تاريخ الدولة الزنكية ... سياسة آق سنقر الخارجية
الحلقة: 03
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1443 ه/ يوليو 2022م
عادت سياسة آق سنقر بنتائج هامة على المنطقة، فسادَ الاطمئنان، وأمنت الطرق، وانتشر العمران، فانتعشت التجارة، وقد بلغَ من سيطرة آق سنقر على الأمن في قرى حلب وضياعها أن أرسل من ينادي فيها أن لا يغلق أحدٌ بابه، وأن يتركوا الاتهم الزراعية في أماكنها ليلاً ونهاراً.(1) ومن ثم جاءت شهرتهُ بناءً على ما أنجزه في هذا المجال (2)وبعد أن نظم قسيم الدولة إمارته الداخلية، وحقَّقَ الأمن والاستقرار أراد أن يقوم بدورٍ خارجي، وكانت بلادُ الشام عبر تاريخها عرضة للصراعات من أجل السيطرة بين الشمال والجنوب. وقد مثلت دمشق، مُنذ القرن السابع الميلادي، الجنوب، في حين مثَّلت حلب الشَّمال، وكانت المفارقات بين الشمال والجنوب في بعض الأحيان اجتماعية، واقتصادية، ولكن غالباً ما كانت سياسية، حيث حاول حكام دمشق من جهتهم، وحكام حلب أيضاً مَدَّ سيطرتهم كلياً على بلاد الشام، وتبعاً لهذه القاعدة حدث صراعٌ بين تُتُش، وآق سُنقر،(3) فقد وقف في وجه تُتش الطامع في بلاده، وأن يتوسَّع على حساب جيرانهِ، وبدا لهُ قبل الإقدام على تنفيذ هذا المشروع أن ينشىء جيشاً منظماً يعتمد عليهِ في حروبه، وشرعَ في ذلكَ، وكانت نواة هذا الجيش تتمثل بالقوة التي تركها ملكشاه معه عندما رحل عن حلب، وتعدادها أربعة الاف مقاتل، ثم تعدَّت الستة الاف.(4) وقد اعتمد آق سُنقر على نوعين من القوات العسكرية.
* النوع الأول: القوات الاحتياطية التي كان يزدادُ عددها باستمرار، وهي تنتمي إلى العنصر التركي.
* النوع الثاني: القوات الاحتياطية التي كان يجمعها حين يحتاج إليها، وكانت خليطاً من العرب، والتركمان، وغيرهم، وقد وصل عددها في المعركة التي خاضها ضد تُتش إلى عشرين ألفاً، وكان تتش قد جهد منذُ أن أصبح حاكماً على دمشق في عام 470 هـ/1077 م في العمل على:
* بسط سلطانه على كامل بلاد الشام، وبخاصة المدن الساحلية التي كانت تدين بالطاعة للدولة الفاطمية، أو تُحكم من قبلها.
* إنشاء دولة أخرى للسلاجقة في هذه البلاد يتولى حكمها بمعزل عن السلاجقة العظام في خراسان، إلا أنه فشل في تحقيق الهدف الأول، ونجحَ في تحقيق الثاني إنما بعد وفاة ملكشاه الأول، على أن الأوضاع التي آلت إليها البلاد لم ترض تتش، فلجأ إلى السياسة، وطلب من أخيه عام (480 هـ/1087 م) تزويده بقوات ومعدات تمكنـهُ من طرد الفاطميين من بـلاد الشام، وإخضاعها كلها لسلطان السلاجقة بما فيها المدن الساحلية، والواقع: أنَّ ملكشاه الأول كان يخشى تمدداً فاطمياً باتجاه الأملاك السلجوقية في بلاد الشام، والعراق، لذلكَ لبَّى طلب أخيه، وأمر كلاًّ من قسيم الدولة صاحب حلب، وبوزان صاحب الرُّها، بأن يقدِّما له كل ما يحتاجهُ في مهمتهِ من عساكر وتجهيزات(5) ويبدو: أنَّ الحاكمين لم ينفذا الأوامر السلطانية، فلم يذهب اق سنقر بعيداً في مساعدة تُتش وهو يعلم مدى خطورة أطماعـهِ، وكذلكَ فعل بوزان.
ومن جهته، فإن تُتش لم يقم بأيِّ عمل عسكري جدِّي ضد مدن الساحل، (6)ولكن الأوضاع تبدَّلت في عام (482 هـ/1089 م) حين استولى الفاطميون على عكا، وصور، وصيدا، وجبيل، كما أنه وصل إلى المعسكر الفاطمي، في غضون ذلك، خلف بن ملاعب صاحب حمص، وأفامية ،(7) فاجتمعَ بالقائد الفاطمي، واعترف لهُ رسمياً بسلطان الفاطميين، وسيادتهم عليه،(8 مما شكل تحدياً مباشراً لسلطان السلاجقة في بلاد الشام، ونتيجة لما اتفق عليه الطرفان من بسط السيادة الفاطمية على كامل بلاد الشام قام خلف بن ملاعب بالاعتداء على أراضٍ تابعة لتتش مما دفعه إلى الاستنجادِ مجدداً بأخيهِ. كما أنَّ الحكام السلاجقة في هذه البلاد شكوا إلى السلطان اعتداءات أمير حمص، وكذلكَ فعل السكان بفعل أنه اتصف بالظلم، ونظراً للأوضاع الخطيرة التي باتت عليها بلاد الشام؛ أمر السلطان أخاه تُتُش بتأديب ابن ملاعب، وطرد الفاطميين من البلاد، وضمَّها إلى الأملاك السلجوقية، وطلب في الوقت نفسه، من ولاته فيها بالتحرك السريع لمساعدته (9)انزعج كلٌّ من آق سُنقر، وبوزان من قيادة تُتُش لهذه الحملة، وأدركا: أنه سوفَ ينفرد بحكم ما سيتولى عليه، فخرجا مكرهين غير مقتنعين بمساعدته،(10) وصلت القواتُ المتحالفة إلى حمص عام 483 هـ/1090 م وحاصرتها، وضيَّقت عليها؛ حتى استسلمت، وقبض على ابن ملاعب، وأُرسل إلى السلطان ملكشاه الأول ،(11) وانكشفت في غضون ذلكَ أطماع الأطراف المتحالفة، فقد طلب كلٌّ من الأمراء حمص لنفسه، وكتبَ إلى السلطان بذلكَ، فأنعمَ بها على أخيه.(12)
مراجع الحلقة الثالثة:
(1) عماد الدين زنكي ص 35.
(2)ذيل تاريخ دمشق ص 119 ـ 120 الباهر ص 15.
(3) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص 215.
(4) مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية ص 215.
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن تاريخ الزنكيين في الموصل ص 51.
(6) تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 51.
(7) أفامية: مدينة حصينة.
(8)تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص 51.
(9) المصدر نفسه ص 52.
(10) المصدر نفسه ص 52.
(11) المصدر نفسه ص 52.
(12) بغية الطالب (7/3354).
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي