من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج1)
(اتهام الأمير عبد القادر بالإنتساب للماسونية)
الحلقة: الرابعة والستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020
اتَّهم الأمير عبد القادر بأنه تعاطف مع الماسونيين ثم انتسب إلى محافلهم، وقد روّج لهذه الدعاية الكولونيل وليام تشرشل، صاحب كتاب «حياة عبد القادر»، ولم ينقل بأمانة الكثير مما ذكره له الأمير عبد القادر من صفاء ووضوح تاريخه، ثم نقل عن وليام تشرشل هذه الفرية، وأذاعها من العرب جرجي زيدان ومن سار على نهجه الملتوي والمخادع، وبجرة قلم أعلنت الحركة الماسونية بعد وفاة الأمير عبد القادر في (26 ماي سنة 1883م) أنه انتسب إليهم واحتفوا به ونعَوْه، ولكنهم لم يجدوا دليلاً واحداً يقدمونه لإثبات ما روجوا له، وزعموا أن هناك نصوصاً ماسونية موثقة تثبت انتماء الأمير للحركة الماسونية، وأنه كلف من طرف الحكومة الفرنسية بمهمات إنقاذية للمسيحيين في الأحداث الدامية التي وقعت في دمشق، في شهر جويلية من العام (1860م)، فقدر نابليون الثالث هذه المبادرة، وقلد الأمير وسام الشرف الفرنسي، وأرسل للأمير ما يسمى بالجوهرة، أو الرمز المعدني عرفاناً للأمير بجهوده.
والحقيقة التاريخية تقول إن الأمير عبد القادر لم يكن يوماً ماسونياً، ولا خادماً لفرنسا وقنصلها في دمشق، والمبادرة التي قام بها الأمير كانت خالصة لوجه الله تعالى، ولم تكن لدنيا يصيبها أو وسام يبتغيه.
وأما بالنسبة للمحافل الماسونية، مثل محفل هنري الرابع، الذي أرسل إلى الأمير في (16 سبتمبر 1860م) كتابات شكر وتقدير، واعتراف للأمير في عدة رسائل أخرى بالحب للإنسانية جمعاء والأخلاق الحميدة، واقترح عليه أن يكون عضواً في الماسونية، دون أن يكون عضواً مكرساً ؛ لأنه من الرجال العظماء، فهذا ثابت تاريخياً ولا جدال فيه.
لكن من يستطيع أن يمنع أحداً من الكتابة للغير وأن يشكره ويقترح عليه أموراً قد يراها بصدق أو بنية مبيتة تناسب قدر من اقترحت عليه ويقدم له هدية، والأمير ليس له ذنب إذا حاولت المحافل الماسونية في كتاباتها ومحافلها أن تستفيد من اسمه، وتكذب عليه، محاولة من خلال هذا الإفك والكذب والزور والبهتان أن تنشر أفكارها الهدامة في المجتمعات العربية والإسلامية بالمشرق.
لقد نسبوا إلى الأمير مقولة بأنه لم يلمس في المبادئ الماسونية ما يتعارض وشريعة القرآن الكريم والسنة والفقه الإسلامي، وهذا من الافتراء والكذب المبين.
لقد حاولت الحركة الماسونية فعل كل ما في وسعها لتجعل الأمير عبد القادر أحد المنتسبين إليها ولكنها لم تفلح، وكل ما ذكر في تاريخهم عن الأمير مثل الأسئلة عن واجبات الإنسان تجاه الله وتجاه الإنسانية، أو الأسئلة حول خلود النفس والمساواة والإخاء والحرية، أو حضوره في محفل الأهرام في الإسكندرية أثناء عودته من الحجاز في (18 جوان 1864م)، أو في محفل هنري الرابع للشرق الكبير الفرنسي في (30 أوت 1865م)، وقصة التكريس والامتياز والدرجات الماسونية الثلاثة وغيرها من أكاذيب ؛ فلا أصل لها وهي من نسج خيالهم.
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [الحجرات : 6].
لقد حاول تشرشل ومن سار على طريقته، من أمثال جرجي زيدان وغيره، ربط الأمير عبد القادر بالمحافل الماسونية، ولكنهم عجزوا عن تقديم الدليل مما يبطل هذا الخبر المزعوم من أساسه.
ـ ألا يرى معي القارأئ أن هدف هذه الكذبة هو أوسع مما يدركه الإنسان للوهلة الأولى، ويعني الدعاية لهذه الجمعية في الجزائر بصورة خاصة، وفي العالم الإسلامي؟ فهذا المجاهد هو رمز كفاح أمة، وقدوة لعدد كبير من أبناء الشعب الجزائري والشعوب الحرة.
ـ هذه الكذبة أليست من فنون الدعاية البراقة التي تحتاجها الجمعية، رأس الهرم فيها مجهول دوماً، وهي متعددة الشعارات والألوان، وفي نظامها الداخلي الغموض والطاعة العمياء لرأس الهرم، وربما لرؤوس لا تشجع الالتزام بالدين، بل تعتبره عدوها الأزلي؟ وهذا المبدأ غير سري فيها.
ففي عام (1858م) فتح في تونس محفل لأطفال قرطاجة برئاسة أنطونيو فينا، وعدد من المحافل جاءت من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، ومحفل «المثابرة» برئاسة بامبيو، ولكن بعد استقلال تونس أمرت الدولة بإحراق وثائق المحافل وإغلاقها.
وفي الجزائر كانت المحافل الماسونية سرية جداً ولم يعلن عنها، وعرفت من وثائقها أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما أمرت حكومة فيشي بحل الجمعيات السرية ومصادرة وثائقها، فعرف أن محفل أطفال مارس سكيكدة فتح عام (1814م) سراً، ومقره عام (1926م) في شارع يوغرطة برئاسة ألبيرت أوبارتين، وبولاية قسنطينة محفل «نجمة الساحل» عرف عام (1901م) في بجاية، ومحفل «أخوة كلاماً» في قالمة، الذي كان يحث في جميع محاضراته العلنية على الطاعة والعمل على تحقيق مجتمع إنساني متضامن حر بعيد عن الله وعن الدين، ثم محفل «سرتا» في قسنطينة ولا يعرف تاريخ لتأسيسه، وشعاره عين الإنسان تحتها مثلث وسطه نجمة خماسية ومطرقة، وفي هذه المدينة يوجد محفل «هبوبة» عرف عام (1900م).
ويذكر الباحث الأستاذ يوسف مناصريه أن في الجزائر محافل أخرى منتشرة في الشرق الجزائري ومناطق القبائل في بيجاية وغيرها، ومنها محفل «الوفاق الطائفي» بسطيف، ومحفل «جون جوريس» ومحفل «نوميديا» بسوق الأهراس، ويذكر الباحث أن غاية هذه المحافل هي الوحدة، والهدف منها منع تعليم أبناء المسلمين اللغة العربية والقران في المدارس والكتاتيب، بطرق سرية للغاية، ولكن المعلن كان محاربة الأديان بشكل عام، وسحق هذه الأديان وإزالة رجالها من طريق الماسونية العالمية.
وكان القصد من إشاعة أن الأمير عبد القادر كان من أعضائها هو انتشار هذه الفرية أو هذا الخبر الكاذب في الجزائر، بعد ترجمة كتاب تشرشل إلى الفرنسية، والدليل أنه في عام (1901م) افتتح عدد من المحافل في الجزائر بشكل علني، ولم يبق سريا، منها مثلاً «محفل أطفال مارس بسكيكدة» تحت رئاسة «ألبير أوبارتين»، وكما يذكر الباحث الجزائري يوسف مناصريه في مجلة الدراسات التاريخية في العدد السادس (1992م) في بحث له ودراسة عن المحافل الماسونية في كل من بجاية وكالمة وقسنطينة وعنابة، وغيرها من المدن الجزائرية كما أسلفت.
ـ من المعروف عن هذه المحافل أنها لا تشجع على الالتزام بالأديان ولا تناصرها، وهذا الأمر لم تنتبه إليه حكومة فيشي في البداية، ولكن أدركته لاحقاً الحكومات التي جاءت بعدها ؛ لأنه يخدم الأهداف الاستعمارية في الجزائر، بالقضاء على الدين الإسلامي بالدرجة الأولى، والبعد عن لغة القرآن في نفس الدرجة، وبالدرجة الثانية ساعد على انتشار أفكار ومبادئ، كحركة فكرية بديلاً عن الإسلام، وحاولت أن تزرع في أذهان أبناء الوطن من أطفال وشباب ومثقفين «الإلحاد»، وهي حركة فكرية لا تعترف بوجود الله الذي يعبده المسلمون.
ـ ألا يرى معي القارأئ الكريم أن هذا الأسلوب في الدعاية وجد نجاحاً إلى حد ما في الجزائر؟ فالمواطن العادي أو المثقف حينما سمع أن رمز كفاح بلاده انتسب إلى هذه الجمعية، من المسلَّم به أنه لن يجد غضاضة في انتسابه إليها فلو أن هذه المحافل في الجزائر لم تجد من ينتسب إليها، لأغلقت محافلها وعادت أدراجها، ولكنها وجدت على ما يبدو إقبالاً عليها، وكيف لا تقتدي برمز كفاحها؟ ولكنها لو علمت هذه الجموع من أبناء الشعب أن هذا الخبر كاذب، وأنه من مزاعم مستشرق بريطاني، مزاعم تصب في مجرى تناقضاته في كتابه «حياة عبد القادر» ؛ لا نفضت عن هذه المحافل، كما حدث مع حفيد هذا المجاهد الأمير سعيد الذي أغرته شعارات هذه الجمعية في البداية، وظن أن جده انتسب إليها، فانتسب إليها، ولكنه اكتشف بعد فترة أن جده لم يكن يوماً من أعضائها ولم ينتسب إليها، فنفى تلك التهمة في الصحف والمجلات، وقام بنفي معلومة كاذبة، ذكرت عن جده، فنشر في صحف ذلك العصر نقداً لأعضاء هذه الجمعية في لجوئهم إلى الأكاذيب وذكرهم لأسماء شخصيات لم تنتسب إليها قط، ومن هذه الصحف «الحقائق» عام (1933م) .
ـ إن كل الرسائل التي جاءت من المحافل الماسونية من رسائل التقدير والاحترام بمناسبة إنقاذه خمسة عشر ألف مسيحي في دمشق، والقضاء على الفتنة الطائفية ؛ تبين حقيقة واضحة، هي عدم وجود أي نص أو إشارة في الرسائل المذكورة يُفهم منها أن المُرسل إليه كان عضواً من أعضائها، فلا يوجد فيها ما يدل أو ما يُفهم منه أن المرسل إليه عضو من أعضائها، أو أن له أية علاقة بها، أو أنه انتخب عضو شرف فيها، كما جاء في رُقم الجمعيات الأخرى فوافق على ذلك.
ففي عام (1860م) أرسلت الجمعية الفرنسية المعروفة باسم «جمعية عمل الخير وإعانة المصابين في البر والبحر» كتاباً بمناسبة دفاعه عن المسيحيين في الشام، جاء فيها:
إن جمعية المصابين المؤلفة من أعيان الأمصار ووجوه المدن الشهيرة في فرنسا اتفقت كلمتها على أن يكون الأمير عبد القادر رئيس شرف لها، اعترافاً بما أبداه من أعمال الخير الجسيمة في سوريا سنة (1860م). وبناء على ذلك بعثت إليه بهذه الرقيم في («يونيو» حزيران 1862م). وفعلت مثل ذلك الجمعية الأمريكية الشرقية، فقرر مجلس إدارتها اعتبار الأمير عبد القادر عضو شرف فيها، وأرسلت إليه رقيماً في (1860م). وكذلك جمعية حماية المدن في فرنسا. وفي تلك المناسبة ذاتها وصلت الأمير مئات من رسائل التقدير والأوسمة الرفيعة من حكام العالم وزعمائه ومفكريه ..إلخ.
ـ ومن المؤكد أن هذه الرسائل والرُقم والهدايا قد اطلع عليها أبناء الأمير العشرة وبناته الستة وأزواجهن وأولاد إخوته، وكان من بين هذه الأشياء كتب التقدير هذه المومأ إليها من هذه المحافل ؛ التي انتهزت فيما بعد فرصة وجود الأمير في مصر في تشرين ثان من عام (1869م) عندما دعا إسماعيل باشا، خديوي مصر، الأمير عبد القادر لحضور حفل افتتاح قناة السويس، فتوجه الأمير إلى بيروت ومنها إلى الإسكندرية، حيث اجتمع بأباطرة فرنسا والنمسا وألمانيا وملك إيطاليا، وعلى متن بارجة حربية وصلوا إلى ميناء بورسعيد لحضور ذلك الاحتفال التاريخي الكبير، وفي تلك المناسبة زاره في مقرّ إقامته عدد كبير من الشخصيات العالمية وكبار رجال الفكر ومندوبو بعض الجمعيات الخيرية، كالجمعية الفرنسية، وأوفدت إليه هيئة من أعضائها شرحت له مبادئ الماسونية وخدمتها للإنسانية، ولكن الأمير أبداً لم يدخل فيها ولم يدع إليه، وهو رجل العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي الخلفاء الراشدين، والحافظ للقران، وصحيح البخاري، والمتعمق في كتب السلف، وإنما كانت دعوته إلى الإسلام كما بينا ذلك في كتابه «المقراض الحاد»، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *} [فصلت : 33].
إن بعض المنتمين إلى هذه الجمعية اتخذوا بعد وفاته من تلك الزيارة ذريعة نسبوا للأمير دخوله في جمعيتهم دون أن يتوفر لهم أي دليل.
لقد عمدت هذه الجمعية الغامضة إلى ذكر انتساب شخصيات تاريخية كبيرة إليها كدعاية ووسيلة لانتشارها، وكان ذلك يتم بعد وفاتهم، كما فعل المؤرخ البريطاني هنري شرشل فذكر في الفصل الأخير من كتابه خبراً وهمياً عن انخراط الأمير في هذه الجمعية، ومن المعروف أن شرشل كتب هذا الفصل «أي الرابع والعشرون» من كتابه المذكور بعد مغادرته دمشق ؛ التي كانت قبل حوادث (1860م) أي قبل الفتنة بعدة أشهر، وكتب الفصول الأخيرة من كتابه في إنجلترا ومنها الفصل الأخير أي «الفصل الرابع والعشرون» كما ذكرت.
وقد اعترف شرشل بهذا في مقدمة كتابه المذكور حين قال إنه غادر دمشق في شهر (شوال 1276هـ/ربيع 1860م) وأن المعلومات عن الفترة الزمنية الممتدة بين (1860م) إلى (1864م)، أي الفترة التي كتب في أثنائها هذا الخبر قد أخذها عن شهود عيان، من جماعة منتمية إلى هذه الجمعية، وهذا يقلل من أهمية وصحة الفصل المذكور، فلم يذكر المؤلف أسماء شهود العيان، أو أي دليل بهذا الخصوص. وهذا أكبر برهان على كذب هذا الادعاء إذ لا يوجد أي مستند، ولم يعثر على أي دليل مادي بين أوراق الأمير عبد القادر على صحة هذا الخبر، ولو كان لدى الجمعية أي دليل لأظهرته للصحفي شرشل التابع للمخابرات البريطانية، أو لمن يريد الكتابة في هذا الموضوع.
ـ إن الأمير عبد القادر رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وعاش حياته منفذاً لأحكام الإسلام. ولا يمكن للأمير أن ينخرط في جمعية غامضة من هذا النوع لكي يعمل الخير بواسطتها ؛ يقول جرجي زيدان إن الأمير كان منتسباً إلى الجمعية الماسونية عام (1864م).
إن هذه الأقوال كذب وافتراء واختلاق ما لها من دليل ولا برهان، لم يستطع هو ومن سار في هذا النفق المظلم أن يأتي بدليل واحد على صحة أقوالهم.
إن هذا المسلك الخبيث ضد الأمير عبد القادر محاولة فاشلة لتشويه جهاده وسيرته المجيدة. فالمستهدف هو ما يمثله من قيم دينية ومثل وطنية وأخلاق ربانية ومبادئ إيمانية ومواقف إسلامية، فالأمير عبد القادر رمز للشعب الجزائري وللأمة الإسلامية والشعوب الحرة التي تسعى لنيل حقوقها وحريتها وكرامتها.
إن حياته صفحة بيضاء ناصعة، نقية وطاهرة، واتهاماتهم الباطلة تتساقط أمام الحقائق الراسخة وتتلاشى أمام الحجج الدامغة، وتذهب جفاء ؛ لأنها زبد، وسيرته العطرة تبقى نبراساً وقدوة وأسوة لأنها تنفع الناس، إن أعداء الأمة الإسلامية حرصوا على تشويه حتى سير الأنبياء والافتراء على تاريخهم، وقد عانى من ذلك أيضاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة رضي الله عنه، ولم يسلم أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم من الطعن والافتراء والتشويه.
إن كل الذين ادعوا انتساب الأمير عبد القادر إلى هذه الجمعية لم يقدموا أي دليل مادي أو مستند وثائقي يثبت صحة ادعائهم، ومنهم من يعتذر خشية الإطالة عن عدم تقديم الأدلة أو الوثائق، ويكتفي بإبراز صورة الأمير عبد القادر المعروفة وهو يرتدي الأوسمة التي وصلته من ملوك ورؤساء العالم، وعلى صدره وشاح الفروسية الأحمر ؛ الذي أهداه إياه ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل، مع الوسام الذي جاءه بمناسبة إنقاذ أرواح خمسة عشر ألف مسيحي في الفتنة المشهورة، وهذا من دون أي تعليق سوى عدم الرغبة في الإطالة. والحقيقة أن هذه الحجة هي أيضاً باطلة، لأنه لو توافرت الوثيقة مهما كانت لما أحجموا عن ذكرها، والحقيقة أنه لا يوجد أي مستند سوى أقوال تدخل في باب «القيل والقال»، نقلاً عن مصدر بريطاني، بقصد الدعاية لهذه الجمعية وخدمة غايات استعمارية مكشوفة.
فكثير من المستشرقين كانوا يقدمون خدمات قيِّمة لبلادهم تشجعهم عليها حكوماتهم لأغراض استعمارية غير خافية، ولكن مما يؤلم أن نرى أكاذيبهم وقد تناقلتها أقلام مؤلفين من أبناء أمتنا وكأنهم أفعى ظفرت بصيد ثمين.
لم يكلف أحد من المؤرخين الذين نسبوا للأمير انتسابه إلى هذه الجمعية نفسه عناء البحث والتمحيص، فذكروا ما ذكروه نقلاً لا تحقيقاً وبحثاً، من دون أن يقدموا مستندات أو حقائق علمية عما جاؤوا به
ـ ومن الأدلة الدامغة التي أوردها الدكتور فؤاد صالح السيد مقال للأمير سعيد، حفيد الأمير، فيه نفي صريح وشديد وتبرئة للأمير عبد القادر مما نسب إليه في هذا الموضوع، ومما جاء في نص الأمير سعيد في مجلة الحقائق في سنة (1869م):
دُعي الأمير عبد القادر مع من دُعي من ملوك لحضور احتفالات فتح ترعة السويس، وبينما الأمير عائد لسوريا عن طريق الإسكندرية، اغتنمت الجمعية الماسونية فرصة وجوده في ذلك القطر، فأوفدت إليه هيئة من أعضائها، تكلمت أمامه عن مبادئ الماسونية وخدمتها للإنسانية، فأثنى الأمير على ما ادّعته من خدمات للإنسانية. فاتخذ بعض المنتمين لهذه الجمعية من هذه الزيارة إشاعة حسنة لدخول الأمير في جمعيتهم، وبالتأكيد هذا الزعم باطل، ولا يليق هذا بالجمعية، فهو كذب وبهتان، ومن المعلوم أن جمعية الماسون لها نظام كسائر الجمعيات في العالم، ولا يدخل أحد بها إلا بطلب رسمي يسجل على أنه دخل بإرادته، فأين طلب الأمير الذي يجب أن يطبع على حجر كما جاء في نظامها المعروف؟
ـ وفي هذا العصر ألف أحد الكتاب الفرنسيين مع اثنين جزائريين كتاباً وضُع فيه ثلاث أو أربع رسائل زُعم أنها من الأمير إلى الجمعية، قُلدّ فيها خط الأمير وزوّر توقيعه، مع العلم أن تقليد خط الأمير عبد القادر من قبل الفرنسيين وغيرهم أصبح من استراتيجيتهم التي غايتها خدمة أهدافهم، ولقد فضح الدكتور صالح الخرفي عام (1971م) في مجلة الثقافة الجزائرية في عددها الرابع هذه المؤامرة القديمة على فكر الأمير عبد القادر، وذكر الدكتور من أسماء من برعوا في هذا الفن، فن تقليد خط الأمير، منهم هنري بيريس و شيربونو، الذي كان في الجزائر الوصي على اللغة العربية وتقليد أنواع خطوطها قبل استقلال الجزائر.
إن اتهامات الأمير عبد القادر بالانتساب إلى الماسونية تتهاوى أمام البحث العلمي ولا وجود لها في حقائق التاريخ، وإنما تدخل ضمن الحرب الاستخباراتية في تشويه رموز النضال والكفاح والجهاد في هذه الأمة، ويأبى الله إلا أن تظهر الحقيقة بأنوارها، لتزيل ظلام البهتان والأكاذيب الشيطانية.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي: