من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(التعريف بالمنهج في اللغة والاصطلاح)
الحلقة: الثانية والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
أ ـ معنى المنهج في اللغة:
المنهج من مادة: نهج، ينهج نهجاً، وهو الطريق البيِّن الواضح، ويطلق على الطريق المستقيم، والمنهج، والمنهاج، والنهج بمعنىً واحد. وفي التنزيل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: سبيلاً، وسنَّةً وهو مرويٌّ عن مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وغيرهم، وروي عن ابن عباس: سنَّة، وسبيلاً، ورجَّح ابن كثير رحمه الله التفسير الأول ؛ لظهوره في المعنى، ومناسبته.
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: (والمنهاج: السبيل؛ أي الطريق الواضح)وتفسير ابن عباس الأول هو المختار.
ب ـ معنى المنهج في الاصطلاح:
المنهج هو الطريق المؤدِّي إلى التعريف على الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة، والتي تهيمن على سير العقل، وتحدِّد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة.
وهو بعبارة أوجز: هو القانون، أو القاعدة التي تحكم أيَّ محاولة للدراسة العلمية، وفي أيِّ مجال، ومن ثم تختلف المناهج باختلاف العلوم التي تبحث فيها، فلكل علم منهج يناسبه، ومع وجود حدٍّ مشترك بين المناهج المختلفة، وقد تتعاون ـ وهو الغالب ـ مجموعة من المناهج لخدمة، ومعالجة فنٍّ واحد.
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطيَّة:
إنَّ أمَّ الكتاب تقرر منهج الوسطيَّة من أولها إلى اخرها، وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}[الفاتحة: 6] وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك: أنها بينت: أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم. قال الطبريُّ ـ رحمه الله ـ: أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أنَّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول الشاعر:
أميرُ المؤمنين على صِراطٍ إذا اعوجَّ الموارِدُ مستقيم
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} يقول: ألهمنا الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج له ثم قال: وكلُّ حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم هو ضالٌّ عند العرب لإضلاله وجه الطريق.
وقد بين الله لنا: أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ*} [الفاتحة: 7]. ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضَّالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوِّ، والجفاء.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: (غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقَّ، وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق).
وبهذا يتبيَّن لنا: أن هناك ثلاثة طرق: طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم ؛ لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهجٌ وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود، والنصارى، وكلُّ طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين ؛ ولأن الاستقامة تعني الوسطيَّة ـ كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضحت ذلك في ملامح الوسطيَّة ـ جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة، وألفاظ متقاربة، وهي تدور بين الخبر، والإنشاء. ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرر: أنَّ طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط فإنَّ كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطيَّة، والدَّعوة إليها، والايات في هذا الباب كثيرة جدّاً، أذكر بعضاً منها دلالة على المراد، وبياناً لهذا المنهج:
قال سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا } [هود: 112] وقال: { فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}[الشورى: 15] فقال تعالى: { وَلَا تَطْغَوْا } بعد أن أمر بالاستقامة. والطغيان وهو مجاوزة الحد، وهو خروج عن منهج الوسطية إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال سبحانه: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} واتِّباع الهوى خروج عن الاستقامة ، وانحراف عن منهج الوسط. وتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [البقرة: 142] وفي آل عمران: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}[آل عمران:101] وفي الأنعام: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ *} [الأنعام: 153] وفيها: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا*} [الأنعام: 161] وفي النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ
لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}[النحل:76].
وفي سورة الزخرف: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الزخرف: 43] وفي سورة الملك: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}[الملك: 22] إلى غير ذلك من الآيات؛ حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أُمرنا باتباعه، واجتناب ما عداه؛ لأنه هو طريق الحق، والعدل، والوسط، وما عداه طريق الضلال، والغواية، والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله ـ تعالى ـ في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] وصدق الله العظيم إذ يقول: { مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}[الأنعام: 39].
وفي سورة التكوير: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ *إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *}[التكوير: 26 ـ 28] وهذه الآية نصٌّ في أن القرآن كله دعوة للاستقامة، والسير على المنهج الحق، قال القرطبيُّ: {إِنْ هُوَ} يعني: القرآن{ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } أي: موعظة وزجر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *} أي: يتبع الحق، ويقيم عليه.
ومما سبق يتَّضح لنا: أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة، والمنطلق، ورسمت المنهج، وحدَّدت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقرِّرةً لذلك، وداعية له.
من يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي