من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
موقف المسلمين من أنبياء الله ورسله
الحلقة: الخامسة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
ينبع موقف المسلمين في هذا الباب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منهما تستقي هذه الأمة مواقفها واعتقادها وسائر أمور دينها، وعنهما تصدر، لذلك جاء موقفها من أنبياء الله ورسله موقفاً معتدلاً وسطاً، لا غلو فيه، ولا إفراط، ولا تفريط، أو تقصير فيها، ولم تضل فيه كما ضلَّت أمم قبلها؛ لأنها لم تقل فيه بمجرد الرأي، والهوى، ولم تبتدع فيه ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الأول: إن هذه الأمة امنت بجميع الأنبياء والمرسلين، ولم تفرق بين أحد منهم، فتؤمن ببعض وتكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، ذلك: أن الله ـ عز وجل ـ أمرها في كتابه الكريم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *}[البقرة:136].
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلاً، وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونصَّ على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، بل يؤمنوا بهم كلهم...).
وقال قتادة: (أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا، ويصدِّقوا بأنبيائه ورسله كلهم ولا يفرقوا بين أحد منهم).
وَعَدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة التي لا يكون المرء مؤمناً إلا إذا استكملها، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: «الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
فرسم القرآن الكريم لهذه الأمة طريقة الاستقامة، فاستجابت لأمر الله ورسوله، وامنت برسل الله جميعاً، وشهد الله لها بهذا الإيمان في محكم كتابه، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *}[البقرة:285].
وبلغ من عمق إيمانها برسل الله وتصديقها لهم: أنها تشهد لهم على أممهم بالبلاغ، كما تقدم في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول محمد، وأمته، فيشهدون: أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً»، فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا *} [البقرة: 143]
الأمر الثاني: أنها لم تنتقص أحداً منهم، كما فعل غيرها من الأمم، بل وقَّرتهم، وعزرتهم، ونصرتهم، ونفت عنهم كل ما يقدح في أشخاصهم، أو نبوتهم ورسالتهم، وأثبتت عصمتهم من الكفر، وارتكاب الكبائر قبل الرسالة وبعدها، وفي الصغائر خلاف، والجمهور على عصمتهم مِنْ تعمُّدها؛ لأنهم صفوة الله من خلقه، كما أخبر الله في غير ما آية من كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدم وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *}[آل عمران:33]. وقال عن موسى عليه السلام: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه: 39] وقال عن عدد من رسله: { وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ *}[ص: 47] وقال عن جميع رسله:{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *}[الحج:75].
فهذه الأمة تؤمن، وتعتقد: أن رسل الله وأنبياءه أفضل الخلق وأطهرهم وأزكاهم، وأنهم منزهون عن الدنايا مبرؤون من كل سوء، صادقون في أقوالهم، قدوة وأسوة في أفعالهم وأعمالهم، لا يأتون منكراً، ولا يقولون زوراً، ولا يستحقون ذمّاً، ولا يستوجبون عقاباً، أمرنا الله بالاقتداء بهم، واتباع هديهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ *}[الأنعام: 89 ـ 90].
وترى محبتهم واجبة، ونصرتهم لازمة؛ لذلك كان نبيها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم، أحب إليها من النفس والمال، والولد والوالد، كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين».
ولما أخذ رسول الله بيد عمر بن الخطاب، وقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال له عمر: فإنه الان والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الان يا عمر!».
ولقد كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يفدون النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم، فكان منهم من يقيه بجسده وقع السهام والنبال كما صنع أبو دجانةـ رضي الله عنه ـ في غزوة أحد. ولم يخذلوه قط، أو يتخلفوا عن نصره، والقتال بين يديه، حتى قال قائلهم يوم بدر وهو المقداد بن عمرو ـ رضي الله عنهـ: «يا رسول الله! امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *} ولكن اذهب أنت وربـك فقاتلا إنـا معكمـا مقاتلون! فو الذي بعثك بالحق؛ لو سرت بنا إلى برك الغمادلجالدنا معك من دونه حتى نبلغه!...».
يرى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ هذا الموقف العظيم من المقداد ـ رضي الله عنه ـ مشيداً به، متمنياً أن يكون هو صاحبه، فيقول: (شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: ولكننا نقاتل عن {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ}، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك! فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرَّه. يعني: قوله).
وقال سعد بن معاذـ رضي الله عنه ـ في هذا المقام: (..فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته؛ لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد! وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسر بنا على بركة الله! فَسُرَّ رسول الله بقول سعد، ونَشَّطَه ذلك...).
فتأمل موقف هذه الأمة من نبيها، وانظر أي بون بينه وبين موقف قوم موسى عليه السلام في قولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *} [المائدة: 24] أو موقف النصارى الذي أسلموا نبيهم لأعدائهم ليقتلوه ويصلبوه بزعمهم، وتامر بعض تلاميذه وحوارييه عليه، كما تقدم بيان ذلك في فعل القوم من أنبيائهم.
الأمر الثالث: أنهم لم يغلوا فيهم، أو يفرطوا في مدحهم بالباطل، وإنما قدروهم حق قدرهم، وعزروهم، ونصروهم، وأحبوهم، وعظموهم، وأجلُّوهم غاية التعظيم والإجلال، ولم يفرطوا في مدحهم، ولم يبالغوا في إطرائهم، والثناء عليهم، ولم يجاوزوا الحد في ذلك، ولم ينزلوهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، ولم يرفعوهم فوق المقام الذي لهم، فلم يجاوزوا بهم منزلة الرسالة والنبوة، ومقام العبودية لله، وهما المقام والمنزلة التي أنزلهم الله إياها، وأقامهم فيها، وخاطبهم وذكرهم بها في كتابه العزيزفقال عن نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا *} [الإسراء: 3]. وقال عن داود عليه السلام ـ: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ *}[ص: 17].
وقال عن سليمان ـ عليه السلام ـ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} [ص: 30] وقال عن أيوب ـ عليه السلام ـ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *}[ص: 41] وقال في إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب ـ عليهم السلام ـ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ *} [ص: 45] ثم قال عن عيسى عليه السلام ـ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172].
وقال عن خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1] وقال: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *}[النجم:10].
فمقام الرسالة، والعبودية هو المقام الذي شرف به عباده المرسلين، ومَنَّ عليهم به ـ وهم صلوات الله وسلامه عليهم ـ يأبون أن يُرفعوا فوق ذلك، وينهون أممهم عنه، ويحذرونهم من مجاوزة هذا المقام، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله».
فالأنبياء، والمرسلون بشر يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء، ولكثير منهم بنون، وحفدة، وليسوا بالهة، ولا أبناء الله كما ضلَّ النصارى في عيسى، عليه السلام، يقول الحق تبارك وتعالى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مقرراً هذه الحقيقة: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ *} [الكهف: 110] { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً *} [الرعد: 38]{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا *}[الفرقان:20]
فهذه منزلة الرسل، والأنبياء كما جاءت في القرآن لا إفراط، ولا تفريط، لا غلو، ولا تقصير، فامنت بها أمة الإسلام، فرسل الله عبيد لا يُعبدون، ورسل لا يَكذبون ؛ بل يُطاعون، ويُـتَّبعون.
يمكنكم يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: