من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
الحلقات العلمية للأمير عبد القادر وكتبه وفكره
الحلقة: السادسة و الخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
كانت مدة إقامته في دمشق متفرغاً للصلاة والذكر والتأمل والعلم والتدريس في الجامع الأموي أو في دار الحديث النووي، وكان دؤوباً على عمل الخير والصلاح، مواظباً على المطالعة والتأمل، وزار بيت المقدس والخليل، ووقف عند مزاراتها التاريخية، وبعد فترة سافر إلى حمص وتوقف عند ضريح الصحابي الجليل خالد بن الوليد، ثم قدم حماة، ومنها انتقل إلى دير سمعان لزيارة قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان يلقي دروساً في القرآن والفقه والحديث، فضلاً عن علوم شتى في الجامع الأموي والمدرسة الجقمقية ودار الحديث الأشرفية وفي داره
ومن الكتب والرسائل التي اعتمدها في غالب الأحيان الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والعقائد النسفية في التوحيد للعلامة نجم الدين عمر النسفي الحنفي، وموطأ الإمام مالك، وصحيح البخاري الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، وصحيح مسلم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وألفية ابن مالك، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، واهتم بكتب التصوف، فضلاً عن مدارسة كتابات عديدة لمشاهير المؤلفين في التاريخ القديم والحديث وفي الفلسفة واللغة والتاريخ والجغرافيا والطب، وتجمعت لديه مكتبة ضخمة، وكانت داره لا تخلو يوماً من الزوار من كل أنحاء البلاد العربية والإسلامية
لقد بدأ الأمير كفاحه في خدمة العلوم الفقهية وخدمة الإنسانية، وكان يحب العلم والعلماء الذين ما إن استقر به المقام حتى احتضنهم وحسّن حياتهم، وزاد إنتاجهم العلمي، واستطاع أن يوجد مناخاً من الحرية، وحال دون عاديات السلطة على الشعب، وأقام الندوات العلمية والفقهية والدراسات الدينية في الجامع الأموي، وساعد في رفع الظلم عن الكثير من المضطهدين، وخصص رواتب سخية في كل شهر للعلماء والصالحين والمحتاجين، وتفرغ للعبادة والتأليف وخدمة الناس، وألف كتاب «المقراض الحاد» لما كان في سجنه وراجعه في دمشق، ونظم ديواناً من شعره الرقيق سماه «نزهة الخاطر» ومجموعة من الكتب.
واهتم العلماء بهذه الكتب وتقريظها ومناقشتها من قبل رجال الفكر، أدرجت جميعة العلماء في باريس اسمه من بين أسماء العلماء والعظماء في «ديوان الأمم».
وكانت أماكن ندوات ومحاضرات وحلقات الأمير عبد القادر تتغير من حين إلى آخر حسب الظروف المتاحة، فكانت أحياناً في المدرسة الأشرفية الشهيرة الان بدار الحديث النورية، أو في المدرسة الجقمقية، وأحياناً في الجامع الأموي، لكن كان في أكثر الأحيان يدرس ويحاضر في منزله الذي غدا في دمشق مأوى له مع الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ولا يشغلهم شاغل عن نهل العلوم وذكر رب العالمين، وأصبح هو مركز اهتمام العلماء والمثقفين وقبلة الفقهاء وكل من يريد معرفة فتوى، أو رأياً في قضية فقهية.
وفي السنين الأخيرة من حياته كان إذا حل شهر رمضان المبارك يذهب إلى مزرعته في أشرفية صحنايا بعيداً عن ضوضاء المدينة وزوارها، ويمضي أواخر الشهر معتكفاً في غرفة صغيرة، منعزلاً عن الناس، لا يدخل عليه سوى الخادم الذي يقوم بخدمته، قائماً لليل يرتل القرآن ويصلي، ولم يكن طعامه سوى الحليب والتمر والزبيب.
وانفتح الأمير على ثقافات بلاد الشام والمشرق المتنوعة ؛ التي كانت لمجموعة من المفكرين والمصلحين، وجملة من المثقفين من خريجي مدارس الإرساليات المسيحية التعلمية، ولريادة المتعلمين من أمثال ناصيف اليازجي، الذي توفي عام (1871م)، صاحب كتاب مجمع البحرين الذي حاكى فيه مقامات الحريري، وبطرس البستاني الذي توفي عام (1883م) وارتبط اسمه بدائرة المعارف التي عمل على إخراجها وأتمها بعده أولاده، كما تأثر بحركة الطباعة ونشر الكتب وتأسيس الصحف، ودورها في نشر الثقافة الحديثة والوعي السياسي والاجتماعي، وكان في طليعة النشريات التي أثرت الحياة الثقافية جريدة الأحوال التي صدرت بدمشق عام (1855م)، وجريدة الأخبار الصادرة في بيروت عام (1857م)، كما تأثر الأمير في الشام، بمحيطها وعمقها الطبيعي والعربي، وتكامل إنتاجها الفكري بإنتاج المؤرخين والكتاب خريجي بعثات محمد علي إلى أوروبا من الترجمات والمؤلفات العلمية والتاريخية مثل العلامة علي مبارك، والشيخ رفاعة الطهطاوي صاحب الكتاب المشهور تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وإبراهيم الدسوقي وعبد الله أبو السعود وصالح مجدي وغيرهم.
1 ـ مؤلفاته وكتبه:
بدأ الأمير الكتابة والتأليف منذ ريعان شبابه، فضلاً عن نظم الأشعار والقصائد في مواضيع شتى منذ سن مبكرة حتى آخر أيامه، فقد شرح قبل أن يستلم الإمارة حاشية في علم الكلام، كتبها جده الذي عاش في نهاية القرن السادس عشر عبد القادر بن أحمد المدعو بن خده، وبعدها بحسب الظروف والمواقف كانت له تأليف وكتب:
ـ رسالة بعنوان «حسام الدين لقطع شبه المرتدين»، كتبها في بداية عهده بالإمارة أي عام (1833م)، وذلك بالرد القاطع من القرآن والسنة النبوية على بعض أشباه الشيوخ، الذين استمالهم واستأجرهم الاحتلال، ليروجوا بين الناس جواز النزول تحت حكم الفرنسيين، وعدم جواز الانضمام إلى دولة الأمير المجاهدة.
ـ كتاب «وشاح الكتائب وزي الجندي المحمدي الغالب». ألفه بعد معاهدة التافنة عام (1837م)، وهو كتاب يشتمل على الأحكام والأزياء والقوانين الخاصة بالجيش المحمدي الفتي، خطه بيده المجاهد قدور بن رويلة تحت إشراف الأمير وأضاف إليه بعض الملاحظات.
ـ مجموعة من المراسلات الفقهية بينه وبين علماء عصره، وأجوبة كثيرة عن أسئلة لحل مشكلها وفتح ما استغلق منها، وكذلك مجموعة من المراسلات بينه وبين بعض الشخصيات المدنية والعسكرية، وأجوبة كثيرة عن أسئلتهم واهتماماتهم في ميادين شتى.
2 ـ كتاب «المقراض الحاد»:
كتاب «المقراض الحاد لقطع لسان منتقص الإسلام بالباطل والإلحاد»، ألفه الأمير عبد القادر عندما كان سجيناً في قلعة أمبواز في فرنسا في أواخر عام (1852م). والسبب في ذلك أنه بلغ الأمير أن بعض الحكام والضباط الأمراء الأوروبيين انتقص من دين الإسلام، واعتبر أن الخديعة والغدر من سمات الإسلام نفسه، فوضع الأمير ذلك الكتاب من حفظه دون مراجع مكتوبة للرد عليهم بالدليل الكافي والوافي من القرآن والسنة الصحيحة، وبين لهم خطأ اعتقادهم، ووضح في الكتاب مسائل وأحكاماً مهمة، وظهرت فيه روح الدعوة وحرصه على هداية الناس.
لقد أكد العقلاء في هذا العالم أن الإسلام حمل إلى الإنسانية حضارة عادلة ورحيمة تكمن فيها سعادة هذا المخلوق في دار الدنيا والاخرة، وتقضي على الشرور في المجتمعات، وفي أعماق النفس البشرية، وقد شمل كتاب الأمير عبد القادر «المقراض الحاد» على المواضيع الرئيسية في الفقه الإسلامي والأخلاقيات الإسلامية والتربية، من وفاء وإخاء ورحمة وعدل، وبيّن مكانة الفرد في الإسلام في هذا الدستور الإلهي الذي جعله الله يشكل اللبنة الأساسية في كيان الأمة والمجتمع، هذا الفرد الذي جعله الله في المنهج الإسلامي مكلفاً ومميزاً، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام : 165].
ـ وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف : 32].
ففي المجتمع الإسلامي لا يوجد صراع طبقات، وإنما أخوة وتعاون وتكافل اجتماعي ومساواة وعدل ورحمة، فهذه الرسالة التي وجهها الأمير من سجنه عام (1852م) للقساوسة في فرنسا والمفكرين أراد تضمينها كل هذه الأسس في الدستور الإلهي القران. وأعتقد أنه نجح في جعلهم يقرؤونها ويترجمونها، ولم يحتجوا على عنوانها الجريء «المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد» وقبولهم لها وترجمتها ووضع اسمه بين علماء العالم دليل على نجاحه فيما قدّم.
ولابد لكل من قرأ هذه الرسالة «المقراض الحاد» من ملاحظة أن هدف الأمير لم يكن استعراضاً لمعلوماته، وإنما الهدف كان الدعوة الإسلامية التي هي واجب على كل مسلم، وأيضاً تعريف هؤلاء المستعمرين لبلاده بدولته التي أرساها على هدي القرآن في الجزائر، أراد أن يقول لهم في هذه الرسالة أن الشعب الجزائري يملك حضارة ربانية عريقة، لا تقارن بحضارتهم الوضعية، التي يريدون فرضها بالقوة على شعبه بحجة إنقاذهم من التخلف والتوحش.
وقال لهم في مقدمة رسالته: إنني لا أصلح أن أكون تلميذاً للعلماء في بلادي، كان هذا الكتاب موجهاً إلى جماعات لا تؤمن بالإسلام، ولا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لابد من مخاطبتهم بأسلوب العقل والمنطق الإنساني للوصول إلى غايته، وهي نشر الدعوة الإسلامية التي نزلت إلى الناس أجمعين، ولقد جسد هذه الدعوة بأعماله الملحمية قبلاً وفي سجنه أيضاً وكانت عنده سلوكاً، لقد كان كتابه في السجن يدل على مستودعاته الفكرية والمعرفية وعن كينونته ثم هدفه وكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *} [إبراهيم : 24 ـ 26]. صدق الله العظيم.
والكلمة الطيبة هي التوحيد والإيمان بإله واحد لا شريك له، ولكي يصل إلى عقولهم فتناول الأمير في المقدمات علوماً مختلفة ؛ تكلم في الفصل الأول من رسالته «المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل والإلحاد» عن العلم والجهل، ثم عن فضل العلم والعلماء، ثم تكلم عن العقل ليخاطب عقولهم وقيمة هذا العقل، والحدود التي وضعها الله سبحانه وتعالى لهذا العقل، وتكلم عن الحواس والإدراك، ثم الفصل الثاني تكلم فيه عن العلوم الشرعية، وحاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء الذين اختارهم الله من بين عباده لإرشاد هؤلاء العباد إلى الطريق السوي وسبيل الخير، وتكلم عن إثبات الألوهية والنبوة، بأسلوب علمي مبسط، وبالأدلة الصادقة على الطريق السليم لمعرفة الله، ومعرفة الرسول إن كان صادقاً أو مدعياً، وفي نهاية الرسالة كتب في تاريخ الأمم والوفاء عند العرب. وفي علم الاجتماع وفضل التصنيف وتدوين المعارف، وعن آيات الله في الأرض وفي السماء، وأشار أيضاً إلى تحريم السحر في الإسلام.
وتحدث عن رسالة الأنبياء وعن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم وعلاماتها وأدلتها، وتحدث عن القرآن الكريم فقال: إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وحمله معارف العرب وعلومها الأربعة: البلاغة والشعر، والخبر والكهانة، فأنزل الله عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة من الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نمط كلامهم، ومن الإخبار عن الكوائن والحوادث والأسرار والمخبات، فتوجد على ما كانت ويعترف المخبر عنها بصحة ذلك وصدقه، وإن كان من الأعداء، ومن الإخبار عن القرون السالفة وأنباء الأنبياء والأمم البائدة والحوادث الماضية، ما يعجز من تفرغ لهذا العلم عن بعضه إلى أن قال: .. ومعجزة القرآن باقية ثابتة إلى يوم القيامة بينة الحجة لكل أمة، لا تخفى وجوه ذلك على من نظر فيها وتأمل، وسائر معجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم وعدمت.
ومعجزة القرآن لا تبيد ولا تنقطع ولا يقدر أحد على تغييرها وتبديلها، ولو بلغ الغاية في العداوة والمعاندة والجهل، وقال: والحاصل أن لنا على نبوة محمد عليه السلام دلالة أنه عليه الصلاة والسلام صادق وأمين وأظهر المعجزة وهو خاتم الأنبياء.
وقال: ونزلت الرسالات السماوية كما يشيد بناء الدار بالتدريج، فأصول النبوة كانت في ادم، وأصل الرسالة في نوح، ولم يزل ينمو حتى وصل إلى سيدنا موسى عليه السلام، ثم إلى عيسى، إلى أن كمل بناء الدار بالجمع بين العلم والعمل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا كان سر ختم النبيين، والزيادة على الكمال نقصان، وأكمل شكل الالة الباطشة كف عليه خمسة أصابع، فكما ذو الأصابع الأربعة ناقص، فذو الأصابع الستة ناقص، لأن السادسة زيادة عن الكفاية، فهي نقصان في الحقيقة وإن كانت زيادة في الصورة، ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد والتنزيه وصلت إلى أكثر بلاد المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك ما لم يملكه أحد من الأمم السابقة.
كان الأمير عبد القادر ملتزماً في أفكاره واعتقاده بالكتاب والسنة، وكان كثيراً ما يردد:
عليك بشرع الله فالزم حدوده فحيثما سار سر وإن وقف قف
ففكر الأمير ومعتقده واضح المعالم، صادق وصريح، نابع من جذور ثقافته وتربيته وتعليمه وإيمانه، والتصوف الذي وصفوه به كان أعمالاً وصلاحاً وتقى وتمسكاً بالقران والسنة وزهداً في الحطام الزائل، وكان متمسكاً بالعبادات وأوامر الشرع إلى أن حان أجله، وهذه حقيقةً دراسة وافية وعميقة ومتجردة في حياة الأمير وتراثه.
3 ـ كتاب «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل»:
هذا الكتاب من كتب الأمير عبد القادر قسمه إلى مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة، وأدرج تحت كل عنوان
مجموعة من العناوين التي تخدم الفكرة الرئيسية للموضوع، في هذه المقدمة قدم لمضمون الرسالة ليضع القارئ أمام الموضوع فيكون على بينة منه قبل الإقدام عليه، فقد أكد على أن مقياس التفاضل بين الناس يكمن أساساً في العقل والعلم، وهما الوسيلتان الوحيدتان لإدراك الحق، ولذلك وجب على العاقل أن ينظر في القول إلى قائله، فإن كان القول حقاً قبله سواء كان قائله معروفاً بالحق أو الباطل لأن الحكمة ضالة العاقل، وأن معرفة الرجال تكون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، ولابد من نبذ التقليد، وإطلاق حرية الفكر والعقل، للتطور والتأمل للاعتبار لمعرفة الحق بالدليل، وفي ذلك يتمايز الناس مراتب، فمنهم عالم مسعد لنفسه ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد..، وقسم مهلك لنفسه ومهلك لغيره، وهو الذي قلد اباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر بعقله ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصلح أن يقود العميان. ورغم ذلك فإن هذا العقل لا يمكنه أبداً إدراك الأشياء على حقيقتها إذا حجب الله سبحانه وتعالى عنه أنوار الهداية والتوفيق، فيغدو كالعين الباصرة لا يمكنها إدراك الأشياء إلا عند طلوع النيران، كالشمس ونحوها، فكذلك العقل لا يقدر على إدراك الحقائق دون خطأ إلا إذا طلعت عليه أنوار التوفيق والهداية من الله تعالى.
والعلم علمان علم محمود واخر مذموم، فأما المحمود فهو العلم الذي ترتبط به مصالح الدين والدنيا كالطب والحساب، وكل علم لا يستغنى عنه في قوم من أمر الدين والدنيا كأصول الصنائع والفلاحة والحياكة والسياسة والحجامة. أما العلم المذموم فيؤدي حتماً إلى ضرر إما بصاحبه أو بغيره، كتعليم السحر والطلسمات، فالعلم هو في حقيقة الأمر الغاية من خلق الإنسان نفسه، فالعبادة الصحيحة لا تتأتى عن جهل، ولذلك فإن شرف الإنسان وخاصيته التي يتميز بها عن جميع الموجودات هي العلم وبها كماله.
والعلماء هم ورثة الأنبياء وقد حذرت من أشباه العلماء الذين يتعاطون العلم وهم ليسوا من أهله، فيكون شرهم وبلاؤهم أكبر من نفعهم ؛ لأنهم يبتغون وراء ذلك عرضاً دنيوياً زائلاً ولو على حســــــاب الدين والأخلاق، كالوعاظ الذين يصعدون المنبر إذا لم يكن وراء كلامهم علم نافع وليس مرادهم إلا اكتساب الدينار والدراهم.
لكن العقل وإن بلغ من الشرف والاطلاع على حقائق الأشياء ما بلغ ؛ فثم علوم لا يصل إليها ولا يهتدي إلى الاطلاع عليها إلا بتصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد إليهم، بمعنى أن علوم الأنبياء زائدة على علوم العقل، فوراء العقل طور آخر وأمور أخرى العقل معزول عنها، ولا يصل إليها بنفسه، بل بغيره، ولذلك وجب الإيمان والتصديق بما جاء به هؤلاء الرسل من أحكام وشرائع وعلوم قد لا تدركها العقول والحواس عن طريق العلم العقلي، فالعلوم التي تحل في العقل قسمان: عقلية وشرعية، أما العقلية فنعني بها ما تحكم به غريزة العقل من غير تقليد وسماع، وأما العلوم الشرعية فهي المأخوذة عن الأنبياء وذلك يحصل بالتعلم لكتب الله المنزلة، مثل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وفهم معانيها بعد السماع، وبها يكمل العقل ويسلم من الأمراضوهذا لا يعني أن العلم العقلي يخالف أو يتناقض مع العلم الشرعي، بل العكس لأن جميع أقوال الأنبياء لا تخالف العقول، ولكن فيها ما لا يهتدي العقل إليه أولاً، فإذا هدي إليه عرفه وأذعن له فكان لزاماً التدين والإيمان والإقرار بنبوة هؤلاء الرسل قولاً وعملاً. وأما المكذب للأشياء بعقله عما جاء به الرسل والأنبياء من الأعمال والعبادات فيؤدي إلى الغرور، الهادي صاحبه إلى الاستكبار والتعصب، وهما سبيل الكفر والعناد.
وجملة القول إن الدين عند الله الإسلام، فالدين واحد باتفاق الأنبياء، وإنما اختلفوا في بعض القوانين الجزئية، إذن فلابد من التسامح والأخوة والتواضع ونبذ الكراهية بين جميع المنتسبين للأديان، ولابد للإنسان من الابتكار والاجتهاد وعدم الاقتصار على ما خلَّفه السابقون من التصانيف والتاليف، والنظر إليه على أنه الكمال والمثال والنموذج ؛ لأن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، كما أن تصرفات العقول لا حد لها، ولا يستبعد أن يدخر الله لبعض المتأخرين ما لم يعطه لكثير من المتقدمين، فالعلم في بحر لجي مترامي الأطراف لا تدركه الأبصار ولا تحوطه العقول، يغرف منه المتقدم والمتأخر ولا ينفد.
ولذلك فالخطأ أن يقف المرء عند حدود ما خلفه السلف، والادعاء بأنه منتهى الغاية والكمال. فقول القائل: ما ترك الأول للاخر شيئاً، خطأ، القول الصحيح: كم ترك الأول للآخر شيئاً.
أما بالنسبة للتصنيف والتأليف والكتابة فنجاح الأمر يكمن في إتمام الغرض الذي وضع الكتاب من أجله من غير زيادة ولا نقص، وعدم استخدام اللفظ الغريب لا في الرموز والألغاز، وينبغي أن يكون التصنيف مسوقاً على حسب إدراك أهل الزمن، وعلى قدر ما تصل إليه عقولهم، فالعلم تراث إنساني حق للجميع، الكل فيه شركاء، فالماثر العلمية والعقلية ثمرة جهد إنساني عام، جيل يمضي واخر يأتي، ليضع لبنة في بناء هذا الصرح المعرفي الواسع لتكتمل حلقته ودرته بهذه الأمة.
4 ـ كتاب «المواقف»، وبطلان نسبته للأمير:
ينسب كتاب «المواقف» للأمير عبد القادر بعد وفاته بثمانية وعشرين عاماً، حيث طبع في مصر على نفقة السيدة نبيهة خانم، زوجة محمود باشا الأرناؤوطي، من دون أي دليل على أن للأمير صلة به، سوى الألف واللام التي وضعت على عنوانه «الأمير عبد القادر» فالكتابة كانت بقلم فراج بخيت السيد، والتاريخ كان (1328هـ) والأمير كانت وفاته (1300هـ). ولم يذكر السيد فراج أنه مثلاً نقل ما خطته يداه عن مخطوط للأمير، أو أنه كان يحضر ندواته الفقهية ونقل عنه هذا الموقف أو ذاك، أو أنه استند إلى أوراق وصلته من ورثته مثلاً، لا شيء من هذا البتة، والأدلة كثيرة منها:
ـ الدليل التاريخي وهو الزمن الممتد بين وفاة الأمير عام (1300هـ) وطباعة الكتاب (1328هـ). وكتاب خطير من هذا النوع لابد لمؤلفه من طباعته في حياته، والتأكد من عدم تحريفه بزيادة أو نقصان أو تشويه.
ـ الدليل المنطقي العقلاني العلمي، وهنا لابد لنا من الرجوع إلى علم القياس، فأمامنا كتاب «المقراض الحاد» الذي كتبه الأمير في أمبواز وقدمه إلى القساوسة، فهذا الكتاب أو الرسالة معروف تاريخ كتابتها ومكانها ومناسبتها، وعلى ذلك شهود من أهله وخاصته، وبدأها بقوله: حينما طلب مني شرح معتقداتي الإسلامية أجبت بأنني لا أصلح تلميذاً لعلماء المسلمين، ولكن سأبذل جهدي، وهذا يعني أن الأمير هو صاحب الرسالة ومؤلفها، أما في كتاب المواقف فأول صفحة تبدأ ـ قال سيدنا وملاذنا ..إلخ أي يقال عنه، وهذه ملاحظة تستحق وقفة وتفكيراً وسؤالاً أيضاً لمن قال؟ ومتى؟ وأين؟ وهل هذه الأفكار التي كونت كتاباً من ألف صفحة هل جمعت من أوراق تخص الأمير أم اختزلت أثناء ندواته الفقهية، وخضعت بعد سنوات من وفاته للتنقيح والتحرير بواسطة خطاطين مأجورين، ومن فعل ذلك؟
التساؤلات كثيرة والشكوك كبيرة والجواب العقلاني والعلمي يقول: إن كل ما يناقض فكر الأمير في كتابه «المقراض الحاد» جاء في «المواقف»، فهو تشويش مدسوس، مثال على ذلك ما جاء في الأسطر الأولى من «المواقف» (180) لأنه يناقض ما كتبه الأمير في الباب الأول من «المقراض الحاد» بعنوان الطريق إلى معرفة الله ثم خلق الإنسان ؛ تناقض صارخ، ومثال آخر ما جاء في صفحة (464) من كتاب «المواقف» في تفسير أين المفر في سورة القيامة، يذكر في «المواقف» أن العارف يقول: أين المفر؟ وهذا خطأ يستحيل أن يرتكبه عالم كالأمير عبد القادر، حتى ولا إنسان عادي.
فالاية واضحة وضوح الشمس وتعني الكافر بيوم القيامة وليس العارف قطعاً، فالإنسان العارف لا يقول يومها أين المفر، وإنما الكافر بها، والحديث جاء في السطر الأخير في الصفحة وهو المهم «زدني فيك حيرة» عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما هو من الأحاديث الموضوعة والله أعلم، ولكن الأمير العالم والمتخصص بصحيح البخاري وقد ختمه وهو يحاصر عين ماضي عام (1837م) وكان يدرسه في سجن أمبواز، وأعطى فيه إجازات لعدد من أعيانها.
ـ الدليل الفكري: المعروف عن البخاري شدة حرصه على سلامة الحديث وسنده وصحته، فكيف يخطأئ الأمير وهو من كان يدرس صحيح البخاري إلى أن أقعده المرض وانتقل إلى دار الاخرة، وكان يعلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. فهل يوجد فقيه عالم لا يعلم معنى هذا التحذير؟ ومعروف هذا البيت التالي عن الأمير:
عليك بشرع الله فالزم حدوده فحيثما سار سر وإن وقف قف
وليس كل ما جاء في «المواقف» هو خارج عن فكر الأمير، وعلى الأرجح والله أعلم، أن مجموعة من أوراق هذا المجاهد العالم كان قد كتبها للرد عليها في ندوته الفقهية، أو للاستئناس بها أثناء ذلك، أو ربما كتبها غيره ووجد فيها مغالطات وأراد الرد عليها، كل هذه الأوراق جمعت بطريقة ما ووصلت إلى محمود باشا، وكان يحمل معتقدات خاصة يريد نشرها، ووجد بشخصية الأمير ضالته. وكذلك تلك الأوراق مرتعاً خصباً لذلك جاء في كتاب «المواقف» بهذا الشكل المشوش المتناقض الذي اختلط فيه الأبيض من الأسود.
ـ الدليل التوثيقي العلمي: الذي قدمه خبراء الخطوط، كالأستاذ هشام الغراوي، الخبير الدولي المعتمد في القصر العدلي بدمشق، ثم اللواء عبد المنعم ياسين المعتمد في دوائر الأمن العام بدمشق، وأحمد الأنباري المعتمد من الجامعة السورية، وجميعهم أثبتوا أن جميع الرسائل التي قدمت في كتب كثيرة العدد على أنها بخط الأمير، منها إلى الجمعية الماسونية، ومنها إلى مسؤولين فرنسيين مزورة، وليست بخط الأمير ولا بأسلوبه المعروف.
ـ الدليل العائلي: وهو القرب من النبع فأول عمل يقوم به المحقق الناجح هو الاتصال بأقرب الناس من الهدف والشخصية التي هي مجال عمله، إن كانت زوجه أو أبناء أو أحفاداً أو جيراناً مثلاً أو أصدقاء، ويأخذ بحذر من الأعداء، لكنه يضعهم في دائرة الشك والأحقاد والأغراض السياسية أو الذاتية، فرجل مخابرات معادي للأمير عبد القادر ولشعب الجزائر هل يمكن أن يأخذ منه المحقق معلومة صحيحة؟ أما الإنسان المؤمن الذي يخاف الله ويحذر الوقوع في اثام شهادة الزور التي هي من الكبائر في الشرع الإسلامي، حتى ولو كان ذا قربى، فمثل هذا الإنسان ممكن الوثوق بمعلوماته، لأنها صادرة عنه كأمانة وشهادة حق وعلم بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *}.
5 ـ هل كتب الأمير مذكرات في السجن عام (1851م)؟
وهذه قصة غريبة ملفقة لا أصل لها وأشد غرابة من صدقها، ففي عام (1970م) قدم الكاردينال هنري تيسيه أسقف الجزائر، وجاك شوفالييه الرجل السياسي الذي عاش ودفن في الجزائر، قدم مخطوطاً للمكتبة الوطنية في الجزائر، زاعماً أن ملك قصر أمبواز الجديد وجد هذا المخطوط بين أخشاب قديمة في قبو القصر. فالخلطة العجيبة من المعلومات الصحيحة منها والكاذبة في هذا المخطوط، والأسلوب العشوائي والركيك والكلمات العامية والسوقية في بعض النصوص لا يستحق عناء التمحيص فيما كتب، وبراءة الأمير مما نسب إليه ظلماً وبهتاناً وزوراً.
إن بعض الأوروبيين لم ينسوا في يوم من الأيام عداءهم للإسلام والعرب، لذلك عمد كتَّابهم إلى محاربة أعدائهم بشتى الطرق، ومنها التشويه والتزييف عن طريق الفكر، ومنها تزوير وثائق وتقليد خطوط، إلى نسج مذكرات، وبرعوا بهذا الفن وجعلوا لأنفسهم أعواناً، حتى من أبناء أمتنا.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com