من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
مغادرة الأمير فرنسا إلى الدولة العثمانية
الحلقة: الخامسة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
سارت قافلة المهاجرين الأبطال في هدأة الليل من حصن أمبواز في طريقها إلى مرسيليا في الثامن والعشرين من شهر (صفر سنة 1269هـ/1853م). وعند وصول القافلة إلى مشارف مدينة ليون شوهد مئات من الجند بلباسهم الرسمي، يمثلون فرقاً من الجيش بتشكيل النظام المنضم، وأطلقت إحدى وعشرين طلقة تحية للمغادرين، وحصل مثل ذلك الاحتفال الرسمي للقافلة في مرسيليا أيضاً، فأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة قبل صعودهم البارجة الحربية التي أبحرت بهم نحو جزيرة صقلية، وبعد فترة من الزمن لاحت الجزيرة عن بعد كزمردة خضراء لامعة تحت أشعة الشمس الصباحية الحانية وزرقة السماء الصافية، وكان حاكم المدينة قد نظم استقبالاً حافلاً لائقاً وينطوي على كل احترام وتعظيم، وبعد استراحة قصيرة تقدم من الأمير عارضاً القيام برحلة لمن يريد في أرجاء الجزيرة، وكان عدد من العربات في انتظارهم، وتجولوا في صقلية، وشاهدوا الاثار الإسلامية التي تشهد على تاريخ هذه الجزيرة العربية الإسلامية، وبين أمجاد هذا التاريخ الغابر، وهدير الأمواج كانت تغلق نفوسهم الحزينة هذه الذكريات الموجعات، وما أشبه أيامهم الحاضرة بالأمس البعيد، وصعد الأمير مع حاكم صقلية إلى جبل «أتنا» وعند مغادرته ترك رسالة شكر، عبّر فيها عن مشاعره بالعبارات التالية:
شاهدنا في كل مكان اثار الشعوب التي سكنت هذه الجزيرة، هذه المشاهد دفعتنا إلى التفكير بالله وأنه في الحقيقة سيد الكون، وأنه يعطي الأرض لمن يشاء، إن جبل النار هو بلا شك أحد روائع العالم، وعند تأمل السهول المزروعة والمأهولة من قمة هذا الجبل نفكر بقول الحكيم العربي حول جلاء العرب عن صقلية:
إن تفكيري فيك يا سهول صقلية من ارتفاعات «أتانا» يؤدي إلى يأسي، لو لم تكن دموعي مالحة لشكلت أنهاراً لهذه الجزيرة جزيرة المجد، إن من سكن الفردوس ليتمكن من وصف روائع صقلية.
وقبل ركوب الأمير ومن معه أمواج البحر في الباخرة قدّم سيدي الطيب بن المختار قصيدة إلى ابن عمه الأمير عبد القادر نقتطف منها هذه الأبيات:
هذي صقلية لاحت معالمها تجر تيهاً فضول الريط من أمم
كانت منار هدى كانت محط ردى كانت شموس الفضل والكرم
هذي منازلهم تبكي ماثرهم بكاء طرف قريح بات لم ينم
هذي المساجد قد دكت قواعدها هذي الماذن بالناقوس في سقم
هذه المحاريب قد عاد الصليب بها هذي منابرها قفرى من الحكم
إذا رأت مسلماً قد زارها فرحت واستبشرت ثم باست موضع القدم
انظر لأرجائها تلقَ العجائب بها قد أعلنت بسرور غير مكتتم
كيف لا وحسام الدين حلّ بها فخر الأكابر من عرب ومن عجم
عبد القادر عز الإمارة ورونقها بحر السماحة كم أسدى من النّعم
تابعت الباخرة طريقها تمخر عباب البحر، ورست في ميناء الإستانة «إسطنبول» يوم الجمعة في شهر كانون أول عام (1853م)، وكان أول عمل قام به الأمير هو زيادة ضريح أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وأبو أيوب الأنصاري كانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور القسطنطينية، أثناء حصارها في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولما مرض قال لمن معه من المجاهدين: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صادفتم العدو فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة». ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا والله لئن نُبش لا ضُرب بناقوس في بلاد العرب، وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية ؛ فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة التي أفضت إليهم. وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله ؛ الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة، وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة، كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين، واعتبروا ضيافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر مآثره.
وقد ترك أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل على تعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم، وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيداً عليه بعد مماته وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق.
وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم، وهذا شيخ الإسلام أسعد أفندي يشير إشارة لامحة إلى موقعه بقوله:
شهد المشاهد جاهداً ومجاهداً ومكابداً بحروبه ما كابدا
حتى أتى بصلابة ومهابة في آخر الغزوات هذا المشهدا
قد مات مبطوناً غريباً غازياً فغدا شهيداً قبل أن يستشهدا
وكان من الطبيعي أن يبدأ أول زياراته في إسطنبول من ضريح أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، الذي كان ملهماً بسيرته لكثير من الأبطال والمجاهدين عبر العصور والدهور، وبعد زيارة الأمير عبد القادر ضريح أبي أيوب الأنصاري زار جامع أيا صوفيا، وبعد استراحة عدة أيام في سراي حكومية خصصت لهم، قام بزيارة السلطان عبد المجيد خان الذي رحب به بحرارة بالغة، وأثنى على جهاده العظيم ضد المستعمرين، وعرض عليه عدداً من المدن ليختار إحداها لإقامته الدائمة فاختار مدينة بورصة، لما سمعه عن جمالها وجمال الطبيعة فيها، وعذوبة مياهها ومناخها اللطيف.
وكان خليل باشا صهر السلطان ووالي بورصة في استقبال موكب الأمير ومن معه من المهاجرين عند مدخل المدينة، ومعه أعيان البلد ورجالاتها المرموقون فكانوا جميعاً على مشارفها، وسار الموكب على طريق ترابي بين أشجار السنديان والبلوط وأشجار التوت، في اتجاه الأمكنة التي أعدت لهم بالأمر السلطاني في بورصة أجمل تلك المناطق، وبعد أن استقر بهم المقام انضم إليهم الحاج عبد القادر بوكيخية والعلامة الحاج محمد الخروبي القليعي، وكان كاتباً لدى الأمير وخليفة على إيالة صطيف، والعالم قدور بن رويلة، وغيرهم، وجميع هؤلاء كانوا أسرى أطلق سراحهم المستعمرون الفرنسيون بعد وصول الأمير إلى بورصة، فوجدوا لديه الملاذ والحمى والصدر الرحب، ومن أجلهم اشترى الأمير مزرعة واسعة تسمى «جليك» في ضواحي المدينة وأمر ببناء دور لسكناهم، وأشرف على بنائها الجميل مهندسون من دار الخلافة.
وكان الجميع يداومون على حسن مجالسة الأمير، وكان يصلي بهم الصلوات الخمس في الجامع المعروف بجامع العرب. وقد شرح لهم في هذا الجامع كتب الكودي والسنوسية وصحيح البخاري والمذاهب الأربعة. وكان يكثر من الصدقات ويكرم المحتاجين، فأخذ العلماء وأصحاب الحاجة يقصدونه من كافة بلاد العالم الإسلامي، نذكر منهم الشيخ يوسف بدر الدين المغربي العلامة الشهير الذي كان يشكو من محنة دهماء لم يجد لها حلاً، وبينما كان في غمرة اليأس والبؤس طاف به خاطر ألهمه صبراً وأحيا في نفسه أملاً
ومحنته كانت في غفلة من الزمن، حيث استولى أحد الأجانب المقيمين في دمشق، وكان يدعى «يانكو»، على دار تابعة لمدرسة الحديث النورية في دمشق، وتطاول إلى الزاوية الغربية من المسجد وضمها إليه، ولم يكتف بذلك الاعتداء بل عمد إلى إنشاء معمل ومستودع للخمور فيها. فثار المسلمون وعلى رأسهم العلامة الشيخ يوسف الذي قدم شكوى إلى الوالي العثماني، فأهملت الشكوى على الرغم من الملاحقة المضنية، فاضطر إلى السفر إلى دار الخلافة في إسطنبول مستغيثاً، لكنه لم يجد هنا أذناً صاغية، وبعد أن بذل جهوداً مضنية والكثير من المال حصل على «فرمان» من الباب العالي، ولكن في دمشق أهمل الوالي الأمر السلطاني، وشعر هذا العالم الجليل بالإحباط والظلم فقرر الهجرة إلى المدينة المنورة وفجأة لاحت له بارقة أمل: لماذا لا يقوم بمقابلة الأمير عبد القادر أولاً؟ وشد الرحال إلى بورصة وكان سعيداً بالاجتماع بالأمير، فشكا له أمر تلك الدار التي كانت مقصد رجال الدين والعلماء وأئمة المسلمين، ومنهم الإمام النووي، وحدثه عن تاريخ هذه البقعة المقدسة التي شرفتها قدم المرسلين صلى الله عليه وسلم
فجاشت نفس الأمير بمشاعر النخوة والحمية، وأرسل فوراً يطلب هذا الرومي، ولما حضر فاوضه على بيع المكان المذكور بأكمله، ودفع له الثمن نقداً كما طلب، وانتهت المشكلة وجعل هذا العقار وقفاً شرعياً باسم العلامة يوسف بدر الدين، ومن بعده لذريته بحجة شرعية بتاريخ الثاني من جمادى الأولى عام (1272هـ)، ثم أمر بترميم الدار والمسجد على نفقته، وعندما فرغ من إصلاحهما كتب إلى الشيخ يوسف رسالة، يرجوه فيها أن يأتي ليسكن هذه الدار فسكنها وتسلم المدرسة في أول يوم من شهر (رجب 1274هـ)
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com