من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
دليل تطبيقيٌّ لملامح الوسطيَّة
الحلقة: العشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
بعد أن اتَّضحت ملامح الوسطيَّة سأذكر دليلاً عمليّاً تبرز فيه جميع هذه الملامح؛ حيث يمثل أعلى درجات الوسطيَّة: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيِّ (ص) يسألون عن عبادته، فلمَّا أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي (ص) وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا؛ فأصلي الليل أبداً! وقال اخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر! وقال اخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله (ص) فقال: «إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني أصوم، وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني!».
وسأذكر ملامح الوسطيَّة من هذا الحديث:
أولاً: الخيرية
وهذا يتَّضح من قوله (ص): «إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له» ثمَّ يبين: أنه يأخذ بالوسطيَّة: فيصوم، ويفطر، ويصلي، وينام، ويتزوج النساء، فلولا أنَّ هذا العمل لا يعارض الخشية، والتقوى، بل يطَّرد معهما؛ لم يذكرهما في هذا المقام، واستخدم أفعل التفضيل «أخشاكم، وأتقاكم» وهي أعلى درجات الخيرية.
فاتضح: أنَّ هذه الوسطيَّة التي يرشدنا إليها رسول الله (ص) تمثل الخشية، والتقوى. وهذه هي الخيرية في أفضل صورها.
ثانياً: الاستقامة
وتظهر هذه الحقيقة في قوله (ص): «فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني» إذاً فالاستقامة هي بأن يصوم، ويفطر، ويصلي، ويرقد، ويتزوج النساء، والخروج عنها انحرافٌ عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يُمَثِّل الوسطية، لا نقول: إنَّه لا يعارض الاستقامة، بل هو الاستقامة بعينها؛ حيث جعله الرسول (ص) من سنَّته، وهل الاستقامة إلا الاتزام بسنَّته، والأخذ بها؟!
ثالثاً: اليسر ورفع الحرج
وهذا أمرٌ جليٌّ، وبيِّنٌ، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث: تبتُّلٌ، وامتناعٌ عن النساء، والزواج مع ما في ذلك من مشقَّةٍ، وحرجٍ، ويقابله تزوج النساء مع ما في ذلك من قضاء الوطر، والمودَّة، والرحمة، وإنجاب الأولاد.
الأول: يمثل الانحراف عن سنة النبي (ص) مع ما فيه من مشقة، والثاني يمثل الوسطية مع ما فيها من تخفيف، وتسير، ورحمة، ورفع الحرج. وقل مثل ذلك في الصيام، والقيام.
إذاً: فالوسطيَّة في اليسر ورفع الحرج، وليس في التكلُّف، والمشقَّة، والعنت.
رابعاً: الحكمة
فإنه بالنظر إلى قدرة النفس، ومدى تحمُّلها، وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس، والاندفاع جاء الرسول (ص) يضع الأمور في مواضعها، ويجعلها في مسارها الطبيعي، فإنَّ أحبَّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، ولو التزم هؤلاء الرجال بما قالوا؛ لتعبوا عاجلاً، أو اجلاً، ثم إن هذا الفعل نفسه مخالفةٌ لصريح الحكمة، وحقيقتها، وذلك: أنَّ الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول، والعمل، وهذا هو عين ما وجه إليه الرَّسول (ص).
خامساً: العدل
وتبرز صفة العدل بالنظر إلى مطالب النفس، وواجبات العبادة، فقد جعل لكلٍّ منها نصيباً، فعدل بين حق الربِّ، وحق النفس، ولم يكن في ذلك حيفٌ، وشطط، وحاشاه من ذلك!
سادساً: البينية
والأمثلة تبرهن على ذلك:
1 ـ الامتناع عن الزواج مطلقاً إفراطٌ، ويقابله التفريط، وهو اتِّباع الشهوات دون وازعٍ، أو قيد، وبينهما قضاء الشهوة، والوطر، ولكن ضمن الضوابط الشرعية، ويتمثَّل في الزواج، وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
2 ـ الصيام الدَّائم إفراط.
الإفطار الدَّائم تفريط.
الصيام أحياناً، والفطر أحياناً وسطٌ بين الأمرين، وهو المشروع في ضوابطه الشرعية.
3 ـ القيام مطلقاً إفراط.
النوم مطلقاً تفريط.
القيام والنوم حسب الطاقة، ودون تكلُّفٍ وسطٌ، وهذا هو المشروع.
ومن خلال هذا التطبيق العمليِّ لملامح الوسطيَّة في ضوء هذا الحديث يتضح المراد، وهو مما يساعد على فهم الوسطيَّة.
من يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي