف النظرية السياسية التي تستند على المرجعية الإسلامية بأنها تمثل رؤية لإقامة العدل، من خلال نظام سياسي مكلف بإقامة العدل بجانب تكليفاته الأخرى؛ مما يجعل الدولة وكل السلطات في النظام السياسي مكلفة بإقامة العدل كقيمة سياسية مركزية، فإذا أخفق النظام السياسي في تحقيق العدل، أو إذا أصبح نظاماً ظالماً، فقد بهذا شرعية وجوده، وشرعية حكمه للأمة الإسلامية، أو لأي مجتمع من مجتمعاتها، فقيمة العدل هي غاية تكسب الشرعية للنظام السياسي، وتنزعها عنه.
ومن قيمة العدل، يتضح لنا الفروق الكثيرة بين نظام سياسي إسلامي عن غيره من النظم؛ لأن تحقيق العدل يمثل تحدياً أمام البشرية، وأمام التاريخ البشري كله؛ لذا تعد قيمة العدل بوصفها القيمة المركزية في المنظومة السياسية الإسلامية بمثابة الضابط الأكبر على أداء النظام السياسي، وعلى كل السلطات فيه، وهي بهذا تفرض قاعدة لمحاسبة النظام السياسي، وإسقاط شرعيته؛ مما يستلزم تأسيساً للإجراءات التي تسمح بمحاسبة الحاكم، وأيضاً مراجعة ممثلي المجتمع أو الأمة حتى يظل التزامهم بقيمة العدل مستمراً، وحتى يعزل من يخرج على القيمة المركزية، والقرآن الكريم هو الذي أنبت جذور العدل في القلوب، ورعاها، وأوجد في الأرواح فكرة العدل في الأمة الإسلامية، سواء في الجانب الفكري أو الفلسفي أو الجانب العملي والاجتماعي، إن القرآن الكريم هو الذي طرح مسألتي العدل والظلم بمظاهرهما المتعددة. العدل التكويني، العدل التشريعي، العدل الأخلاقي، والعدل الاجتماعي.
إن قيمة العدل في الإسلام شاملة لكل ميادين الحياة كقيمة عليا، وأساس للتعامل في المجتمع الإسلامي في مختلف أوجه التعامل والعلاقات، وكونه قوام الدولة، ونظام الحكم فيها، وأساس ولاية القضاء، وولاية المال العام وغيرها من الولآيات، وهذه النظرة الشمولية لقضية العدل في التصور الإسلامي تتجاوز نطاق العالم إلى الكون كله، ويرى أن ظلم الإنسان لا يقتصر على حرمانه من المتطلبات البيولوجية فحسب، بل يتجاوز إلى مظالم وصور أصعب وأشد تعقيداً، وفي مقدمتها مصادرة حريته، وكبت تعبيره عن الذات، والوقوف في وجه طموحاته المشروعة، وسحق اماله، وإخراجه عن موقفه الصحيح في الخارطة الكونية، وإن المبادئ العادلة هي التي تستجيب لحاجات الناس المشروعة، وليس لأهدافهم فحسب.
مراجع الحلقة:
- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 18-21.
- الوسطية الحضارية، د. رفيق حبيب ، ص: 183.
- العدالة مفهومها ومنطلقاتها، د. أبو بكر علي، ص: 134.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: