الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(مناورات الجنرال ديغول)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 374

بقلم: د.علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1444 ه/ ديسمبر 2022م

 

استطاعت الظاهرة الديغولية أن يعمَّ مفعولها السيكولوجي مختلف أنحاء الجزائر، ابتداء من الثالث عشر من ماي سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، فالدعاية الاستعمارية استطاعت في ظرف قصير جداً أن تثبت في أذهان المواطنين الجزائريين عظمة الجنرال ديغول وقدرته على تسوية المشكل الجزائري، واستعداده لتحقيق السلام في ربوع البلاد، ولم ينج من تأثير هذه الغاية حتى بعض كبار المسؤولين في جبهة التحرير الوطني وفي التنسيق والتنفيذ بالذات.

إن الجنرال ديغول يعدّ من أعظم الرؤساء الذين عرفتهم فرنسا ما في ذلك شك، وعظمته هي بالضبط ما يكذب الدعاية الاستعمارية المذكورة، وقد أورد هو نفسه في مذكراته ما يدعم هذا القول، فعندما توقف طويلاً عند المسألة الجزائرية مؤكداً: رجالاً تاريخيين أمثال دويرمون، وبيجو، وكلوزيل، وهم الذين بذلوا جهوداً جبارة من أجل إلحاق الجزائر بفرنسا، وليس من المعقول أن تضيع هذه المستعمرة في عهد حكومتنا.

لأجل ذلك فكر وقدر ثم وضع بنفسه خطة للقضاء على الثورة ترتكز على دعائم أساسية هي:

ـ التنمية الاقتصادية قصد تشغيل المواطنين وعزلهم عن جبهة التحرير الوطني، وقد وظف لذلك أرصدة مالية كبيرة في إطار ما يسمى بمشروع قسنطينة، الذي أعلن عن ميلاده والشروع في تجسيده يوم الثالث من شهرأكتوبر سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف.

ـ إيهام الرأي الفرنسي والعالمي بالجنوح إلى السلم، قصد الحد من الانتصارات التي حققتها وتحققها جبهة التحرير الوطني في حظيرة الأمم المتحدة ولدى منظمات الجمهورية المختلفة.

ففي هذا الإطار أعلن في اليوم الرابع من أكتوبر في نفس السنة أنه يأمر العسكريين بمغادرة لجان السلامة العامة، وفي اليوم الثالث والعشرين من ذات الشهر عرض على جيش التحرير الوطني ما يسمى بسلام الشجعان.

ـ إعادة تنظيم الجيش وتزويده بأحدث أنواع الأسلحة مع أمره بتكثيف العمليات العسكرية الهجومية، وبهذا الصدد استدعى الجنرال «صالان» إلى باريس، واستبدله في اليوم الثاني من شهر ديسمبر بالجنرال شال، كقائد عام للقوات المسلحة، وبول دولوفريبي كمندوب عام لفرنسا في الجزائر.

وإذا كان الجنرال ديغول في العلانية يبدي نفس الاهتمام بالدعائم الثلاث المذكورة؛ فإنه في الواقع كان يراهن فقط على الدعامة الثالثة، معتقداً أن الاستراتيجية الجديدة التي بشر بها الجنرال شال قادرة على إنهاء الثورة في أجل قريب.

وبالفعل لقد وضع تحت تصرف قائد القوات المسلحة الجديد إمكانيات ضخمة في المجالين المادي والبشري، ولمساعدته تمّ تعيين وترقية مجموعة من الجنرالات والعقداء الذين تخرجوا من المدارس العسكرية العليا، أو الذين اكتسبوا في الميدان خبرة واسعة في حرب الفيتنام وفي الجزائر نفسها.

ولم تكن استراتيجية شال مجرد حبر على ورق، بل إن كل المصادر تؤكد على أن كل العمليات العسكرية التي انطلقت مع بداية العام الجديد قد شكلت خطراً كبيراً على جبهة التحرير الوطني، خاصة في الولايتين الثالثة والرابعة(1).

إن هذه العمليات قد تواصلت إلى غاية عام ستين وتسعمائة وألف، ملحقة أضراراً بالمدنيين، وخسائر بجيش التحرير الوطني لم يعرف لما مثيل لا من قبل ولا من بعد، وهو الأمر الذي جعل فرحات عباس يقول في كتابه «تشريح حرب»:

إن الجزائر لم تعرف ثقل الحرب مثل ما عرفت ذلك في عهد الجنرال ديغول، لكن على الرغم من كل هذه الجهود، فإن الجنرال شال لم يحقق الانتصارات العسكرية التي طلبها منه رئيس الدولة الفرنسية، الذي اضطره الواقع إلى الحل المبني على التفاوض، وهو الحل الذي شرع في تطبيقه منذ 16/5/1959م، عندما صرح ـ باسم فرنسا ـ أنه يعترف للشعب الجزائري بحقه في تقرير مصيره.

ولم يلجأ الجنرال ديغول إلى تقرير المصير، إلا عندما تأكد بنفسه أن مخطط شال استهلك، ولم يعد قادراً على التوصيل، بسبب المقاومة غير المنتظرة التي أبدتها وحدات جيش التحرير الوطني، التي عرفت كيف تتكيف مع الوضع الجديد من جهة، ونتيجة ظهور معارضة شديدة للمخطط المذكور في صفوف الضباط السامين في الجيش الفرنسي نفسه من جهة ثانية.

فمن المعلوم أن شال أسس مخططه على النتائج المستخلصة من تجريد الجيش الاستعماري في الهند الصينية، محاولاً توظيف أساليب الحرب الثورية، والدعاية النفسية التي طبقها «ماوتسي تونغ»، لكنه لم يأخذ في الاعتبار شيئاً أساسياً، هو أن تلك الأساليب الثورية والدعاية النفسية ما كنت لتنجح في تقويض أركان الاستعمار الفرنسي بالهند الصينية لولا نبل الهدف المقصود، وطبيعة التيار التحريري، وتفاعل الشعب مع قيادته، كلها عوامل لا يمكن للجنرال شال أن يتوفر عليها لإنجاز مخططه، الذي لم يكن مصيره أحسن من مصير مخطط الجنرال نافار في الهند الصينية(2).

 

مراجع الحلقة الرابعة و السبعون بعد الثلاثمائة:

(1) تاريخ الجزائر المعاصر، د . محمد العربي الزبيري (2/176).

(2) المصدر نفسه (2/178).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022