في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
التصدي للحملة الصليبية البيزنطية المشتركة وحصار دمياط 565هـ
الحلقة: الرابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
أدرك الإفرنج خطورة موقفهم بعد فتح مصر ، وتولِّي صلاح الدين وزارتها ، فاتفق ملك القدس «عموري» مع إمبراطور بيزنطة على غزو مصر بأساطيلهم ، وحاصروا دمياط تنفيذاً لذلك التحالف ، وأرسل صلاح الدين قواته بقيادة خاله شهاب الدين محمود ، وابن أخيه تقي الدين عمر ، وأرسل إلى نور الدِّين يشكو ما هم فيه من المخاوف ، ويقول: إن تأخرتُ عن دمياط؛ ملكها الإفرنج ، وإن سرت إليها؛خلفني المصريُّون في أهلها بالشرِّ ، وخرجوا من طاعتي ، وساروا في أثري ، والفرنج أمامي ، فلا يبقى لنا باقية. وقد قام نور الدين بالدور المتوقع منه ، واتَّخذ القرار السليم ، فسير إلى صلاح الدين العساكر ، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشاميَّة ، وقام بشنِّ الغارات على حصون الفرنجة ، وقلاعهم ، ووصلت سراياه إلى المدى الذي لم تصله من قبل في بلادهم ليخفِّف الضَّغط عن مصر ، وفي ذلك تعزيزٌ ، ودعمٌ لصلاح الدين؛ حتَّى يتمكَّن من إحكام السيطرة على مصر؛ ليتفرَّغ بعد ذلك للمساعدة في تحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثِّل في تحرير سواحل بلاد الشام من الاحتلال الفرنجي. وقد قامت حامية دمياط بدور بطولي في الدِّفاع عن المدينة ، وألقت سلسةً ضخمةً عبر النهر، منعت وصول السفن اليونانية إليها ، وأنزل المسلمون المدافعون الخسائر بالأسطول البيزنطي اليوناني ، وهطلت أمطارٌ غزيرة حوَّلت المعسكر الصَّليبي إلى مستنقع فتهيؤوا للعودة ، وغادروا دمياط بعد حصار دام خمسين يوماً ، وعندما أبحر الأسطول البيزنطي؛ هبَّت عاصفةٌ عنيفةٌ ، لم يستطع البحارة الذي كادوا أن يهلكوا جوعاً من السيطرة على سفنهم فغرق معظمها ، ونصر الله المسلمين ، نصراً مؤزراً.
1 ـ أسباب فشل الحملة على دمياط:
يعود فشل الحملة الصليبية البيزنطية على دمياط إلى عوامل تتعلَّق بالمسلمين ، والصَّليبيين ، والبيزنطيين ، وبالجانبين: الصَّليبي ، والبيزنطي معاً.
أ ـ فيما يتعلَّق بالجانب الإسلامي يمكن رصد العوامل التالية:
ـ صمود سكان دمياط في وجه المعتدين.
ـ سرعة إمداد صلاح الدين المدينة بالمؤن ، والسلاح ، مما رفع معنويات سكانها المحاصرين.
ـ التعاون الصادق بين القوَّات الإسلامية في كلٍّ من بلاد الشام ، ومصر بهدف التصدِّي للمعتدين.
ـ القدرة القتالية للقوات الإسلامية ، وحسن تخطيطها ، وتنظيمها الدَّقيق.
ـ موقف نور الدين محمود الدَّاعم ، فقد أرسل بعوثاً كثيرةً ، يتبع بعضها بعضاً ، ثم إنَّ نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلادهم ، فعمد إليهم في جيوشٍ كثيرةٍ ، فجاس خلال ديارهم ، وغنم من أموالهم ، وقتل من رجالهم ، وسبى من نسائهم ، وأطفالهم شيئاً كثيراً ، وعندما بلغ الفرنج بدمياط ما فعله نور الدين؛ اضطروا لترك دمياط.
ـ استغلال المسلمين الجيِّد للفرص؛ التي أتيحت لهم ، فقد استغلُّوا فرصة معاناة البيزنطيين من الجوع ، فشنُّوا هجوماً عليهم جاء فعَّالاً ، كما استغلُّوا هبوب الرياح الجنوبية لإشعال النار في الأسطول البيزنطي بواسطة حرَّاقة. والأهم من هذا كلِّه توفيق الله ، وحفظه ، ومعيته ، وإنزال نصره على عباده المجاهدين.
ب ـ فيما يتعلَّق بالجانب الصَّليبي:
ـ لقد أخَّر الملك عمُّوري الأوَّل الهجوم على المدينة مدَّة ثلاثة أيام حتى يصل الأسطول البيزنطي، مما أعطى فرصةً طيبةً للمسلمين ، لتحصين المدينة ، وإمدادها بالرِّجال ، والعتاد.
ـ إحجام القوات الصليبية عن إمداد القوات البيزنطية بالمؤن عندما تعرَّضت لهجوم المسلمين؛ حيث وقفت موقف المتفرِّج.
ج ـ فيما يتعلَّق بالجانب البيزنطي فيمكن تدوين العوامل التالية:
ـ عدم استخدام القائد «كونتوستيفانوس» الأسطول البيزنطي استخداماً عسكرياً ، وبدا كأنَّه قائدٌ بريٌّ ، وليس قائداً بحرياً.
ـ اقتصر دور الأسطول البيزنطي على نقل القوَّات حتَّى ساحل دمياط.
ـ افتقر القائد البيزنطي إلى النَّظرة العسكرية السليمة عندما ترك السفن البيزنطية متلاصقةً في النيل ممَّا سهَّل مهمة القوات الإسلاميَّة في إشعال النار في عددٍ منها.
ـ تراخي القيادة البيزنطية في تطبيق القواعد العسكرية؛ التي تكفل أمن سفنها حين تركت البحارة يبيتون خارج سفنهم أيام العمليات العسكرية.
ـ انتشار المجاعة بين القوات البيزنطية.
د ـ هناك أسباب مشركة تتعلَّق بالجانبين الصَّليبي ، والبيزنطي ، منها:
ـ سوء اختيار توقيت خروج الحملة ، وتنفيذ الحصار الذي جرى في فصل الشتاء ، حيث تعَرَّضت القوات المتحالفة للسيول؛ التي أغرقت معسكراتها ، وللعواصف التي كانت تُبْعِدُ قطع الأسطول عن الشاطئ.
ـ سوء اختيار المكان الذي عسكرت فيه القوات المتحالفة ، وهي المنطقة التي تمتدُّ بطول السَّاحل ، والبالغة حوالي الميل الواحد ، فلم تستوعب أفراد الحملة البالغ عددهم خمسين ألفاً؛ حيث حشروا في هذا المكان الضيق ، ففقدوا حرية الحركة ، والانتشار الضروريين للدخول في معركةٍ ناجحة.
ـ أدَّى سوء اختيار المكان أن أضحت القوات المتحالفة هدفاً سهلاً لمرمى المسلمين ، وهجماتهم.
ـ عدم وجود قيادة موحَّدة ، وافتقرت القيادتان الصَّليبية ، والبيزنطية إلى التنسيق فيما بينهما ، ممَّا تسَّبب في فشل عمليات الهجوم على المدينة ، وتفشِّي الشائعات داخل معسكراتها ، واتِّهام كلِّ جانبٍ الجانب الاخر بأنَّه السبب في فشل الحملة.
2 ـ نتائج الحملة على دمياط:
ـ بعد فشل الحملة الصليبية ـ البيزنطية المشتركة على دمياط أصبحت هذه الحادثة نقطة تحوُّل هامة في تاريخ الشرق الأدنى؛ لأنَّه لو نجح التحالف النَّصراني في تحقيق غايته؛ لكان من الممكن أن يمنع اتحاد بلاد الشام ، ومصر؛ الذي يشكِّل خطراً مباشراً على أوضاع الصليبيين في الشَّام ، ويعرقل جهود المسلمين في التصدِّي للصليبيين ، وإخراجهم من المنطقة.
ـ يُعدُّ فشل الحملة النَّصرانية نقطة تحول هامة أيضاً في مستقبل صلاح الدين؛ الذي ظهر بمظهر المتمكِّن في حماية مصر، وأقنع الدولة الفاطمية المتداعية بأنه يستطيع حماية البلد من غارات المعتدين بالإضافة إلى حماية مركزه من دسائس المتامرين ، وبذلك حاز على إعجاب الكثير.
ـ بات المسلمون يهدِّدون بشكلٍ مباشر الإمارات الصليبية؛ بحيث شعر الصليبيون يوماً بعد يوم بازدياد تضييق المسلمين عليهم ، وبعد أن كانوا يحصرون نشاطهم ضدَّ خطر نور الدين محمود من ناحية الشمال؛ أضحوا يوزِّعون قواتهم بين الشَّمال ، والجنوب لمواجهة نور الدين محمود ، وصلاح الدِّين.
ـ إذا كانت تولية صلاح الدين منصب الوزارة بداية النهاية للدَّولة الفاطمية؛ فإن هزيمة النَّصارى أمام دمياط شكَّلت خطوةً أخرى نحو القضاء على هذه الدولة؛ حيث تطلَّع الخليفة العاضد إلى التحرر من نفوذ صلاح الدين ، ولكن المصير الفاشل الذي الت إليه خيَّبت أمله ، وأتاحت لصلاح الدين فرصة الانفراد بالسُّلطة في مصر ، وتوجيه اهتمامه نحو إضعاف المذهب الشيعي الإسماعيلي ، وفقدت الدولة الفاطمية الأمل الأخير من التخلُّص من قبضته القويَّة ، وأضحى سيِّد مصر دون منازع.
3 ـ وصول نجم الدين أيوب إلى مصر:
طلب صلاح الدين من نور الدين إرسال والده إليه ، فوافق نور الدِّين على ذلك ، وطلب من نجم الدين أيوب أن يستعدَّ للسفر إلى مصر ، وحَمَّله رسالةً إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية ، وإعلان الخطبة للخليفة العباسي. وخرج مع القافلة التي سافر فيها نجم الدين أيوب عددٌ كبير من التجَّار ، وأصحاب المصالح في مصر ، فخشي نور الدين على القافلة من الفرنجة ، وسار بجيشه إلى الكرك ، وحاصرها حتى اطمأنَّ إلى اجتياز القافلة لمنطقة الخطر ، فتركها ، وعاد إلى دمشق.
ووصل والد صلاح الدين نجم الدين أيوب إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمئة ، وخرج العاضد ـ صاحب القصر لاستقباله ، وبالغ في احترامه ، والإقبال عليه ، واتَّفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف ـ عليه السلام ـ حيد قدم على ولده ، ووجده متملِّكاً للديار المصرية ، وقال: {ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ ٩٩} [سورة يوسف: 99] . وذكر: أنَّه لمَّا خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين ، والخليفة العاضد إلى لقائه ، واجتمعا به قرأ بعض المقرئين: {وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ} [سورة يوسف: 100] . ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه ؛ سلك معه من الأدب ما جرت به عادته ، وفوَّض إليه الأمر كلَّه ، فأبى ذلك عليه أبوه، وقال: يا ولدي! ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له ، فلا ينبغي أن تغيِّر مواقع السعادة. فحكَّمه في الخزائن بأسرها ، وأنزله اللؤلؤة المطلَّة على خليج القاهرة وفي ما حدث لصلاح الدين من اجتماعه بوالده، وأهله، قال عمارة اليماني:
منْ شاكر والله أعظم شاكر
طلب الهدى نصراً فقال وقد أتوا
جلبوا إلى دمياط عند حصارها
جلَّوا عن الإسلام فيها كربةً
فالنَّاس في أعمال مصر كلِّها
إن لم تظنَّ الناس قشراً فارغاً
صحَّتْ به مصر وكانت قبله
عجباً لمعجزةٍ أتت في عصره
ردَّ الإلهُ به قضيَّة يوسف
جاءته إخوتُه ووالدُه إلى
ما كان مِنْ نعمى بني أيوب
حسبي فأنتم غاية المطلوب
عزَّ القوي وذلَّة المغلوب
لو لم يجلُّوها أتت بكروب
وعُتقاؤهم من نازحٍ وغريب
وهم اللُّباب فأنت غيرُ لبيب
تشكو سقاماً لم يُعن بطبيب
والدَّهر ولاَّدٌ لكلِّ عجيب
نسقاً على ضربٍ من التقريب
مصر على التدريج والترتيب
وحُكي: أنه لمَّا اجتمع صلاح الدين بوالده في دار الوزارة، وقعدا على طراحةٍ واحدةٍ ؛ ذكر نجم الدين: أنَّ صلاح ولد ليلة إخراجه من قلعة تكريت ، فقال: فتشاءمت له ، وتطيَّرت لما جرى عليَّ ، وكان معي كاتبٌ نصرانيٌّ ، فقال: يا مولاي! مَنْ يدريك أنَّ هذا الطفل يكون ملكاً عظيماً عظيم الصِّيت جليل المقدار! قال: فعطفني كلامه عليه. فتعجَّبت الجماعة من هذا الاتفاق ، رحمة الله عليهم أجمعين. وقد توفي نجم الدين أيوب في 568هـ فقد ركب نجم الدين أيوب ، فشبَّب به فرسه بالقاهرة عند باب النَّصر وسط المحجَّة يوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجَّة ، وحمل إلى منزله ، وعاش ثمانية أيام ، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة ، وكان كريماً، رحيماً ، عطوفاً ، حليماً ، وبابه مزدحمٌ بالوفود ، وهو متلف الموجود ببذل الجود. وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدِّين ، والخير ، وحسن السِّياسة ، وكان لا يمرُّ أحدٌ من أهل العلم ، والدين إلا حمل إليه المال ، والضيافة الجليلة ، وكان لا يسمع بأحدٍ من أهل الدِّين في مدينة إلا أنفذ إليه. وكان صلاح الدين غائباً في بلاد الكَرَك ، والشوبك على الغزاة مواظباً ، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت الدَّار السُّلطانية ، ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبويَّة على ساكنها أفضل الصَّلاة ، والسلام ، وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل. وقد رثاه عمارة اليماني ، فقال:
صفُو الحياةِ وإن طال المدى كَدَرُ
وما يزال لسانُ الدهر يُنذِرُنا
فلا تَقُل غرَّت الدُّنيا مطامعنا
كأس إذا ما الرَّدى حَبَا الحياة بها
كم شامخِ العز لاقَى الذُلَّ مِنْ يَدِها
في كلِّ جيلٍ وعصر من وقائعها
أودى عليٌّ وعثمان بمخلبها
ومن أراد التأسِّي في مصيبته
وحادثُ الموتِ لا يُبقي ولا يَذَرُ
لو أَثَّرَت عندنا الايات والنُّذُرُ
فما مع الموت لا غشٌّ ولا كدر
لم ينجُ من سُكرها أنثى ولاَ ذَكرُ
ما أضعف القَدْرَ إن أَلْوى به القَدَرُ
شعواء يَقْطُرُ منها النَّابُ والظُّفُرُ
ولم يَفُتْها أبو بكرٍ ولا عمر
فَلِلْوَرى برسول الله مُعْتَبَرُ
وقد خلف نجم الدين من الأولاد: صلاح الدين يوسف الناصر ، وسيف الدين أبا بكر العادل ، وشمس الدولة توران شاه ، وشاهنشاه ، وسيف الإسلام طغتكين ، وتاج الملوك بوري ، ومن البنات: ستَّ الشام ، وربيعة خاتون.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf
التصدي للحملة الصليبية البيزنطية المشتركة وحصار دمياط 565هـ
الحلقة: الرابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
أدرك الإفرنج خطورة موقفهم بعد فتح مصر ، وتولِّي صلاح الدين وزارتها ، فاتفق ملك القدس «عموري» مع إمبراطور بيزنطة على غزو مصر بأساطيلهم ، وحاصروا دمياط تنفيذاً لذلك التحالف ، وأرسل صلاح الدين قواته بقيادة خاله شهاب الدين محمود ، وابن أخيه تقي الدين عمر ، وأرسل إلى نور الدِّين يشكو ما هم فيه من المخاوف ، ويقول: إن تأخرتُ عن دمياط؛ ملكها الإفرنج ، وإن سرت إليها؛خلفني المصريُّون في أهلها بالشرِّ ، وخرجوا من طاعتي ، وساروا في أثري ، والفرنج أمامي ، فلا يبقى لنا باقية. وقد قام نور الدين بالدور المتوقع منه ، واتَّخذ القرار السليم ، فسير إلى صلاح الدين العساكر ، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشاميَّة ، وقام بشنِّ الغارات على حصون الفرنجة ، وقلاعهم ، ووصلت سراياه إلى المدى الذي لم تصله من قبل في بلادهم ليخفِّف الضَّغط عن مصر ، وفي ذلك تعزيزٌ ، ودعمٌ لصلاح الدين؛ حتَّى يتمكَّن من إحكام السيطرة على مصر؛ ليتفرَّغ بعد ذلك للمساعدة في تحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير المتمثِّل في تحرير سواحل بلاد الشام من الاحتلال الفرنجي. وقد قامت حامية دمياط بدور بطولي في الدِّفاع عن المدينة ، وألقت سلسةً ضخمةً عبر النهر، منعت وصول السفن اليونانية إليها ، وأنزل المسلمون المدافعون الخسائر بالأسطول البيزنطي اليوناني ، وهطلت أمطارٌ غزيرة حوَّلت المعسكر الصَّليبي إلى مستنقع فتهيؤوا للعودة ، وغادروا دمياط بعد حصار دام خمسين يوماً ، وعندما أبحر الأسطول البيزنطي؛ هبَّت عاصفةٌ عنيفةٌ ، لم يستطع البحارة الذي كادوا أن يهلكوا جوعاً من السيطرة على سفنهم فغرق معظمها ، ونصر الله المسلمين ، نصراً مؤزراً.
1 ـ أسباب فشل الحملة على دمياط:
يعود فشل الحملة الصليبية البيزنطية على دمياط إلى عوامل تتعلَّق بالمسلمين ، والصَّليبيين ، والبيزنطيين ، وبالجانبين: الصَّليبي ، والبيزنطي معاً.
أ ـ فيما يتعلَّق بالجانب الإسلامي يمكن رصد العوامل التالية:
ـ صمود سكان دمياط في وجه المعتدين.
ـ سرعة إمداد صلاح الدين المدينة بالمؤن ، والسلاح ، مما رفع معنويات سكانها المحاصرين.
ـ التعاون الصادق بين القوَّات الإسلامية في كلٍّ من بلاد الشام ، ومصر بهدف التصدِّي للمعتدين.
ـ القدرة القتالية للقوات الإسلامية ، وحسن تخطيطها ، وتنظيمها الدَّقيق.
ـ موقف نور الدين محمود الدَّاعم ، فقد أرسل بعوثاً كثيرةً ، يتبع بعضها بعضاً ، ثم إنَّ نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلادهم ، فعمد إليهم في جيوشٍ كثيرةٍ ، فجاس خلال ديارهم ، وغنم من أموالهم ، وقتل من رجالهم ، وسبى من نسائهم ، وأطفالهم شيئاً كثيراً ، وعندما بلغ الفرنج بدمياط ما فعله نور الدين؛ اضطروا لترك دمياط.
ـ استغلال المسلمين الجيِّد للفرص؛ التي أتيحت لهم ، فقد استغلُّوا فرصة معاناة البيزنطيين من الجوع ، فشنُّوا هجوماً عليهم جاء فعَّالاً ، كما استغلُّوا هبوب الرياح الجنوبية لإشعال النار في الأسطول البيزنطي بواسطة حرَّاقة. والأهم من هذا كلِّه توفيق الله ، وحفظه ، ومعيته ، وإنزال نصره على عباده المجاهدين.
ب ـ فيما يتعلَّق بالجانب الصَّليبي:
ـ لقد أخَّر الملك عمُّوري الأوَّل الهجوم على المدينة مدَّة ثلاثة أيام حتى يصل الأسطول البيزنطي، مما أعطى فرصةً طيبةً للمسلمين ، لتحصين المدينة ، وإمدادها بالرِّجال ، والعتاد.
ـ إحجام القوات الصليبية عن إمداد القوات البيزنطية بالمؤن عندما تعرَّضت لهجوم المسلمين؛ حيث وقفت موقف المتفرِّج.
ج ـ فيما يتعلَّق بالجانب البيزنطي فيمكن تدوين العوامل التالية:
ـ عدم استخدام القائد «كونتوستيفانوس» الأسطول البيزنطي استخداماً عسكرياً ، وبدا كأنَّه قائدٌ بريٌّ ، وليس قائداً بحرياً.
ـ اقتصر دور الأسطول البيزنطي على نقل القوَّات حتَّى ساحل دمياط.
ـ افتقر القائد البيزنطي إلى النَّظرة العسكرية السليمة عندما ترك السفن البيزنطية متلاصقةً في النيل ممَّا سهَّل مهمة القوات الإسلاميَّة في إشعال النار في عددٍ منها.
ـ تراخي القيادة البيزنطية في تطبيق القواعد العسكرية؛ التي تكفل أمن سفنها حين تركت البحارة يبيتون خارج سفنهم أيام العمليات العسكرية.
ـ انتشار المجاعة بين القوات البيزنطية.
د ـ هناك أسباب مشركة تتعلَّق بالجانبين الصَّليبي ، والبيزنطي ، منها:
ـ سوء اختيار توقيت خروج الحملة ، وتنفيذ الحصار الذي جرى في فصل الشتاء ، حيث تعَرَّضت القوات المتحالفة للسيول؛ التي أغرقت معسكراتها ، وللعواصف التي كانت تُبْعِدُ قطع الأسطول عن الشاطئ.
ـ سوء اختيار المكان الذي عسكرت فيه القوات المتحالفة ، وهي المنطقة التي تمتدُّ بطول السَّاحل ، والبالغة حوالي الميل الواحد ، فلم تستوعب أفراد الحملة البالغ عددهم خمسين ألفاً؛ حيث حشروا في هذا المكان الضيق ، ففقدوا حرية الحركة ، والانتشار الضروريين للدخول في معركةٍ ناجحة.
ـ أدَّى سوء اختيار المكان أن أضحت القوات المتحالفة هدفاً سهلاً لمرمى المسلمين ، وهجماتهم.
ـ عدم وجود قيادة موحَّدة ، وافتقرت القيادتان الصَّليبية ، والبيزنطية إلى التنسيق فيما بينهما ، ممَّا تسَّبب في فشل عمليات الهجوم على المدينة ، وتفشِّي الشائعات داخل معسكراتها ، واتِّهام كلِّ جانبٍ الجانب الاخر بأنَّه السبب في فشل الحملة.
2 ـ نتائج الحملة على دمياط:
ـ بعد فشل الحملة الصليبية ـ البيزنطية المشتركة على دمياط أصبحت هذه الحادثة نقطة تحوُّل هامة في تاريخ الشرق الأدنى؛ لأنَّه لو نجح التحالف النَّصراني في تحقيق غايته؛ لكان من الممكن أن يمنع اتحاد بلاد الشام ، ومصر؛ الذي يشكِّل خطراً مباشراً على أوضاع الصليبيين في الشَّام ، ويعرقل جهود المسلمين في التصدِّي للصليبيين ، وإخراجهم من المنطقة.
ـ يُعدُّ فشل الحملة النَّصرانية نقطة تحول هامة أيضاً في مستقبل صلاح الدين؛ الذي ظهر بمظهر المتمكِّن في حماية مصر، وأقنع الدولة الفاطمية المتداعية بأنه يستطيع حماية البلد من غارات المعتدين بالإضافة إلى حماية مركزه من دسائس المتامرين ، وبذلك حاز على إعجاب الكثير.
ـ بات المسلمون يهدِّدون بشكلٍ مباشر الإمارات الصليبية؛ بحيث شعر الصليبيون يوماً بعد يوم بازدياد تضييق المسلمين عليهم ، وبعد أن كانوا يحصرون نشاطهم ضدَّ خطر نور الدين محمود من ناحية الشمال؛ أضحوا يوزِّعون قواتهم بين الشَّمال ، والجنوب لمواجهة نور الدين محمود ، وصلاح الدِّين.
ـ إذا كانت تولية صلاح الدين منصب الوزارة بداية النهاية للدَّولة الفاطمية؛ فإن هزيمة النَّصارى أمام دمياط شكَّلت خطوةً أخرى نحو القضاء على هذه الدولة؛ حيث تطلَّع الخليفة العاضد إلى التحرر من نفوذ صلاح الدين ، ولكن المصير الفاشل الذي الت إليه خيَّبت أمله ، وأتاحت لصلاح الدين فرصة الانفراد بالسُّلطة في مصر ، وتوجيه اهتمامه نحو إضعاف المذهب الشيعي الإسماعيلي ، وفقدت الدولة الفاطمية الأمل الأخير من التخلُّص من قبضته القويَّة ، وأضحى سيِّد مصر دون منازع.
3 ـ وصول نجم الدين أيوب إلى مصر:
طلب صلاح الدين من نور الدين إرسال والده إليه ، فوافق نور الدِّين على ذلك ، وطلب من نجم الدين أيوب أن يستعدَّ للسفر إلى مصر ، وحَمَّله رسالةً إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية ، وإعلان الخطبة للخليفة العباسي. وخرج مع القافلة التي سافر فيها نجم الدين أيوب عددٌ كبير من التجَّار ، وأصحاب المصالح في مصر ، فخشي نور الدين على القافلة من الفرنجة ، وسار بجيشه إلى الكرك ، وحاصرها حتى اطمأنَّ إلى اجتياز القافلة لمنطقة الخطر ، فتركها ، وعاد إلى دمشق.
ووصل والد صلاح الدين نجم الدين أيوب إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمئة ، وخرج العاضد ـ صاحب القصر لاستقباله ، وبالغ في احترامه ، والإقبال عليه ، واتَّفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف ـ عليه السلام ـ حيد قدم على ولده ، ووجده متملِّكاً للديار المصرية ، وقال: {ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ ٩٩} [سورة يوسف: 99] . وذكر: أنَّه لمَّا خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين ، والخليفة العاضد إلى لقائه ، واجتمعا به قرأ بعض المقرئين: {وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ} [سورة يوسف: 100] . ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه ؛ سلك معه من الأدب ما جرت به عادته ، وفوَّض إليه الأمر كلَّه ، فأبى ذلك عليه أبوه، وقال: يا ولدي! ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له ، فلا ينبغي أن تغيِّر مواقع السعادة. فحكَّمه في الخزائن بأسرها ، وأنزله اللؤلؤة المطلَّة على خليج القاهرة وفي ما حدث لصلاح الدين من اجتماعه بوالده، وأهله، قال عمارة اليماني:
منْ شاكر والله أعظم شاكر
طلب الهدى نصراً فقال وقد أتوا
جلبوا إلى دمياط عند حصارها
جلَّوا عن الإسلام فيها كربةً
فالنَّاس في أعمال مصر كلِّها
إن لم تظنَّ الناس قشراً فارغاً
صحَّتْ به مصر وكانت قبله
عجباً لمعجزةٍ أتت في عصره
ردَّ الإلهُ به قضيَّة يوسف
جاءته إخوتُه ووالدُه إلى
ما كان مِنْ نعمى بني أيوب
حسبي فأنتم غاية المطلوب
عزَّ القوي وذلَّة المغلوب
لو لم يجلُّوها أتت بكروب
وعُتقاؤهم من نازحٍ وغريب
وهم اللُّباب فأنت غيرُ لبيب
تشكو سقاماً لم يُعن بطبيب
والدَّهر ولاَّدٌ لكلِّ عجيب
نسقاً على ضربٍ من التقريب
مصر على التدريج والترتيب
وحُكي: أنه لمَّا اجتمع صلاح الدين بوالده في دار الوزارة، وقعدا على طراحةٍ واحدةٍ ؛ ذكر نجم الدين: أنَّ صلاح ولد ليلة إخراجه من قلعة تكريت ، فقال: فتشاءمت له ، وتطيَّرت لما جرى عليَّ ، وكان معي كاتبٌ نصرانيٌّ ، فقال: يا مولاي! مَنْ يدريك أنَّ هذا الطفل يكون ملكاً عظيماً عظيم الصِّيت جليل المقدار! قال: فعطفني كلامه عليه. فتعجَّبت الجماعة من هذا الاتفاق ، رحمة الله عليهم أجمعين. وقد توفي نجم الدين أيوب في 568هـ فقد ركب نجم الدين أيوب ، فشبَّب به فرسه بالقاهرة عند باب النَّصر وسط المحجَّة يوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجَّة ، وحمل إلى منزله ، وعاش ثمانية أيام ، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة ، وكان كريماً، رحيماً ، عطوفاً ، حليماً ، وبابه مزدحمٌ بالوفود ، وهو متلف الموجود ببذل الجود. وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدِّين ، والخير ، وحسن السِّياسة ، وكان لا يمرُّ أحدٌ من أهل العلم ، والدين إلا حمل إليه المال ، والضيافة الجليلة ، وكان لا يسمع بأحدٍ من أهل الدِّين في مدينة إلا أنفذ إليه. وكان صلاح الدين غائباً في بلاد الكَرَك ، والشوبك على الغزاة مواظباً ، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت الدَّار السُّلطانية ، ثم نقلا بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبويَّة على ساكنها أفضل الصَّلاة ، والسلام ، وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل. وقد رثاه عمارة اليماني ، فقال:
صفُو الحياةِ وإن طال المدى كَدَرُ
وما يزال لسانُ الدهر يُنذِرُنا
فلا تَقُل غرَّت الدُّنيا مطامعنا
كأس إذا ما الرَّدى حَبَا الحياة بها
كم شامخِ العز لاقَى الذُلَّ مِنْ يَدِها
في كلِّ جيلٍ وعصر من وقائعها
أودى عليٌّ وعثمان بمخلبها
ومن أراد التأسِّي في مصيبته
وحادثُ الموتِ لا يُبقي ولا يَذَرُ
لو أَثَّرَت عندنا الايات والنُّذُرُ
فما مع الموت لا غشٌّ ولا كدر
لم ينجُ من سُكرها أنثى ولاَ ذَكرُ
ما أضعف القَدْرَ إن أَلْوى به القَدَرُ
شعواء يَقْطُرُ منها النَّابُ والظُّفُرُ
ولم يَفُتْها أبو بكرٍ ولا عمر
فَلِلْوَرى برسول الله مُعْتَبَرُ
وقد خلف نجم الدين من الأولاد: صلاح الدين يوسف الناصر ، وسيف الدين أبا بكر العادل ، وشمس الدولة توران شاه ، وشاهنشاه ، وسيف الإسلام طغتكين ، وتاج الملوك بوري ، ومن البنات: ستَّ الشام ، وربيعة خاتون.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf