الثلاثاء

1446-11-15

|

2025-5-13

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
أقوال العلماء في البَيْـنِيَّـة
الحلقة: التاسعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
 
إنَّ البينية من لوازم وصفات الوسطيَّة، وحيث ذكرت ذلك مختصراً؛ فإني أزيده هنا وضوحاً، وبياناً، فأقول: إنَّ إطلاق لفظ البينية يدل على وقوع شيء بين شيئين، أو أشياء، وقد يكون ذلك حسَّاً، ومعنى.
وعندما نقول: إن الوسطيَّة لابدَّ أن تتصف بالبينية؛ فإننا لا نعني مجرد البينية الظرفية، بل الأمر أعمق من ذلك؛ حيث إنَّ هذه الكلمة تعطي مدلولاً عمليّاً على أنَّ هذا الأمر فيه اعتدال، وتوازن، وبعد عن الغلو، والتطرف، أو الإفراط، والتفريط. وبهذا تكون البينية صفة مدح، لا مجرد ظرف عابر، ومن هذا التفسير جاءت علاقة البينية بالوسطيَّة، وقد رأيت جمهوراً من العلماء ربطوا بين الوسطيَّة، والبينية، ولا غرابة في ذلك، فإن لهذا أصلاً في اللغة، والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.
ولأهمية هذه القضية سأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث.
1 ـ الإمام الطبري، حيث قال في تفسيره: (وأنا أرى: أنَّ الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدار. وأرى: أنَّ الله ـ تعالى ذكره ـ إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه، غلوِّ النصارى الذين غلوا بالترهُّب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط، واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها).
2 ـ قال شيخ الإسلام: (فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنة والجماعةيؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أنَّ الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية، والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية، وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان، والدين بين الحرورية، والمعتزلة، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
3 ـ وقال الشيخ رشيد رضا: (إنَّ الوسط هو العدل، والخيار وذلك: أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراطٌ، والنقص عليه تفريط، وتقصير، وكلٌّ من الإفراط، والتفريط مَيْلٌ عن الجادة القويمة، فهو شرٌّ، ومذمومٌ، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر؛ أي: المتوسط بينهما).
4 ـ وقال الدكتور يوسف القرضاوي: (ونعني بها ـ أي: الوسطية) التوسط، أو التعادل بين طرفين متقابلين، أو متفاوتين؛ بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على الاخر، ويحيف عليه. ثم ذكر الأمثلة في ذلك).
5 ـ وقال الأستاذ محمد قطب في كتابه: «منهج التربية الإسلاميَّة»: إنَّ الوسطية هي التوازن، والتوازن هو العدل؛ حيث قال في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]: وسطاً في كل شيء ، متوازنين في كلِّ ما تقومون به من نشاط. ثم بيَّن: أن الوسطيَّة تعني: التوفيق بين أشياء كثيرة، كالتوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب المجموع، والتوفيق بين العمل للعاجلة، والاجلة، وهكذا.
6 ـ وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (وبالجملة: فإنَّ الله ـ العليم الحكيم) أمر بالتوسط في كل شيءٍ بين خلقين ذميمين تفريط وإفراط.
7 ـ وقال الدكتور عمر الأشقر: (ومن المعضلات التي لم ينجح المشرعون من البشر في حلِّها التطرُّف في التشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، والبعض الآخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلَّما يوفق واضعو القوانين إلى التوسط والاعتدال).
وقال في موضع اخر: (إذا نظرت إلى الشريعة الإسلامية وجدتها وسطاً في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي).
8 ـ قال عمر بهاء الدين الأميري: (وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمة أن جعل وسطيتها في كلِّ مجال: فهي موطن الرسالة الأولى، وفي ساحتها الحضارية المشعة المترامية الأطراف ـ من بعد ـ في مناخ مُحْتَمَل، وجوِّ مسعف، لا في مناطق بركانية زلزالية، ولا لاظية استوائية، ولا متجمِّدة قطبية، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنشاط والإعمار الحضاريِّ.
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهم؛ حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمة الإسلامية الأولى، فهي الوسط بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقيا، واسيا، وطرف ممتدٌّ من أوروبا، وهي الرباط البري بين الطرق المائيَّة).
ومن خلال ما سبق يتضح لنا: أنَّ صفة البينية أمرٌ أساسيٌّ في تحديد الوسطيَّة، وأنَّ هؤلاء العلماء، والكتاب اعتبروا هذا الأمر قضية مسلمة في تحديدهم، وتعريفهم للوسطية. وهذه البينية ليست مجرد الظرفية، وإنما هي التي تعطي الدلالة على التوازن، والاستقامة، والعدل، ومن ثَمَّ الخيرية، فهذه هي الوسطيَّة الحقة، وهذا الذي قرَّره علماؤنا العظام من السابقين، واللاحقين، كما بيَّنت وفصَّلت.
 
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022