(مقابلة الملك محمد الخامس لممثلي جبهة التحرير)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 323
بقلم: د.علي محمد الصلابي
صفر ١٤٤٤ه/ سبتمبر ٢٠٢٢م
في يوم السادس من شهر فيفري 1957م تقابل الملك محمد الخامس مع وفد من جبهة التحرير الجزائرية في مدريد فحضروا حفل استقبال الملك محمد الخامس، وكان برئاسة أحمد توفيق المدني، وسلموا عليه سلاماً حاراً أسرع من البرق، وفي اليوم الثاني عند الساعة الخامسة كان اللقاء الخاص بين وفد جبهة التحرير والملك ومرافقيه، وكان الصحفيون في الردهة يسجلون ويصورون كل داخل، فذكرت كل الصحف الفرنسية نبأ تلك المقابلة، وقالت صحيفة باريسية مشهورة: إن الملك قد استقبل وفداً من جبهة التحرير الجزائرية «يرأسه توفيق المدني الذي هو من أمهر المناضلين عن القضية الجزائرية».
وبعد حديث ونقاش وحوار قال لهم الملك: إنه مهما كانت الظروف فهو مع الجزائر وشعبها وثورتها يقف وقفة المجاهد لا وقفة المؤيد، وإن سلاح الثورة يتجول في المغرب بكل حرية، وإن المعاملة بين الجزائريين وبين المغاربة تقع باستمرار على بساط المحبة والوئام، وإنه مستعد لإمدادنا إذا لزم الأمر بشيء تكونوا في مسيس الحاجة إليه. وخرجوا من عنده وكأنهم خرجوا من حضرة ولي حميم وأخ كريم.(1)
وبعد ذلك سافر أحمد توفيق المدني ومن معه إلى المغرب بعد طلب من عبد الحفيظ بوالصوف، وتردي العلاقة بين ثوار الجزائر بالمغرب وبعض المسؤولين المغاربة، حيث أن المخابرات الفرنسية زرعت مجموعة من الجزائريين لإشاعة الشائعات المغرضة، ويتعمدون إشاعتها في الأوساط التي تمس من قريب حزب الاستقلال والمقاومة والقصر، وكانوا يشيعون أن الجبهة تعمل لفائدة الشيوعية مما عكّر الجو وتلبدت الغيوم.
والتقى أحمد توفيق بالمسؤولين الجزائريين وممثل الجبهة السيد محمد خير الدين، والذي قدم خدمات جليلة للجبهة في المغرب وجهوداً خارقة للعادة في ذلك السبيل، ويشهد الجميع أنه لولا حنكته ولولا سلوكه السياسي الحكيم، لخرجت القضية عن نطاقها السياسي ولاتسعت شقة الخلاف على كل الراقعين.
وتم اللقاء بين أحمد توفيق والإخوة المغاربة عند الشهيد المهدي بن بركة، وكان يومئذ روح حزب الاستقلال وكان قوته المحركة، وحضر الاجتماع سادة أبرار أحرار مثل الفقيه غازي، رجل الدين القوي ورجل السياسة المتين، وعمر ابن عبد الجليل المقاوم وبقية من رجال الاستقلال ورجال المقاومة.
وبعد تناول الطعام افتتح الحديث والجماعة تنصت، كأن كل طيور الدنيا حطت فوق رأسها، فذكر الكدر الذي يسود العلاقات بين إخوة كان عليهم أن يتضامنوا في الكفاح وأن يشتركوا في الجهاد، وذكر أحمد توفيق المدني: بعض أمثلة على ذلك، ورجا أن لا يخرجوا من اجتماعهم إلا متضامنين عاملين اليد في اليد من أجل خير الجزائر واستقلالها ووحدة المغرب العربي.
قال المهدي بن بركة متكلماً باسم الجماعة: يا أخ توفيق إن علاقتنا بك قديمة ترجع إلى عهد الكفاح الأول، ولا تنسى ولا ينسى أحد ما قمت به من واجب النضال عن المغرب واستقلاله وملكه الزعيم، إلى أن زالت الغمة وانفرجت الأزمة، والان نكلمك بما تعرف عنا من صراحة ومن ضرب الهدف في الصميم.
يوجد بيننا خلاف فعلاً، حول المقاصد وحول الأهداف، وهذا الخلاف يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، سببه الأساسي أننا نسمع من الكثير من الجزائريين، بل من بعض مسؤوليهم هنا ما يفيدنا أن الجبهة تسير في طريق شيوعي، وتعمل لفائدة الشيوعية، وأن انتصارها هو انتصار للمبادأئ الهدامة التي تقوض ديننا، وتقوض نظامنا، وتقضي على وحدتنا، وقد خاطبنا الشيخ خير الدين في الأمر، فكذبه ونفاه وقال: لو أن الأمر كان كذلك لما انضمت جمعية العلماء للجبهة، ولما كان هو عاملاً على رأس الجماعة بالمغرب، إنما نحن خاطبنا بعض المسؤولين الاخرين، فمنهم من قال لنا: ليس هذا وقت المذاكرة في مثل هذه الأمور، ومنهم من أكد لنا أن الجزائريين سيقولون كلمتهم في النهاية بعد الاستقلال وسيختارون لأنفسهم ما يريدون، وأنت ترى ولا ريب أنه يصعب علينا جداً، بل يكاد يستحيل أن نعمل على مساعدة حركة ليست لها أهداف واضحة.
انفجرتُ انفجاراً ثورياً، وكأنني فنبرة ألهب فتيلها فتكلمت بحماس وإيمان، وكنت أثناء كلامي خطيباً لا متحدثاً، ومما قلت: إنني أقبل كل شيء، وأتكلم عن كل شيء ؛ إلا أننا نتهم في ديننا، وفي أهدافنا المقررة المرسومة، وفي مبادئنا التي أعلناها مراراً على الناس، وما لكم يا إخواني تسمعون كلام زيد من الناس، وعمرو من الناس، وفيكم مثل هذا الزيد ومثل هذا العمرو، ولا ترجعون لقادة ثورتهم كأنهم يسكنون الزهرة أو المريخ ولا ترجعون لتلاوة بياناتها، وتصريحاتها الرسمية؟
أقولها لكم مرة أخيرة وأرجو أن تسمعوا لها جيداً: إن ثورتنا إسلامية مطهرة، وإن شعبنا من أعمق شعوب الأرض إيماناً وإسلاماً، وإن جيش التحرير يعتبر نفسه مجاهداً في سبيل الله، من مات منه شهيداً فقد وصل إلى الله جل شأنه من أقرب طريق، لسنا شيوعيين ولا نكون شيوعيين، ولن تتغلغل الشيوعية بين صفوفنا كيفما كان الحال، ومهما تطور الأمر، ثم وأنتم الطبقة المفكرة الواعية في البلاد وعندكم حزب شيوعي، لا يستهان به، ألا تعرفون موقف الحزب الشيوعي منا؟ ألا تعرفون مقاومته لنا؟ ألا تعرفون أن الشيوعيين لم ينضموا إلى الجبهة، ولن ينضموا لها.
وأقول بحضور أخي الدكتور محمد أمين الدباغين، والحاضر معي هنا، إننا لا نعمل إلا في دائرة الإسلام والعروبة، ووحدة المغرب العربي، وفي سبيل حرية الأمم واستقلالها قاطبة، وأؤكد لكم رسمياً وعلناً وسجلوا على قولي هذا، وسجلوه على أخي المرافق لي: إن الجزائر في جهادها، وفي استقلالها، لن تتخلى إطلاقاً أبداً عن إسلامها وعروبتها ووحدتها، وإن الله سينصرها النصر الذي وعد به المجاهدين الصابرين، وطوبى لمن كان معها ساعة الشدة، وويل لمن وقف في سبيلها أو اعترض طريقها. يا دكتور أمين الدباغين: أتصادق على ما قلتُ؟ قال: والله ما قلتَ إلا حقاً، هذا هو مبدأنا الذي عليه نحيا وعليه نموت.
تكلم الفقيه الغازي بعد حديثي الطويل وقال: والله لقد كانت فرصة حسنة لنسمعك مرة أخرى بعد خطابك يوم فدالة بالرباط، وأنا أقول أنني امنت واقتنعت وزال عني كل ريب.
وتكلم ابن عبد الجليل المفضل بمثل ذلك، وتكلم ممثل المقاومة الشعبية وأجاد، وبعد أن تداول القوم الحديث ونحن نسمع، قال المرحوم ابن بركة متأثراً: أؤكد لكما أنه لم يبق لنا أي خلاف معكم حول المبادأئ والأهداف، وإننا سنخبر كل رفقائنا بهذا والحمد لله، وخرجنا وكانت الساعة السادسة مساء.(2)
ـ مقابلة الملك ودعم سخي لشراء السلاح:
قال أحمد توفيق المدني: في نفس ذلك اليوم جاءنا رسول من القصر يقول: إن جلالة الملك يرجو مقابلتكم اليوم في منتصف الليل بالقصر.
وبعد أن اجتمعنا ببقية أصحابنا محمد خير الدين والمبروك ومن معهما، قال لي المبروك وخير الدين: توجد في مرفأ طنجة سفينة تحمل سلاحاً جيداً وذخيرة حية وهي مهربة يريد صاحبها بيعها، وليس لنا من النقود ما يكفي لابتياعها، وإن تركناها نكن قد خسرنا كثيراً، فاغتنم فرصة مقابلتك لجلالة الملك وأخبره بالأمر واطلب مساعدته، فلعل الله يمهد الأسباب.
وبعد اللقاء بالملك: تكلم الملك بصوت خافت، مرحباً بنا ترحيباً أخوياً صادقاً، وقال: لقد أطلعني الإخوان الذين اجتمعتم بهم على كلامكم معهم، وأعلموني أنهم امنوا به واقتنعوا، فبارك الله فيكم، وأؤكد لكما ما كنت قلته لك بمدريد، من أن المغرب كله لا فرق بين حاكم ومحكوم، مشارك لكم في جهادكم إلى نهايته المشرفة، وإن كانت بعض الشكوك سببها تصريحات وأعمال طائشة، ساورت أنفس بعض رجالنا قد قشعتم سحبها بارك الله فيكما.
قال أحمد توفيق المدني: يا جلالة الملك!. إننا لم نشك إطلاقاً في عونكم وفي شدّكم لأزرنا، وما كنا نتوقع أن يشك بعض الإخوان من ذوي المكانة عندكم في أهدافنا وفي حقيقة اتجاهنا، والحمد لله أن زال كل ذلك، وقد جاء في القران بمناسبة حديث الإفك قوله تعالى:{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [سورة النور:11]، قال: هو خير إن شاء الله.
حدثته عن السفينة الراسية بطنجة، وما فيها من خير كثير، وحاجتنا الأكيدة إليها ثم أردفت: من دلائل الخير أن نجتمع بجلالتكم الان لنسألكم مد يد المساعدة القوية لإخواننا العاملين مع «المبروك» حتى يتسنى لهم إتمام الصفقة، وماتنفقوا من خير تجدوه عند الله هو خيراً.
قال الملك في شبه ابتسامة: لا أرد لك رجاء. ليتصل بي الأخ المبروك بوسيلته المعروفة وأنا أكمل له الثمن المطلوب، اشتراكاً مني خاصاً في الجهاد، وقد برّ بوعده قدس الله روحه، وكان اشتراكاً ضخماً شكرناه وخرجنا من عنده.(3)
مراجع الحلقة الثالثة والعشرون بعد الثلاثمائة
(1) أحمد توفيق المدني، حياة كفاح (3/424).
(2) حياة كفاح (3/426، 427).
(3) حياة كفاح (3/429).
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: