من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
موقف النصارى من أنبياء الله ورسله
الحلقة: الرابعة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
إذا كان اليهود غلب عليهم التفريط، والتقصير، والجفاء في حق أنبياء الله ورسله ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ مع غلوهم في بعضهم كعزير، عليه السلام، فإن النصارى قد ذهبوا إلى أقصى الطرف المعاكس، فغلب عليهم الغلو، والإفراط، ولا سيما في نبي الله عيسى عليه السلام، على أنهم فرَّطوا، وقصروا أيضاً في حق الله، بل وفي حق عيسى ـ عليه السلام ـ أيضاً، ويمكن إجمال مواقفهم في هذا الباب في الأمور التالية:
الأمر الأول: أنهم لم يؤمنوا بجميع الرسل، والأنبياء، بل فرقوا بينهم، فامنوا ببعض، وكفروا ببعض، وغلوا في بعض، وهم معنيون أيضاً بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً *} [النساء: 150 ـ 151] وقدمنا إيراد هذه الآيةفي الكلام على موقف اليهود، وذكرنا ما قاله الإمام ابن جرير في تفسيرها، وفيه: أن النصارى ممن امن ببعض الأنبياء، وكفر ببعض، حيث امنوا بعيسى، وموسى بزعمهم، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أنهم غلوا، وأفرطوا في نبي الله عيسى، عليه الصلاة والسلام، ورفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنزلوه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها. فلم يؤمنوا به عبداً لله ورسولاً نبيّاً، وإنما جعلوه هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة يشكلون منها الإله، وعبدوه من دون الله، عز وجل، وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله، عز وجل، فكانت عقيدتهم فيه هي التي أجمعوا عليها بعد (مجمع نيقية). وسموها بـ (الإمامة) على النحو التالي:
1 ـ الإيمان بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق السماء والأرض صانع ما يُرى، وما لا يُرى.
2 ـ وبرب واحد يسوع، الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهور من نور الله إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء، وتجسد في روح القدس، ومن مريم العذراء، وصلب حيّاً على عهد بيلاطس، وتألم، وقبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب وسيأتي؛ ليدين الأحياء، والأموات، ولا فناء لملكه...
لقد ذكر القرآن الكريم غلوهم في عيسى، عليه السلام، وقولهم بألوهيته، وبنوته لله، عز وجل، وكفرهم بذلك القول، فقال جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}[المائدة:73].
وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *}[التوبة:30].
وورد في بعض الأناجيل بعض النصوص التي اعتمد عليها النصارى في تأليه المسيح ونبوته، ومن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) كقوله: (في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة لله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان).
فجعل المسيح هو الكلمة، وجعل الكلمة هي الله، فالمسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم علوّاً كبيراً!
وفيه أيضاً: أن المسيح عليه السلام (أبرأ أعمى فردَّه بصيراً، وأن اليهود لما سألوه من رد إليك بصرك أخبرهم بذلك، ووعظهم فطردوه، وسمع يسوع: أنهم طردوه خارجاً، فلقيه وقال له: أتؤمن أنت بابن الله؟، فأجاب وقال: ومن هو يا سيدي لأؤمن به؟، فقال له يسوع: قد رأيته، الذي يتكلم معك هو هو، فقال: أؤمن يا سيِّد، وسجد له).
على أن في هذا الإنجيل، وغيره من الأناجيل من التناقضات في هذا الباب الكثير، بل فيه ما يدل على بشرية المسيح، وعبوديته، وأنه نبيٌّ، وليس من غرضنا هنا ذكر ذلك، وإنما القصد الإشارة إلى قولهم بألوهية المسيح، وبنوته لله عز وجل.
الأمر الثالث: خذلانهم لنبيهم، وعدم نصرته: إنَّ من الواجب على أتباع الرسل ـ وخاصة أصحابهم وحوارييهم ـ أن ينصروهم، ويعزروهم، ويفدوهم بأنفسهم وأموالهم كما تقدم، وذكرنا أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على نصر الرسل، ومؤازرتهم. ولكن قوم عيسى عليه السلام، وتلاميذه خذلوه، ولم ينصروه عندما أراد أعداؤه اليهود أخذه وقتله، بل أسلمه بعضهم، ودل عدوَّه عليه لولا أن الله رفعه، وألقى شبهه على بعض تلاميذه.
وقد أثبت النصارى: أن تلاميذ المسيح، وأصحابه أسلموه لليهود، وخلَّوا بينهم وبينه، وقبض بعضهم ثمناً لذلك، وهذا غاية الخذلان! ذكر ذلك في إنجيل متى.
يمكنكم يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: